Wednesday, July 14, 2010

الفصل الثالث

الفصل الثالث

كيف يمكن ليوم أن يكون مختلفا عن بقية أيامك؟

يحدث أحيانا أن تفتح عينيك، وأنت في سريرك، فتداعب وجهك نسمة صباحية، تشعر بها في التموجات الراقصة للستائر البيضاء، قبل أن تلمس وجهك، وترى قمة شجرة “أكاسيا”، وفروعها متوجة بزهور عنقودية وردية نابضة بالحياة، وأخرى بيضاء تصالح روحك على العالم، وتتأكد لحظتها من تمايل ذؤابات النخيل وسعفه أن نومك كان عميقا دون أحلام..

وفجأة تتساءل: ما الذي أتي بي إلى هذا المكان؟.

الحجرة الواسعة التي تطل بشرفتين على الحديقة، فأرى النيل من ناحية، والمقابر وبيت أبي من الناحية الأخرى، أي أشياء كنت أفتقدها؟. برج الحمام؟.البيت المعزول تحاصره أشباح وحدته وأرواح آلاف الغائبين؟

في الظهيرة يعود أبي من جولته الصباحية، أجري عليه، يمسك بيدي يلف بي، أدور معه، تخايلني أشعة الشمس، أغمض عيني، تتداخل الأشكال.. البيت، الأشجار، المقابر، الهواء الذي أحلق فيه، الأرض التي أقاوم جاذبيتها. تنمحي التفاصيل، ولا يبقى غير أبي المتمركز في وسط الوسعاية الممتدة لأبعد من ضحكاتي أو حتى صراخي.

رق جلدي وشف حتى أبان كل ما يحفظ من لمسات حانية لأصابعه الأربعة، تطمئني وأنا شاردة في دوافع السيد الكبير لطلب يدي. أستعيد ذبذبات صوته الدافئ، التي تجمعت في أطرافه:

- يا بنتي لن يغصبك أحد على أي شيء، لن يتم أمر دون رضاك.

ولما طال صمتي..

- لو ترغبين في ترك البلد نتركها، أنا كل اللي يهمني راحتك.

هل مازال شعري يحتفظ بقبلته الوحيدة على رأسي أم إن ما كان يوما قمة رأسي أصبح في الأطراف؟ لماذا حدثني أبي بهذا الشكل؟ ولماذا ترددت؟ ربما لأن ما حدث فاق تصوري، حتى بعد الزواج ظل لدي سؤال كلما استيقظت، ماذا أفعل هنا؟ وينازعني حنين دائم لبيتنا.

مع الغروب يثقل على إحساس الغربة. البيت الساكن الكامل حيث لا شيء يحتاجني، الأثاث ثقيل، صامت، مليء بحواديته التي لا أعرفها، دون شفرة أحاول فك رموزها.

من أين أبدأ؟

تجذبك الكنبة البندقية اللون المطعمة بالفضة، والتي ورثها “فؤاد” عن جدته، هو مشغول بعالمه، وأنت تتململين في السرير انتظارا لعودته، تنتقلين إليها، تفتحين الراديو، أم كلثوم تغني من فيلمها الجديد “حأقابله بكرة”. ترفعين الخداديات الكتانية المشغولة بغرز وخيوط بدوية، يفاجئك غطاؤها الأملس تفتحينه فتتحول إلى سحارة، تسعك وتستوعب أسرارك، تتأملين الوحدات الزخرفية الفضية التي تشبه أذنا كبيرا تتكرر بعرض السحارة، تبدي استعدادا دائما لالتقاط همساتك، وعلى قاعدة المسند تتجاور زهرات عباد الشمس منحوتة في الخشب، وقلوبها ممتلئة بالفضة، تتابعك أينما ذهبت وتبتسم في وجهك، تبدي ترحيبا دافئا بفتاة غريبة.

كم من الوقت تحتاج لتتعرف على عالمك ويصير جزءا منك ويصبح داخلك؟ حين يتم هذا تكتشف أن كل الأشياء صارت قديمة، وأن بالحياة أشياء أخرى لا تعرف عنها. فمتي اكتشفت أن عالمي صار قديما؟.. لا أتذكر..الكهرباء تأكل ظلي على الأشياء، تخفي الأبعاد، تسير وحدك في أمان دون خوف من ظلك الممتد حتى السقف.. الكهرباء تكشف كل شيء.. كل الشقوق التي ملأت الجدران، البقع الصفراء، الرشح في حوائط الحمام، الألوان الكالحة لصالوني القديم.. كل شيء.

