يأتيني في مساءاتي بعد أن تسكن الأحياء، ألتقط خشخشة أقدامه، أشم رائحته، ليست رائحة الولد الصغير الذي كنت ألقمه صدري، وتختلط رائحتنا، ولا الولد الذي يستحي من عرقه، أو رغبته في ملابسه الداخلية وأنا أبتسم: ابنك كبر.
كانت تلك الرائحة التي صفعت وجهي، وهم يفتحون الصندوق، ويحاولون إبعادي عنه، يخرس لساني بينما تصرخ خلاياي، وتجثم الحسرة على روحي فلا أستطيع حراكا، يتسرب دمي قطرة.. قطرة، ويحتل الحزن أوردتي.. جسده ممدد بملابسه، ورائحة الدم الصدئة تنبعث من رقبته التي يتخثر عليها الدم ويمنع مزيدا منه، وبجوار ذراعه الأيمن رأسه وحيدا، وعيناه مسدلتان لا تريدان أن ترى حاله، والغدر الذي أطار رأسه، وأبقى له وجها اختلطت تفاصيله، فلا تتبين منه غير الوجع والأنين.
سأظل أنا أسأل: لماذا؟ وهل كان يمكنني منعه من السفر؟
– فرصة يا ماما إني أغطي حدث مهم بالشكل ده. المنطقة بتتغير، وكنا فاكرين أكتوبر آخر الحروب، صدام بيحمي العرب من المد الثوري الإسلامي.
تتدخل راوية – المد الإسلامي مش هيوقفه شيء.
– يا ماما أنا مش رايح للحرب، المراسلين مكانهم في الصفوف الخلفية.
لم أسأله ساعتها :ما علاقتك أنت بالحروب ؟ وأنت الذي تكتب عن الرحلات والسياحة وتسافر لتكتب عن عجائب البلاد.. جزر المالديف المرجانية، هاواي بلاد الرمال البيضاء، جزر سنتوسافي، سيشل، جالابجوس.. ومن كل بلد ترسل لي صورا ..أسماك الببغاء، الدرافيل.
– متقلقيش، هأعود.
وتعود….
تأتيني خطواته، أشعر بها، ومن بابي الموارب، يدخل هيكله حاملا رأسه على يده، فلا أفزع، وهل تخاف أم من ابنها؟!.. آخذه من يده، وأربت على عظامه الشاحبة يمد لي يده برأسه، أضعها في حجري، وأقبل أنامله الباردة، ينهمر حزني، يتساقط وجعي، فتنبت أصابعك، يداك، ذراعاك، كتفك، وتعود يا صغيري لي، كما كنت أجففك قبل أن تذهب إلى المدرسة، قبل أن تستحي مني وترفض أن أحممك، لكن دمك المتخثر يعود على رقبتك، وتشير إلى رأسك المقطوع، فأربت عليها وأحكي لها حكاياتي القديمة.. هل تذكر الفأر الذي قال لصاحبه:
“إن من الحيلة أن تذهب أنت أيها الظبي، حتى تكون في طريق القانص، فتربض كأنك جريح مثبت، ويقع الغراب عليك كأنه يأكل منك وأتبعه فأكون قريبا منه؛ فإني أرجو، لو نظر إليك، أن يضع ما معه من قوسه ونشابه ويترك السلحفاة ويسعى إليك؛ فإذا هو دنا منك ففر منه متظالعا حتى لا ينقطع طمعه فيك، وأمكنه مرارا حتى يدنو إليك، ثم امدد به على هذا النحو ما استطعت؛ فإني أرجو ألا ينصرف إلا وقد قطعت الحبل عن السلحفاة وخلصتها. ففعل الظبي ذلك هو والغراب، فأتبعه القانص طويلا ثم انصرف وقد قطع الجرذ وثاق السلحفاة، ونجون جميعا. فلما رأى ذلك القانص ورأى حباله مقطوعة، وفكر في أمر الظبي المتظالع، والغراب الواقع عليه كأنه يأكل منه وليس يأكل، وتقريض حباله قبل ذلك عن الظبي. فاستوحش وقال: إن هذه إلا أرض سحرة أو جن. فانصرف مذعورا موليا لا يلتمس شيئا ولا يلتفت إليه. واجتمع الغراب والظبي والجرذ والسلحفاة إلى عرائشهن آمنات.
