Tuesday, August 28, 2007

التحديق في الموت

التحديق في الموت - 3
جابر عصفور الحياة - 29/08/07//
لا غرابة في أن يقترن حلم الانبعاث بنقيضه، في دورة الفصول، أو ثنائية الحياة التي تنتصر على الموت، في سياق جدارية محمود درويش التي يؤدي فيها التحديق في الموت، على المستوى الرمزي، إلى الحضور المتكرر لأسطورة البعث، ويحدث ذلك حين يبرز جلجامش، أولاً، قريناً لانتصار الحياة على الموت، حيث التوازي الدال بين عبوره ماء الموت سالماً، والإبداع الذي ينتصر على الموت، في مدى المشابهة التي لا تدنس بطرفيها إلى حال من الاتحاد، لكن التي لا تمنع تجاوب الدلالة بين ولادة القصيدة وانبعاث آلهة الولادة الجديدة، خصوصاً حين ينحل لغز الموت بواسطة إبداع الأنا التي تغدو شبيهة أوديب الذي قهر الوحش بحل اللغز، وشبيهة إنكيدو الذي صار أكثر حزناً لأنه صار أكثر معرفة، وكان ذلك بعد أن أدرك أن «قمة الإنسان الهاوية»، وأن الهاوية بداية الصعود.
هكذا، يتحول سقوط الوحش في إنكيدو، بفعل غواية شمخت، إلى قيامة للإنسان، فيزداد حزن الأنا الشاعرة التي تتقمص جلجامش، وتنطق باسمه، لأنها لم تفهم إنكيدو الكامن وراء الوحش، فتتوجّه بالخطاب إليه:
ظلمتُك حينما قاومت فيكَ الوحشَ
بامرأةٍ سقتكَ حليبَها، فأنِسْتَ
واستسلمتَ للبشريّ. إنكيدو، ترفّق
بي، وعُدْ من حيث مُتَّ، لعلّنا
نجد الجوابَ، فمن أنا وحدي؟
وعندئذ تنطبق صورة إنكيدو على جلجامش الذي اتحد مع صديقه الذي فقده، فصار إياه، مؤكداً ذلك بقوله:
كلما ازداد علمي
تعاظم هَمِّي.
هكذا، نصل إلى إلهة الخصب «عناة» (Anate) الإلهة الأثيرة في جدارية محمود درويش الشاعر، والأقرب إلى قلبه. فهي الحضور المتكرر، في الأساطير الأوغاريتية، لكل من الإلهة «إنانا» السومرية، و «عشتار» البابلية، و «إيزيس» الفرعونية، و «أفروديت» اليونانية، فهي المخلّصة من الموت، في الشعيرة الطقسية التي يتحد فيها صاحب الجدارية بالإله «بعل»، خصوصاً حين تقوم حبيبته «عناة» برده من الموت إلى الحياة التي يعيد إليها، بدوره، الخصب والنماء، فينهمر المطر، وتتجدد الطبيعة التي تصبح خضراء بلون القصيدة. وهو الطقس الذي يجعل من «عناة» الرمز المقترن بقوة الحب (الذي ينطوي عليه الإبداع بالضرورة) التي تُحرِّر عابر نهر الموت من قبضة الموت الممتدة، وتعيده إلى شاطئ الحياة، والحضور الخلاّق المفعم بعافية الصحة والإبداع، ولذلك يتوجه الصوت الماثل في الجدارية إلى ربّته الأثيرة «عناة» بالابتهالة التالية:
فغنِّي يا إلهتي الأثيرة، يا عناةُ
قصيدتي الأولى عن التكوين ثانية
فقد يجد الرواة شهادة الميلاد
للصفصاف في حجر خريفي، وقد يجدُ
الرعاةُ البئر في أعماق أغنية، وقد
تأتي الحياةُ فجاءةً للعازفين عن
المعاني من جناح فراشة علقت
بقافية، فغنِّي يا إلهتي الأثيرة
يا عناة، أنا الطير والسهام.