يحتاج البيت إلي ترميم، تجديد. كل البيوت التي أدخلها لم يصبها تغيير. كل الأشياء الثقيلة علينا التخلص منها، توسيع النوافذ في الصالة الكبيرة، ضوء قليل يدخل إليها، فتبدو غائمة في ضباب أبدي. نحتاج لشراء أدوات منزلية لم أكن أعرفها، حلل، أكواب، صواني تقديم، أطباق فاكهة، راديو، قماش للستائر. مللت بيتي القديم، الأثاث، الأبواب، تعجبت من شجاعتي وقدرتي على الشراء وفتح دولاب الفضيات وتجديده. الفضة دائما معدني المفضل، رغم بريق الذهب المبهرج، الذي يبدو لي رخيصا إلى درجة التقليد.

تبيع الزوجة مصاغها كي تساعد زوجها وتشتري من إحدى العربات نفس شكل الغوايش، ولكن بجنيهات قليلة، وترتديها في الأفراح: يا ست أهم منظر.

الذهب، لا يحترق ولا يصدأ، لكنه يقوي القلب حتى يميته.. تجلس زوجة “النحال” الكبير في الصالون، تشخلل بأساورها الذهبية وهي تقول: نريد ابنتكم “راوية” لابن ابني “عوض”، يترك “فؤاد” القرار لراوية، “منير”و”عاطف” على استعداد دائم للموافقة على ما تريده أختهما، وأنا مترددة، لا يوجد في الشاب ما يعيبه، يدير أعمال عائلته، قليل الكلام، لا يوجد ما يميزه غير خاتم كبير من الذهب يتباهى به. الفضة لا أحد يتباهى بها، لذا تحفظ مكانتها أبدا، بعيدا عن الغش.

مدة تجديد البيت كانت أكثر الفترات التي تقاربنا فيها أنا وفؤاد.

عرفت خلالها ما لم أعرفه في سنوات.. معاملته للبائعين، صبره على الشراء، بل كان هو الذي يقودني إلى اكتشاف أشياء جديدة تنقص البيت، والميزانية مفتوحة. انهمك في الأمر حتى أنه أتعبني، أنهكني، وبدا كأن التجديد لن تكون له نهاية، وعاد طفلا لعبته الوحيدة بناء البيت من جديد، حتى أنه أهمل مكتب المحاماة، وقادته رغبته في التغيير، إلى عمل مشروعات جديدة، انتقلت إليه روح المقامرة، روح لم تكن له أو ربما اكتشفها في نفسه، وكانت تجارة تخزين البطاطس مازالت في مهدها، فبدأ في بناء ثلاجة للخضر والفاكهة، تخزن البطاطس والبصل والجزر.

هل كانت الأشياء التي لم نخترها معا هي التي وقفت عائقا دون التحامنا واندماجنا كعاشقين؟ .. ربما.

أوائل الستينيات لم ترد أية فكرة للتغيير، كان الوضع مستتبا والتطورات لم تكن في صالح أي تغيير أو هكذا خيل لي أنا و”فؤاد”، حتى أننا لم نتكلم في هذا الأمر. كان الحديث عن قوانين الإصلاح الزراعي، الفدادين التي اختصرتها القوانين من مساحة الأرض التي كنا نملكها.. التي كنا نملكها؟!

تتحدثين الآن كإقطاعية قديمة. وأنت التي ظللت لا تعلمين حقيقة مساحة الأرض التي يمتلكها زوجك إلا بصدور قوانين الإصلاح، لم تسألي يوما عن مساحة الأرض، أو مقدار الثروة حتى لا تتهمين بالطمع.

أنا وجسدي كلانا يراوغ الآخر ولا نتفق، كل في ناحية، يرغب في الاستكانة وأرغب في الاستناد إلى العصا الأبنوس التي توارثها “فؤاد” عن جدوده، وكان ينوي أن يستند إليها في أواخر أيامه لكنه لم يحتج إليها.. في الصباح الباكر أمرّ في أرض السرايا، أؤجر الأرض المتبقية للفلاحين. أقبل أن تباع الأراضي البعيدة، الأولاد دائما يحتاجون للنقود، لهم مشاريعهم الخاصة، “عاطف” مع كل نقلة إلى عاصمة أوربية يحتاج إلى النقود، تقول “راوية”: الدولة توفر لمبعوثيها في الخارج كل شيء، لكنها تطلب ما يكفي لبناء مدرسة عمر بن الخطاب النموذجية، تبنيها في المنصورة، أهالي البلد لا يتحملون مصروفات مدرسة يشترط للقبول بها إجادة الوالدين للغة الإنجليزية، الأرباح مضمونة، وربما تتحول لأول جامعة إقليمية خاصة. أبيع عمارة الرمل، الإسكندرية بعيدة، لا نذهب إليها كثيرا، إذا سافرنا يمكنني أن أؤجر شقة في البرج الذي ارتفع مكانها، لكن تظل السرايا كما هي بنفس المساحة وسورها وأشجارها..