وأقرأ عليك قول الفيلسوف للملك:
فإذا كان هذا الخلق على صغره، وضعفه قد قدر على التخلص من مرابط التهلكة، مرة بعد أخرى بمودته، وخلوصها وثبات قلبه عليها، واستمتاعه مع أصحابه، فالإنسان الذي قد أعطي العقل والفهم وأُلهم الخير والشر، ومنح التمييز والمعرفة أولى وأحرى بالتواصل والتعاضد.
فيعود شعرك الجعد وفتحات رأسك الواضحة، وتفتح عينيك وأضع رأسك على جسدك، تقبل يدي، وأضمك إلى صدري الجاف، فأشعر بدبيب اللبن يسري في عروقي، تحيطك عيناي، ترقصان حولك. تحكي لي عما لم تكتب في خطاباتك، وأظل أستمع إليك، ويمتد الليل بيننا، أعوض أيام غربتك، وقبل أن ينتشر ضوء الفجر، تنبهني لموعدك، لا أريدك أن ترحل، لكنك ستعود، وعلى ضوء شمعتي أراك، ومع ازدياد الضوء تتلاشى حيويتك، وتتيبس أطرافك فأبكي، لكنك تربت على كتفي، وأشعر بك تشفق على أم عجوز شاب شعرها، تفتح باب الشرفة وتخرج، فأسرع خلفك، ألمحك على الطريق، نفس الطريق وقد اختفت رأسك وانثنى ذراعك، وأينما تحط قدمك، تشيع في الأرض الخضرة، وتنبت بين الشقوق ورود شقائق النعمان الحمراء. وعندما تأتي أختك لتوقظني تسألني أمي ما هذه الرائحة؟
كنت أحتاج إليه ولم يخذلني.. جاء، ربما متأخرا شهرا أو اثنين، لكن في حدود الأمان وقبل أن أقلق وأتربص بنفسي، وتسألني الشغالات عن حالي، وهل انقطعت الدورة الشهرية أم لا؟ وإن كان التساؤل في العيون لم تنطق به الشفاه. جاء والأوفق أنه جاء ولدا. طوال حياتي كنت أتمنى أن تكون لي بنت أعلمها ما لم أتعلمه، وترتدي ما فصلته في أحلامي من فساتين.. لكني دعوت في أعماقي وأنا أتوحم ولا يثبت في معدتي شيء، أو ربما أمنت على دعاء “فاطمة”:
- يا رب ولد.
وعندما بشرتني “رحيل” وهي تنظر إلى بطني المستطيل المرتفع، فرحت. هل كان ذلك حقيقيا أم أن أمنياتي منذ دخلت السرايا أصبحت مصاغة بطابعها الرصين، الحامي لكل ما يتبقى في الذاكرة من ماض. وربما أصبحت أستكين لأرواح أصحابها، أصواتهم، خطواتهم. في الليل تزداد حركتهم، يشغلون كل الغرف في الدور الأرضي، أسمع هسيسهم، أتفاعل معهم، يزعجني نحيب أحزانهم، ويهدهد روحي فرحهم.
في أيامي الأخيرة يغيب عن موعده، أشتاق لقدومه أخرج إلى شرفتي، أراه على الطريق، يلف حول السرايا، لكنه لا يدخلها، يذهب ويجيء مهموما.
أناديه فلا يسمعني ويظل يدور حتى تشرق الشمس، فيعود من حيث أتى ما الذي يفزعه، سأذهب إليه، أفتح سحارتي، أخرج وريقاتي الصغيرة، أعد قائمة الطعام الذي يحب، ولا أنسى “فؤاد” ربما كان غاضبا مني وأوصى “منير” أن يبلغني، أجهز بيدي كل الأطعمة.. ماكرونة بالباشمل، شوربة لسان العصفور، صينية رقاق، دجاج بالصلصة، مسقعة…
قاربت الشمس على الغروب، وعليَّ أن أعد هذه الأصناف، في أي يوم نحن ؟ لماذا لا تنتبه “راوية” لشئوني؟ أين “النتيجة”؟ أشعر أنه يوم الخميس، لقد تأخرت.