ويمكن أن نُعقِّب على هذه الأسطر بأن «عناة» تتحد مع قوة الإبداع ومعجزته، فكما نجحت «عناة» في تحرير «بعل» من إله الموت، وأعادته إلى الحياة، يغدو حضورها الموازي الشعائري للقصيدة الخضراء التي تعيد بسر إبداعها (المجسِّد لإبداع الفنون جميعها) الشاعر من منتصف نهر الموت، حاملاً شهادة الميلاد الجديدة للأشياء والكائنات، وأهم من ذلك قصيدته الأولى في التكوين ثانية التي يطلق عليها اسم «جدارية محمود درويش» التي يؤبّد بها وفيها المعركة الأزلية بين الإبداع والموت، في جدلية الحضور والغياب، أقصد إلى الجدلية التي لا تكتفي فيها الجدارية بأمثال العنقاء وجلجامش وإنكيدو، بل تضيف إليهم - في مدى تجاوب علاقات حضور الدوال وغيابها - أوزيريس الذي يرتبط اكتمال عودته، بواسطة إيزيس، بعودة الخصب والنماء، مع فيضان النيل، في المدى الذي يتجاوب فيه أوزيريس مع الأنا الشاعرة:
قال طيف هامشيّ: «كان أوزيريس
مثلك، كان مثلي. وابن مريم
كان مثلك، كان مثلي. بيد أن
الجرح في الوقت المناسب يوجع
العدم المريض، ويرفع الموت المؤقتَ
فكرةً...».
والجمع بين أوزيريس والمسيح، في هذا السياق، يؤدي إلى تجاوب الدلالة المكررة لعودة الخصب بعد الجدب مع أوزيريس، أو إمكان إعادة الموتى، كما فعل المسيح مع إليعازر الذي أعاده إلى الحياة، ليس بالدلالة السلبية التي انطوت عليها قصيدة خليل حاوي «لعازر 1962» وإنما بالدلالة الإيجابية التي تتجاوب فيها قيامة إليعازر وبعث أوزيريس، بعد أن جمعت إيزيس أشلاءه وردَّته إلى الحياة؛ وذلك في سياق نوعي، يغدو فيه الإله الأسطوري كالنبي في الإشارة إلى التجليات المتعددة لسحر العودة إلى الحياة، حيث ترتوي الأرض بالمطر، وتزهر شقائق النعمان وغيرها من أنواع الزهر، ويفيض النيل، لكن أوزيريس والمسيح، فضلاً عن جلجامش وإنكيدو وعشتار وإيزيس، لا يتكررون مثلما تتكرر الربة الأثيرة، عناة، خصوصاً حين نقرأ:
كلما يمَّمت وجهي شطر آلهتي
هنالك، في بلاد الأرجوان أضاءني
قمر تُطوِّقهُ، عناةُ، عناةُ سِّيدَةُ
الكناية في الحكاية، لم تكن تبكي على
أحد، ولكن من مفاتنها بكت:
«هل كل هذا السحر لي وحدي
أما من شاعر عندي
يقاسمني فراغ التخْتِ في مجدي
ويقطف من سياج أنوثتي
ما فاض من وردي؟!».
وكلام عناة أغنية مغوية، شبيهة، في جانب منها، بغناء حوريات البحر أو السيرينيّات (Sirans) اللائي كان سحر صوتهن يقود البحارة إلى موت محتوم. فأعانت سيرسيه أوديسيوس على النجاة منهن بسد أذنيه بالشمع الذي حال بينه وسماع صوتهن الساحر الذي يفضي بسامعه إلى حتفه، وهي أشبه - في جانبها الموازي - بصوت كالبيسو التي أغوت أوديسيوس بالعيش معها على جزيرة تحطمت عندها سفينته، فبقي عندها لسبع سنوات، ولذلك يجمع صوت عناة، في تجاوب دواله، ما بين سحر صوت السيرينيات والجمال الآسر الذي احتجز أوديسيوس وبحارته لسبع سنوات، قبل أن يرحل عائداً إلى إيثاكا، حيث بنيلوبي التي ظلت تنتظره، كأنه الأمل الذي تحقق للمرأة التي تصفها الجدارية بأنها:
... مَنْ غزلت قميص الصوف
وانتظرت أمام الباب.