أحيانا أدور حول سورها الحديدي الذي تتقارب قضبانه يرتفع جزء من الحديد، مربعات متجاورة، في وسط كل واحدة دائرة تبدو كقرص الشمس تشرق منها أربع شعاعات، تصل إلى الأطراف الأربعة للمربع الحديدي، الذي يحد من انتشارها، وترتكز على قاعدة من الطوب الوردي، بعرض قالب طوب، تركن عليه الفلاحات القادمات من السوق أو من ماكينة الطحين طلبا للراحة، تجلس الواحدة منهن، وتمسح عرقها في طرحتها، هذا إذا لم تفزعها نباح ثلاثة كلاب مربوطة بجوار السور، وقد يوقع إحداهن حظها العاثر، أو جهلها فتجلس قريبا من مربطها، فتأخذ نصيبها من السرايا خضة رهيبة، وقد تهرب وطرف طرحتها في فم أحد الكلاب، أو تتعثر ويسقط ما بسبتها أو طحينها، بجوار السور يتكوم التراب المخلوط بدقيق عشرات الفلاحات أو ببعض قطرات من دمهن..

كنت تنوين التخلص منهم بمجرد دخولك السرايا فما الذي أنساك؟ أم أصبح لك ما تخافين عليه ويحتاج إلى حراسة؟ وأنت التي كنت تمتلكين كل الأشياء وهي بعيدة عنك..

ربما ظللت داخل السور سنوات طويلة، أتحسس السور والأوراق التي تخرج منه. تنتشر على السور ورود الشبيط وتمتد تفرعاتها لتتجاوز ارتفاعه.أشعر بالأمان، ما ألمسه هو الموجود والباقي خيال، أوهام، لا أتذكره، وبدون أصابعي كان على أن أشك، في الجغرافيا، في التاريخ، حتى في أسباب وجودي في هذا البيت..الجغرافيا هي أركان حجرتي.. التاريخ هو الأبطال، رمسيس، عنترة بن شداد، صلاح الدين الأيوبي، سعد زغلول.. التاريخ ما فعله العظماء، هذا ما كنت أتصور، لكن جاء الوقت الذي صار علىَّ أن أراجع تصوراتي، وأن أعرف شيئا عن ابن خلدون وتاريخه المتعاقب. فهل يعيد تاريخي نفسه؟ وهل تتكرر أيامي وأبدأ من حيث انتهيت؟ أم إنني مجرد ذرة في الدورة الكبيرة.

في جيبي مذكرة أدون بها ما أرغب في تذكره، لكن ما هو؟ لا يهم سأتذكره حين يصير بعيدا.عندما يتقدم بنا العمر يتجسد ما في نفوسنا بشكل كبير.. الغيرة، حب التملك، الطموح، الخوف…

تخافين القطارات؟

القطارات داهمة، تأتي وترحل فجأة ولكن أثرها يبقي في النفس، ذكرياتي معها سيئة، يوم سفر “يحيى” من محطة المنصورة إلى القاهرة.

كنت تريدينه بعيدا عن البلدة.

ربما، كنت أريد عائلة كبيرة، نواة لعائلة الفقي، وكان عليه القيام بهذه المهمة، حين يصبح طبيبا مشهورا ويفتح عيادة في القاهرة أو على الأقل في المنصورة ستسعى العائلات الكبيرة للتقرب منه.

اصطحبته إلى القاهرة بالقطار لم نسافر بالسيارة، كان شيئا خاصا بين أخت وأخيها الوحيد، الذي تدخره لأوقات المباهاة، التي كانت حتما ستأتي.

القطار قاس، قلبه من الصلب لا يرق لا يلين ولا يشعر بالندم، فقط يسير إلى الأمام، لا أستطيع التحكم فيه، لا يعرفني ولا يمكنني أن أهمس له: من أجل خاطري، فيغير مواعيده ونجلس قليلا في المساحات الخضراء بعيدا عن المكتب وثلاجة الخضر ودفاتر الحسابات ..