هل اشترت”فاطمة” الخضروات؟ لم تعد تزرعها، الشراء أوفر، لن تكف عن ترديد ذلك، لكنهم لن يتحملوا الطعم الماسخ للخضار الذي نشتريه من السوق، فأين ذهبت “فاطمة”؟
أستعد قبل “العزومة” بليلة، أجهز عجين الخبز البيتي، هاهو رغيف الخميرة
يجعل خميرتك سكّرك وكل من داقك يشكرك.
ياعجين لوف لوف زي مالا فت النعجه ع الخروف
ياعجين لوف لوف زي مالافت الحنه ع الكفوف
ياعالم ما فيه.. إظهر ما فيه
من عفيشه ومن نفيشه وبركتِك تظهر فيه ياست نفيسه
واحدة من البنات تكمل العجن، لا تنسي فص الثوم في العجين لامتصاص الحموضة، استريه برشة دقيق على وجهه، غطيه بهذه القماشة البيضاء حتى الصباح.
الدقة الموجودة لدينا لا تكفي، أحمص السمسم، الكمون، الكسبرة، الفول السوداني، أطحنهم، أضيف الزعتر والنعناع مع قليل من الملح.
تتابعين الجديد من الوصفات:
“تقطع الدجاجة الواحدة أربع قطع، نحتاج إلى خمس دجاجات، تجهز التتبيلة، يخلط زيت الزيتون، وملعقتان عصير ليمون ويقطع قرني فلفل أحمر حار، بصلة مفرومة، ملعقة من الأعشاب العطرية النعناع، الريحان، الملح، البهار، الملح، الفلفل الكمون. ينقع الدجاج ليلة كاملة، في الصباح تكون قد تشربت الخلطة، يلف كل جزء في ورقة الفويل وترص في صينية، وتدخل الفرن.”
تضيفين أصنافا جديدة للقائمة:
“البط المنقوع في عصير العنب والمطهي بالبرتقال والزنجبيل والعسل، اللحم المتبل بالزبادي والمضاف له حبات الزيتون وصلصة الطماطم قبل تمام النضج.”
“الكسكي المغربي المطهي بالبخار والمسقي بالمرق والزبدة ومزين بالزبيب وجوز الهند والكوسة والجزر والفلفل الأخضر وقطع اللحم المطهية بالكاري.”
أرسل “فاطمة” لتشتري علبة مشكل كبيرة جوزية، لديدة، بسبوسة، كنافة، ملبن أحمر بالمكسرات، وكل أنواع الفاكهة الموجودة لدى الفاكهانية. وأوصيها
- يا فاطمة متتأخريش عن الضهر، الصواني محتاجه رص.
وبعد أن أنتهي من تجهيز الطعام بمعاونة البنات الصغيرات اللاتي توافدن بعد أن أخبرتهن “فاطمة” أن العزومة اليوم، أقود الموكب والبنات يحملن الطعام على صوان، يتجمع الأولاد حولنا، وأمام قبره وكعادتي أوزع عليهم الأكل، يتجمع الشحاذون وأولياء الله، يمضي الوقت ولا تظهر الذبابة الخضراء التي تبلغني سلامه ورضاه عما أحضرت، تتجمع سحب المساء في عيني، أطلب من فاطمة أن تحمل الأواني وتعود، أستحلفها بالله إن كانت ردت سائلا اليوم
– أبدا يا ستي.
أطلب أن تتركني وحدي
- ياستي الليل هجم وأخاف عليك.
- ما تخافيش أنا معاهم في أمان.
وأعود من نفس الطريق كاسفة البال.
أسابيع، شهور، حتى رأيته للمرة الأولى على شاشة التلفزيون، في نشرة الأخبار وجنود يسحلونه على الأرض، ويشدونه من قدميه، والرعب يأكل وجهه، وأنا أصرخ فيهم: اتركوه، فيمضون بعيدا دون اكتراث، أتابع كل النشرات ولا يمر يوم دون أن أراه، منكفئا على آلامه وحيدا، معزولا، لا يريد أن يقترب من السرايا.
ما أراه على الشاشة ليس حلما، أنا أعرف أحلامي التي لا أتوقف فيها عن النزف والولادة، أنتظر أجنتي الشهور التسعة، فتأتي مسدودة الفتحات، كتلة صماء دامية، كوز من اللحم المعجون بالدماء، تتدلي منه أطراف أربعة. أكره البولبييف واللانشون والبسطرمة، وأهرب من أية مائدة توضع عليها هذه الأطباق.