والسطران يتجاوبان مع بقية الأغنية المغوية لعناة التي تمضي في أغنيتها التي لا يحول بين الشاعر وسماعها حاجز شمعي، إذ تتكسر الحواجز، وترهف الأذن السمع إلى بقية سحر الأغنية:
«أما من شاعر يغوي
حليب الليل في نهدي؟
أنا الأولى
أنا الأُخرى
وحدِّي زاد عن حدِّي
وبعدي تركض الغزلان في الكلمات
لا قبلي... ولا بعدي».
ولا تشير الأسطر الأخيرة إلى الطاقة الإبداعية التي يولِّدها حضور عناة فحسب، بل تشير إلى الليل الذي لا تفارق رمزيته ولادة الإبداع، شأنه شأن حليب النهد الذي يرتبط بالخصوبة التي يتدفق معها الإبداع في الكلمات التي تركض في الغزلان، أو العكس.
وأتصور أن الإشارة إلى أوديسيوس، على نحو غير مباشر في هذا السياق، هي التي قادت إلى ذكر «هوميروس» الشاعر الذي يتعلم منه الصوت الناطق، في الجدارية، التوجه بالابتهال إلى ربة الشعر، كي تعلِّمه الشعر، وتسمح له بالتجوال في أنحاء الملحمة القديمة في حيلة من حيل المجاز المرسل، كي يستعيد ملامح عكا «أقدم المدن القديمة»، التي تقف أبيّة وبهيّة في وجه الزمن:
حجرية يتحرك الأحياء والأموات
في صلصالها كخلية النحل السجين.
في المدى الذي يزوّج ظبياً شارداً لغزالة (حيث نسترجع دلالة الغزلان الراكضة في الكلمات) ويفتح أبواب الكنيسة للحمام (كي نستعيد جناحي الحمامة البيضاء اللذين ارتحلا بالوعي المخدّر إلى الغياب في مطلع الجدارية) حيث ينفجر في الأنا نبع الشعر الذي يعود بها إلى درب المسيح ثانية، لكن المسيح ابن الإنسان، هذه المرة، وليس ابن الإله:
ومثلما سار المسيح على البحيرة
سرتُ في رؤياي. لكنني نزلت عن
الصليب لأنني أخشى العُلُوَّ ولا
أبشّر بالقيامة. لم أغيّر غير إيقاعي
لأسمع صوت قلبي واضحاً.
ويقترن نفي النبوة، في هذا السياق، أولاً، بتأكيد الانقطاع عن المراحل السابقة التي كان صوت الشاعر يتحد فيها بصوت النبي، في الدرب الذي راده بدر شاكر السياب في قصيدة «المسيح بعد الصلب». وهي القصيدة التي تبدو الجدارية في جانب منها، كما لو كانت تعارضها، ويحدث ذلك عندما تولّي القصيدة الجديدة وجهها عن المسيح الذي يتحد فيه اللاهوت بالناسوت، مؤكدة حضور الإنسان الذي يمتلك حريته، معلناً بأوضح بيان:
لست أنا النبي لأدّعي وحياً
وأعلن أن هاويتي صعودي.
ولا يتعارض وصف الشاعر بالغريب، في هذا السياق، مع الرؤيا التي تتداخل فيها العوامل والعناصر والأزمنة، ويتبادل الماضي والحاضر والمستقبل الوضع والمكانة في مدى رؤيا الشاعر في لحظة الغياب:
... حيث تنحلّ العناصر والمشاعر. لا
أرى جسدي هناك، ولا أحس
بعنفوان الموت، أو بحياتي الأولى
ولا غرابة، عبر هذا المدى، أن يرى الشاعر قرينه الشاعر الفرنسي «رينيه شار» جالساً مع فيلسوف الظواهر هايدغر على بعد مترين منه، يشربان النبيذ ولا يبحثان عن الشعر، تأكيدا للمفارقة، أو يرى المعرِّي يطرد نقَّاده من قصيدته، صارخاً:
لست أعمى
لأبصر ما تبصرون
فإن البصيرة نورٌ يؤدي إلى
عدم أو جنون.
ولا غرابة، أخيراً، في ألاّ تفارق غربة الأنا المبدعة، في الجدارية، صفات الإنسان الممزق بين الأضداد، قرين الضعف حيناً، والحيرة حيناً ثانياً، والتخبط في الأسئلة التي تظل بلا أجوبة أخيراً، لكنه، على رغم ذلك كله، مُصّر على حريته، ماضٍ في عزيمته التي تصنع بإرادته الحرة قصيدته التي تتجسد بها هذه الإرادة، مقاومة لا تكف عن مصارعة العدم وترويض الزمن، حتى في مدى توحدها الذي هو تجسيد لرغبتها في الصعود إلى التل، حيث نسمة الحياة العفية، المتأبّية على الموت، كي تمضي الأنا إلى ما وراء التل، حيث ينبوع الإبداع الذي تتوجه إليه القصيدة بحصانها الشموس:
فاصمد يا حصاني. لم نعد في الريح مختلفين
أنت فتوتي. وأنا خيالك فانتصب
ألفاً، وصكَّ البرق. حُكَّ بحافر
الشهوات أوعية الصدى. واصعد
تَجدَّدْ. وانتصب ألفاً، ولا تسقط عن
السفح الأخير كراية مهجورة في
الأبجدية. لم نعد في الريح مختلفين
أنت تعلّتي وأنا مجازك خارج الركب
المروَّض كالمصائر. فاندفع واحفر زماني
في مكاني يا حصاني. فالمكان هو
الطريق، ولا طريق على الطريق سواك.

Tuesday, August 14, 2007

التحديق في الموت


هوامش للكتابة - التحديق في الموت - 1
جابر عصفور الحياة - 15/08/07//
ليس مصادفة أن يطلق محمود درويش على الديوان الذي يسجل فيه تجربته في الإفلات من قبضة الموت اسم «جدارية محمود درويش» مستخدماً صيغة التنكير التي تتحول إلى تعريف بالانتساب إلى صاحب التجربة. والجدارية هي نوع من الإبداع التشكيلي (سواءً كان نحتاً بارزاً، أم رسماً، أم موزاييك) الذي تتجسّد به وعليه وقائع ملحمية، تضفي صفة الخلود على موضوعها، يستوي في ذلك أن يكون الموضوع حدثاً استثنائياً أو استعراضاً تاريخياً، مثل جداريات محمود مختار على قاعدتي تمثالي سعد زغلول بالقاهرة والإسكندرية، وجدارية فائق حسن (في بغداد) التي كتب عنها سعدي يوسف قصيدته «تحت جدارية فائق حسن» (1974)، وجدارية حرب أكتوبر في البانوراما التي تحمل اسم هذه الحرب في القاهرة، وقبل ذلك كله الجداريات التي تركتها الحضارات الفرعونية والآشورية والبابلية.