حبيبة: لم تعرفي هذا المعنى إلا عندما جذبتني ورويت لي:
يا جدتي تسحبني أمي إلى غرفتي، الغرفة إضاءتها صفراء لا أدري مصدرها، هواء الغرفة ثقيل به رائحة عفن، عطن مكتوم. تشير أمي لأدراج أربعة، متوجسة أفتح أحدها، تصدمني أجزاء آدمية ملفوفة بشاش أبيض، تأمرني عيناها بفتح الدرج الثاني، نفس اللفة، والرائحة العفنة تتزايد، تحضر أمي صينية، وتبدأ في تخريط البصل وتقطيع الطماطم، ترمي لي بالبطاطس، أقشرها، أصرخ طوال الوقت، وأمي لا شيء يوقفها، أسرعي كي نجهز الغداء، يمتلئ فمي بما في معدتي، تمسكني من ياقتي تمنعني من التخلص من عفني، تنهرني، تفتح الدرج الثالث، دجاجة مذبوحة ومنتوفة الريش، تأخذ في تقطيعها، أتوسل إليها أن تتركني أخرج من الغرفة، ترفض، وتشير إلى سلكين ممتدين، أحدهما أبيض مغبر والآخر أحمر، تقيد يدي بالسلك، وتجلس إلى جواري ورائحة العفن تزداد، تمتد بساطورها اللامع إلى رقبتي، وتنفسها المنتظم يتصاعد…
فسري لي يا جدتي.
يا حبيبتي حلم واحد جاء إليك، جعلك لا تأكلين الدجاج، فأي حلم جعلك تهربين؟ وأنا التي أقعدتني أحلامي ومحاولات تفسيرها عن التحرك للأمام أو الانتباه لما حولي.
تتجمع أجنتي على النهر، تلتف حول فتاة أعرفها ولا أذكرها، أحس حركتها أكثر مما أراها، كالراقصات اللاتي ترسمينهن، تسير على الماء، وهم يتبعونها، تصيح بي، أراني غير منتبهة، أحاول إيقاظي من غفلتي داخل حلمي فلا أستيقظ، بصرها يمتد بعيدا ولا تشعر بما حولها، هي لن تستيقظ أعرف هذا. يزداد هدوء الماء، ويتحول إلى سطح لوح زجاج هش يمتد إلى الأبد، يتشقق اللوح الزجاجي تحت خطوات الصغار، يتكسر، يلتهم الماء أقدامهم البضة.
تلتفت السيدة التي تجلس في الشرفة، يقترب وجهها مني، لماذا تتطابق ملامحنا؟ من منا في الحلم ومن يشاهده؟ يستغيث الأطفال، تشير البنت التي أعرفها ولا أذكرها إلى ضفيرتي، التفتت واحدة منا ومدت ضفيرتها.
يتسلق الصغار الضفيرة الممتدة من رأسك إلى الأرض، يقفون في طابور لا ترينه، يحجبه عنك أرض شرفتك المنبسطة في العراء، تشعرين بتسلقهم من الثقل الماثل في ضفيرتك. وفي الأجواء يتردد زئير أسد ليس من هذه الأنحاء. وتظلين تنتظرين عاما خلف عام لكنهم لا يصعدون، بينما يخف ثقل ضفيرتك، وتستطيعين جذب طرفها الآخر المشبع بالدم. فهل تملكين جرأة أن تلفيها حول عنقك؟ أو حتى على الأقل تتسلقينها، وتعرفي ما الذي يحدث في الأسفل حيث لا ترين؟ وأنت التي سعيت للمعرفة بضوء شمعة من شحم يدها، واكتفيت بالتساؤل وشجرة صفصاف جديدة تنمو أمام شرفتك وتلملم أطرافها كلما استطالت.. أي سر تخفيه أشجار الصفصاف فتلملم شعورها الدقيقة وورقاتها اللينة الطرية المنمنمة والصغيرة، وتنكفئ دائما منحنية على الماء أي حنين يجذبها للماء ؟! هل كانت يوما عروسا من النهر، وأغراها البر ثم صدمتها حماقاته، فجلست على الشاطئ تبكي مآلها، وتحن إلى أصلها، وتستكين إلى حواف الماء، أم أنها مثقلة بحكايات الذين يسندون ظهرهم إليها، ولم يتحمل طبعها الرقيق وأوراقها اللدنة عذاباتهم. الإجابة التي أراوغ في معرفتها، لا تتطلب مني أكثر من نظرة إلى حيث تمتد جذور الصفصاف داخل بيتي.