ولا تتباعد دلالة جدارية محمود درويش عن سياق مدلولات «الجدارية» بوجه عام، فهي جدارية شعرية، ملحمية الطابع، تقوم بتسجيل موضوعها، في المدى الذي تستبطن به الذات تحولات تجربتها في مصارعة الموت، مستعينة بلغة تصف أوابد العدم وضواري الغياب، كي تؤبِّد انتصار المبدع على الموت، ومن ثم انتصار الحياة التي هي الإبداع. ولذلك تبدأ القصيدة بالسؤال عن الاسم:
هذا هو اسْمُكَ؟
قالتْ امرأة
وغابت في الممر اللولبي.
وسواء كانت المتحدثة ممرضة أم طبيبة (نعرف في ما بعد أنها الممرضة) تقود المريض إلى حجرة العمليات، فحضورها الذي يعلنه السؤال قرين البياض الذي هو بداية الطريق إلى غرفة العمليات ببياضها الذي يكمل المشهد الاستهلالي المتناص للجدارية، حيث ندخل فضاء المابين، فتختفي حدود الزمان والمكان، مع اكتمال عملية التخدير، كأننا في سديم المابين، حيث تتدافع المجازات، صانعة عالماً من الرؤيا - الحلم، أو الحلم - الرؤيا، فيرى المريض الذي يرتدي الأبيض السماء في متناول الأيدي، يحمله جناح حمامة بيضاء صوب طفولة أخرى، حيث «الواقعي هو الخيالي الأكيد». وعندئذ يؤدي «التجريد» - حتى بمعناه البلاغي القديم - إلى أن يصبح الجسد جسدين: أولهما راقد وسط البياض، يراقب الثاني الذي انشق منه، مُحلِّقاً في الفضاء الأبيض الذي يحدِّق فيه اللاوعي الذي يغلب الوعي، كما لو كان يحدِّق في الموت الذي كاد يغدو إياه، وذلك في رحلة الصراع التي تمضي فيها القصيدة، عابرة فوق الشعرة الفاصلة والواصلة بين الحياة والموت، حيث لا تفكير في البداية أو النهاية، فلا شيء سوى طائر الموت يحمل اللاوعي إلى السديم، والشاعر ليس حيّاً أو ميّتاً، فلا عدم هناك، ولا وجود لشيء سوى لا وعي الذات التي تغدو «آخر» يشهد حلبة الصراع الذي لا ينتظر طويلاً كي يشارك فيه. فيعبر بعض نهر الموت، يصرع الموت، ويعود إلى شاطئ الحياة، مستعيداً مشاهد الصراع الأبدي بين الإبداع الذي ينتسب إليه انتساب الاسم إلى مسمَّاه، والموت الذي يحاول أن يقهر الإبداع، ويتغلب عليه بالموت، مؤكداً النغمة الأساسية التي تتجسد دلالتها المتكررة الرجع، في معنى أساسي مؤداه أنه ما مات من أبدع، أو خلق فنّاً يظل باقياً على الدهر، أو على رغم الدهر.
هكذا، يسهم اللاوعي الإبداعي للذات المفردة التي تنوب عن المبدعين جميعاً في قهر الموت، خصوصاً حين تتقمص هذه الذات حضور غيرها الذي لا يفني إبداعه ولكن يتجدد، في النقطة الفارقة التي يتغلب فيها الحضور على الغياب، والحياة على الموت، مؤكدةً الانتصار، المتكرر أبداً، على الموت الذي يقهره الإبداع، ما ظل هناك وجود، وما ظل للإبداع قدرة على المقاومة التي تنتهي بالانتصار.
وتتحول لحظة الانتصار إلى موقف للكشف، أبرز ما فيه نقطة الالتقاء التي تتقاطع عندها كل شبكات الدلالة في الجدارية، حيث نقرأ:
هَزَمتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعها
هزمتك يا موت الأغاني في بلاد
الرافدين: مسلَّة المصري، مقبرة الفراعنة
النقوش على حجارة معبدٍ هَزَمَتْكَ
وانتصرتْ، وأَفلَتْ من كمائنك الخلود.
هذا الانتصار بالفن على الموت هو الذي يؤجّج في الذات الشاعرة مبدأ الرغبة الذي يصل بين الوعي واللاوعي، في امتلاك شجاعة التحديق في الموت، والتسلّح برغبة التجدد ونهم المعرفة. ولذلك تتجاور في الذات الشاعرة إرادة الحياة ومبدأ الرغبة النهمة في المعرفة. أعني مبدأ الرغبة الذي يقهر مبدأ الواقع، ويجاوزه كي تكمل الذات المبدعة عملها على جغرافيا البركان الأرضي، من أيام لوط إلى قيامة هيروشيما، حيث يتأبَّد الدمار في الأرض الخراب، كأنه الحاضر العليل في امتداده الأبدي كالموت، في مقابل إرادة الحياة التي تتكرر دائماً كفصل الربيع، وانتصار الجمال على الفوضى. هكذا تزداد الأنا وعياً بنفسها وما حولها، فتغدو أقدر على مواجهة الغياب بالحضور، والتغلب على شروط الضرورة التي تحول بين الإنسان وآفاق الحرية التي لا نهاية لامتداد آفاقها. وفي الوقت نفسه، تزداد الأنا شبقاً إلى ما لا تعرفه، في تقلّب الأزمنة وتحولاتها، خصوصاً حين يكون «الآن» أبعد من الحاضر، أو يكون «الأمس» أقرب إلى الحاضر من ماضيه، أو يكون «الغد» هو الماضي في حركة الدائرة. وينقلب شبق المعرفة من حضور الذات الفاعل إلى زمن الوجود، وإرادته المناقضة للعدم، فلا تكون الذات بعض دورة الفصول الأبدية التي تحدَّث عنها محمود سامي البارودي عندما قال في إحدى قصائده:
تغيب الشمسُ ثم تعودُ فينا/ وتَذْوي ثم تخضرُّ البُقُول
طبائع لا تَغِبُّ مردّدات/ كما تعري وتشتمل الحقول.
وإنما تغدو الذات مبدأ فاعلاً، لا مفعولاً أو منفعلاً، تمتلك قدرة صنع الزمن على عينها، والتاريخ بحسب إرادتها، نافرة من الجبرية العاجزة، منحازة إلى مبدأ الاختيار الحر الذي يقهر العدم والعبث، إذا استخدمنا بعض المصطلح الوجودي، فلا عبث في إرادة المواجهة العنيدة للزمن، حيث تقف الذات نقيضاً لكل زمن يكرر نفسه كالدائرة، في عود أبدي، أو انحدار إلى نقطة الابتداء التي تغدو نقطة للمستقبل، في حلم الإحياء الديني السلفي، وتحيله إلى صعود متواصل بها ومعها، فيغدو الزمن زمناً للتطور المندفع أبداً إلى الأمام، غير ناظر إلى الوراء، كي لا يمسخ حجراً، أو يزيد التخلف تخلفاً. وعندئذ، تصنع الذات التاريخ، بحسب ما تريد، كأنها تحقق دلالة بيت أبي تمام:
بيض إذا اسودّ الزمان توضَّحوا/ فيه، فغودر وهو منهم أبلق.
حيث يكتسب الزمان المفعول لون الإنسان الفاعل، فيتحول من اللون الأسود إلى الأبيض (الأبلق). ويوازي ذلك ما نراه في تداعيات جدارية محمود درويش، في مدى الذات الحرة الصانعة للتاريخ، بمعناه الخاص على الأقل، خصوصاً حين نقرأ:
ولكني أشد «الآن» من يده ليعبر
قربي التاريخ، لا الزَّمَنَ المُدَوَّر.