من منا ينقذ من؟
هل يجب عليَّ أن أعترف بأن ما ظللت أجمعه لك، هو الذي جعلك تهربين.
سنوات وأنا أجمع لك أشياء خاصة حميمة، فنجان قهوة، سوار، زجاجة عطر، منديل مشغول عليه اسمي بخط الثلث، صورة لي، مسبحة حباتها من الكهرمان الأحمر و رؤوسها محاطة بنقوش من الفضة، مفارش من الدانتيلا، الجرائد والمجلات التي تركتها لي “الياصابات”، أشياء اختمرت برائحتي، أشياء تصحبك في رحلتك وتسندك، وتحكين عنها لصديقاتك، تسند ظهرك وتقوي جذورك بالأرض، ويمكنك أن تضيفي إليها وتهدينها إلى ابنتك وحفيدتك.
فإذا بك في خطابك الأخير تقولين: انظري حولك يا جدتي تعرفين لماذا سافرت، وانتويت ما فعلت، أعيدي الحكاية يا جدة، وتأملي فيها الممالك التي تهدم، والقلاع التي تسقط، والسجون والوحشة والوحدة كلها عناصر لقصة ختامها ما فعلت.
أحاول تذكر الحكاية.. لا أجد غير صوت أبي يناديني: ابن بيتا.
أسرع إليه، أجري بين أعواد الذرة، الظلمة الغامقة الخضرة تحاصرني، لزوجة طحلب استقر على بركة آسنة، وامتص ماءها، ويقاوم فناءه بالتفتت إلى آلاف القطع الصغيرة المترامية الأطراف التي تلتصق بوجهي، أنزعها، تجرحني أرميها بعيدا، فإذا هى ترتد أذرعا مستطيلة من أعواد الذرة الوبرية ذات الأطراف الحادة، وريقات الذرة طويلة ملتوية كحية تطاردني طوال الوقت، ولا ترضى بأقل من موتي، فيفرز الخط الأصفر الوميض الفاصل بين نصفيها سائلا مُرا، ينفذ من مسامي، يقبض شراييني، فأكاد أسقط والأوراق الخضراء تزداد كثافة وبرها، أجري ويطاردني صوت حريق يلهث خلفي، ويشعله احتكاكات الهواء بعيدان الذرة، وطائر لا أراه يصيح: قاق، قاق، والأرض الممتلئة بالبصل والمغطاة بالقش تنتظرني بعيدا، حيث يجرب أبي حظه في التجارة وتخزين البصل للمرة الأخيرة. مكدودة ومجروحة أصل إليه، رغم أن الطريق الأساسي لم يكن به ما يعوق مسيري.
لماذا عبرت من حقل الذرة ؟هل خفت الشمس الحارقة؟ أو ربما أبعدني عن الطريق خوفي من العجوز التي انقلب دقيقها، وتطلب من أية فتاة تمر بها أن تجمع لها الدقيق الواقع على الأرض، وبعد أن تجمعه الفتاة حفنة، حفنة، وتمتلئ “القفه”، تصرخ العجوز في وجهها: هذا ليس دقيقي، دقيقي أبيض كالفل، وهذا دقيق مترب. ولا تسمح لها بالعبور بل تظل تصيح في وجهها: أريد دقيقي، والعابرة الشابة حائرة حتى يشيب كل شعرها وتسقط مغشيا عليها. وفي كل صباح يجد العابرون عجوزا جديدة تنتظر من تجمع لها دقيقها المسكوب.
بعد عمر أخرج من الأرض إلى الطريق الموازي للنهر. أجده في انتظاري، يمسك أبي بيدي ويشير للجزيرة الممتدة في عمق النهر، يردد:
ابني بيتا. ابني بيتا.
يتمدد الرجل العجوز على الأرض، جلده رقيق، لونه الأبيض صار غامقا، وعروق رأسه الزرقاء نافرة، وشعيرات بيضاء تتناثر في رأسه الذي أحمر جلده من السخونة.
يحتضنه الطمي فيغوص جسده النحيل فيه، وأنا أصرخ: أبي أبي لكني لا أسمع صوتي، فقط صدى صوت أبي يردد.. ابني بيتا.