ولذلك تتحرك عناصر الرؤيا - الحلم، في جدارية محمود درويش، خصوصاً في موقف الكشف، في سياق متوتر، عصيّ على الثبات أو السكون، كأنه اصطراع الأضداد، ما بين لحمة الجدارية وسداها، فتصعد اللغة إلى مستوى «الشهود» في عالم الرؤيا، كاشفة عن دوال تتولد منها مدلولات، ومدلولات تتولد منها دوال، في دوران رهيف يجوب ما بين السماوات والأرض، والأرض والسماوات، مانحاً فضاءات السديم اسماً ومحلاً، فتغدو الذات الرسالة والرسول (صلى الله عليه وسلّم)، الطريدة والسهام. وبالقدر نفسه، يغدو التاريخ صنواً أو عدوّاً، صاعداً ما بين هاويتين كأنهما العنصران الواصلان والفاصلان بين الجدب والخصب، الحياة والموت:
فماذا يفعل التاريخ، صِنوك أو عدوّكَ
بالطبيعة عندما تتزوج الأرضَ السماءُ
وتذرف المطر المقدس؟
والإشارة إلى زواج الأرض والسماء الذي ينتج منه المطر المقدس هي إشارة إلى أسطورة «البعث» في الأساطير الزراعية، حيث الانتصار للخصب على الجدب، وحيث المطر هو ماء الحياة الذي يدخل قرارة القرار من الأرض، كي يُخصبها وينجبها ثمراً أخضر، بكراً كوليدٍ بكر. قد يعقب النماء الجدب، والحياة الموت، لكن ليرحل النقيض بفعل نقيضه الذي يدور وإياه في دورة الفصول الصاعدة لا الهابطة، وفي تجدد الحياة مع المطر المقدس الذي يخصِّب الأرض، وذلك على نحو يذكِّرنا، في مدى فاعلية التناص، بالبعد الأسطوري لقصيدة «أنشودة المطر» لبدر شاكر السياب (1926 - 1964) التي يتحول فيها دال «المطر» إلى مدلول ولادة لحياة جديدة، شأنها في ذلك شأن قصيدة «المسيح بعد الصلب» التي تنتهي شعائر الموت فيها ببداية «مخاض المدينة» مع تلقيح أرضها بالمطر المقدس، وذلك في الوقت الذي تستدعي قصائد السياب التموزية تكرار الشعيرة التي يكلّلها انبعاث الحياة، كأنها «تموز» الذي ينبعث من عالم الموتى، حاملاً المطر والخصب والنماء إلى الأرض، معلناً - كما في قصيدته «النهر والموت» - بعث الحياة بقوله: «إن موتي انتصار». وهي الشعيرة نفسها التي نجدها في جدارية محمود درويش، بادئة بهبوط «المطر المقدس» نتيجة زواج الأرض والسماء، وإخصابه الأرض اليباب بما يجعله يكرر أن قصيدته «خضراء» كلون الزرع الذي يغدو علامة الحياة العفية التي تأتي مع الربيع الذي تستهله الأمطار، أو فيضان الأنهار، في الأساطير الزراعية التي يتخذ فيها طقس البعث أكثر من مجلى للحضور المعلن أو المضمر للرّبة المنقذة (عشتار، إيزيس، إنانا، عناة، أفروديت... إلخ) للإله المحبوس في العالم السفلي للموت، فتعيده إلى الحياة كما يعود المطر ويفيض النهر، جالباً الخصب والنماء إلى الأرض الخراب التي تغدو خضراء، مؤكدة الدلالة الرمزية لحضور قصيدة درويش التي تشبه حضور المطر المقدس:
خضراء أرض قصيدتي، خضراء عالية
على مهل أدوّنها، على مهل، على
وزن النوارس في كتاب الماء أكتبها
...
خضراء أكتبها على نثر السنابل في
كتاب الحقل، قَوَّسها امتلاء شاحب
فيها وفيّ. وكلما صادقت أو
آخيت سنبلة تعلَّمتُ البقاءَ من
الفناء وضدّه: «أنا حبة القمح
التي ماتت لكي تخضر ثانيةً. وفي
موتي حياةٌ ما...».