أتلفت حولي، أضغط بقدمي، الجزيرة طينية هل يمكنها أن تتحمل ضغط البيت؟ أخرج من الجزيرة، وعلى حافتها أشرع في البناء، أكوم التراب من الطرقات، أعجنه، أرفع الجدران، وعندما أنتهي لا أجد لبيتي بابا، فأجلس على عتبته وظهري للداخل، أسند رأسي لحائط، وفي منامي أجلس على كنبتنا المغطاة بالكليم الأحمر، أتطلع للشمس التي تغيب، تفوتني صلاة العصر، تغيب الشمس أكثر، فتفوتني صلاة المغرب يؤذن لصلاة العشاء فأنوي تعويض ما فاتني، أتهيأ للصلاة، وجهي للقبلة ويدي اليمنى تعلو يدي اليسرى على صدري وبالضبط على “كورنيش” سفرة جلبابي اللبني، أبدأ في قراءة الفاتحة، ينشق الحائط ويقف على يميني عملاق يرتدي سروالا أسود عليه بلوفر صوفي من نفس اللون، ترتفع بداية البلوفر فوق رأسي بكثير، أستعيذ في صلاتي بالله من الشيطان الرجيم، يصعد المارد لأعلى، وتتهاوى الجدران تحت ثقل نور غامر يغشى كل الجهات الأربع، ويمتلئ الكون بسكون، تضطرب له نفسي، وعندما جاء الصباح كانت يد أبي في يد “البيه” يقرآن الفاتحة.
أستيقظ فزعة، تدغدني الأرواح الساكنة في تراب البيت، تتشاجر، تتصايح وتدفع بعضها البعض، يضغط صياحهم على الجدران اللبنية، التي لم تر الشمس بعد، يهتز بيتي ويتردد في نواحيه صدى الأصوات المجتمعة، يهرم بيتي الطفل، يتشقق، يتهاوى، ينصحني أحد السائرين، فأجمع تراب الطرقات، التراب الناعم، أخلطه بالماء، أدعكه تسير فيه حرارتي، يتجانس، أسد الشقوق، أملأ الفراغات، أساوي جدرانه، أرجوهم ألا يستيقظوا، يتلألأ عرقي، أمسحه بكفي وأمسح كفي في الحائط فتنغلق المسام الطينية، وتهدأ الروح في موضع كفي، وكلما عرقت مسدت جدراني بعرقي، حتى بذلت له كل العرق، لكن بيتي المبني من الطوب النيئ المعجون بخطوات السائرين الأبديين، الذين لا يعودون حين تغرب الشمس إلا لأحزانهم فيغلقون باب القلب، وينسون مفتاحه خوفا من حزن جديد، لا تسكن جدرانه، وتعود دوما تلفظ ما مسدت، والشمس المعلقة أمام واجهته الخلفية تراوغني، لا تريد أن تنزل للنهر، فيطول صيامي، والراديو لا يثبت مؤشره عند أذان المغرب، وتظل المائدة مبسوطة أمامي، لا أقرب طعامها، تمر الساعات، لا ليست ساعات، فالشمس مازالت معلقة، لكن رفة رموشي تخبرني أن شيئا يمر، وإن لم اسمه، أنشغل بانتظاري حتى يغلبني النوم، ربما؟ أقل من رمشتين لكنهما كافيتان لتنزلق الشمس في إحداهما إلى النهر وتعبره للشاطئ الأخر، وفي النصف الثاني من الرمشة الثانية، ينبلج الخيط الأبيض من الأسود، فأستيقظ على صوت الأذان، أصرخ لم أفطر حتى أصوم، فيرد على الشيخ “عبد الجواد”: الله أكبر.
وتفتقدين رمضان، كما تفتقدين في الأسابيع الفائتة يوم السبت، وتنزلق عقارب ساعتك عن الساعة الثامنة، ويغيب عنك الشيخ “عبد الباسط عبد الصمد”، ويضيع منك صوته القوي كصهيل حصان بري يأخذك إلى مريم البتول ومحرابها ورزقها الذي يأتيها بين يدها طيبا مباركا، فلا يبدأ أسبوعك أبدا، ويأخذ وقتك خطا مستقيما لا ينتهي، وتفقد الأيام دائريتها، وتنهار عقارب ساعتك، فيؤذيك سمها.
بينما صوت أبي يردد ابني بيتا.
No comments:
Post a Comment