والمقطع كله – على رغم طوله النسبي - واضح الدلالة على ارتباط اللون الأخضر بالوظيفة التي تتحول بها الجدارية من قصيدة في مواجهة الموت إلى شعيرة طقسية للبعث الذي يؤدي إلى الخضرة التي تغدو سبباً ونتيجة، قرينة دورة الخصب التي يذكِّرنا بها «كتاب الماء» و «نثر السنابل في كتاب الحقل»، واتحاد الإخاء بين الأنا الشاعرة والسنبلة التي انطوت على سر البقاء ضد الفناء وقهره، فيغدو موتها الأول بداية اخضرار ثان، كما يغدو آخر العبور في نهر «الأخيرون» بداية العودة منه، ومن ثم عودة الحياة.
والحلم - الرؤيا هو المدى الذي يتحرك فيه ذلك كله، خصوصاً حين تمارس القصيدة شعائر الأسطورة التي تضع دورة الحياة على سلم الزمن الصاعد، في موسم الربيع، حيث يتحول الشاعر إلى مؤدٍّ في الشعيرة الطقسية التي تغدو، بدورها، استجابة لكلمات غامضة، كأنها غمغمة اللاوعي الذي ينطوي على رموز عتيقة، أو نماذج بدئية في اللاوعي الجمعي، من منظور يونج، كلمات تقول حروفها الغامضة للشاعر المشدود بين الحضور والغياب:
اكتبْ تكُنْ
واقرأ تجدْ
وإذا أردت القول فافعلْ، يتَّحد
هواك في المعني
وباطنك الشفيف هو القصيد.
والإشارة لافتة إلى التناص الديني الذي يدفع القصيدة في مداها الرؤيوي، جامعة بين التجسيد الذي يتشخص به المجرّد، فيغدو محسوساً مجسّداً، والتشخيص الذي يبث من روح الإنسان في الأشياء والكائنات، غير مفارق نزعة إنسانية (أنثروبومورفية anthropomorphic) تخلع الصفات البشرية على غير الإنسان، وبخاصة الآلهة الوثنية في الأساطير القديمة. هكذا، تتحدث الأنا الناطقة في القصيدة إلى الموت الذي يغدو كائناً، تطلب منه القصيدة - الرؤيا الانتظار عند الباب لتودِّع الأنا داخلها في خارجها، وريثما تنهي زيارتها للمكان والزمان، وتعدّ حقيبتها للسفر الذي لا تعرف هل تعود منه أو لا تعود، وتنتقل من هذا الموقف إلى ما بعده الذي تضع فيه الموت موضع المساءلة، محدِّقة فيه، متأمِّلة إياه، بما ينزع عنه براثنه المخيفة وصولجانه، فتنتصر عليه بما يشبه المرآة التي قضى بها برسيوس Perseus على الميدوزا Medusa عندما جعلها ترى صورتها في المرآة فتدرك بشاعتها، وتفقد أقوى أسلحتها، وذلك في فعل يشبهه ما تقوم به الأنا المبدعة، في جدارية محمود درويش، حين تضع مرآة الإبداع أمام ناظري الموت، محدِّقة فيه، مروِّضة إياه، بما يمكِّنها من أن ترى أوسع من أحداقها، مؤكِّدة انتصار الفن على الموت. وعلى رغم أن الفن قرين القدرة المحدودة للإنسان فإن الإبداعات التي ينجزها تقهر الموت. وتلك هي معجزته التي تؤدي شعيرتها جدارية محمود درويش بعد أن نزعت عن الموت، غير هائبة منه، مظهره المرعب البشع، وبعد أن رأت مثل جلجامش، وعرفت مثل إنكيدو، فغدت أكثر تعاطفاً مع الموت الذي أدركت حقيقته المؤنسنة، فيبتعد عنها بما يكفي لمعرفة ما لا تعرف من حقيقته.ه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحياة اللندنية