تخافين القطارات، الماكينات التي عندما تتعطل لا تعمل إلا بالدم الساخن الطازج.

و”رحيل” كانت تجسيدا لخوفك، تسكن في الجهة المقابلة للبلدة حيث يفصل بين الناحيتين خط السكك الحديدية، ذهبت أمها لقضاء حوائجها.. لم تشعر بما حدث لها إلا عندما استيقظت ومضى القطار بعيدا.

مع هذا لم تغضب “رحيل” يوما منه أو تخافه بل كانت تستخدمه للتنقل بين المنصورة وطنطا، والبلد. وعندما أزيلت القضبان الحديدية من أمام البلدة قالت:

– أنا عمري ما خفت من القطر، القطر ما أكلش دراعي، الغفله هي اللي أكلته.

لا تنام أبدا، تغفو وهي جالسة أو مستندة على كرسي. كثيرا ما كانت تأتي للبيت وفي صرتها بعض مما أحتاج إليه.

طبعا لم يكن لاستخدامك الشخصي، فكيف يمكنك وقد تعودت على ما تبيعه محلات القاهرة أن تستخدمي ما تبيعه “رحيل”؟! حتى لو ادعت أنه أغلي ما في محلات المنصورة، تهادي به الصغيرات، والعرائس من أهل البلدة. أو ربما الرغبة في القيام بدور المحسنة.

أستقبلها في حجرة الضيوف حتى إذا ما استراحت وتناولت غذاءها وبعد مشاهدة ما تحمله من قماش أو إيشاربات أو عبايات، أتركها وفي يدها كوب الشاي، وعندما أعود لها بالنقود أجدها قد أسندت رأسها لرجل كرسي الصالون المذهب وورداته الزيتية على القطيفة البيج الغامق، أغلق عليها الباب، تعلق فاطمة:

– معقول يا ست ولو حضر ضيف.

– نصحيها يا فاطمة.

تتعاطفين معها.

تعجبني صراحتها.. تمد ذراعها بالخمار، تعيده لراوية

– الخمار خنقه ولخمه. وماله إيشاربي ده!

– ربنا هيغضب عليك.

– هيغضب عليًَ! ازاى؟ هيأخد دراعي التاني؟ يا ست أنا راضيه بقضاه، عمري ماسألته ليه؟ سيبي الغضب والرضا ليوم الحساب.

أما الأكيد فهو أن رحيل كانت نشرة أخبارك المحلية، وستصبح شريكة لك.

جاءتني رحيل بعد فترة وقالت: ما تشاركيني في تجارتي.

لحظتها استخففت بما قالته، ولكنك كالتاجر الماهر الذي لم يكن يوما من جدودك، أرجأت الأمر وتركت الباب مواربا.. لكي تتأكدي أن ما سمعتيه عن “حليمة عبد الملك” صحيحا، الشابة التي بدأت تجارتها بشراء القطن من الفلاحين في البلاد المجاورة ثم تصنيعه في مصنع تمتلكه، وسرعان ما أقامت مصنعا ثانيا وثالثا، وأصبحت كما يقولون “ملكة القطن”.

فأية مملكة كنت تطمعين؟

الآن أصبح لديك بعض المدخرات.. من مصروف البيت وما يعطيه لك “فؤاد” وكنت تحتاجين لشيء خاص بك، لسر تحتفظين به وحدك، لشيء تخفينه لملك خاص لك.

والموت وما يرويه لك ألم يكن سرا تحتفظين به؟

الموت يصر على قلب الحقائق التي أعرفها ويصدقها الناس من حولي.

من يصدق ما يقوله عن الغراب إذا رآني أستعيذ بالله من مصيبة قادمة عند سماع صوته؟ من يصدق أن الغراب هو رسول الإله وأنه يمتلك قوى غريبة وقدرة كبيرة على التنبؤ، وأحيانا يتصرف كمرشد أو دليل للإنسان، وأنه يحكي كل ما يسمعه؟! ما يقوله الموت لن يمنعني، عندما أرى الغراب واقفا على فرع شجرة بالحديقة من الإسراع بتناول سكينتين من المطبخ وضرب إحداهما بالأخرى حتى يتوارى بعيدا.

هذه ليست أسرارا، ما يحكيه الموت لي لا يفرق كثيرا عما تحكيه المسنات اللاتي نسيهن.. لكني أحتاج إلى سر حقيقي.

و”رحيل” هي أمينة سرك، ونقودها تحفظها عندك، ولما ماتت فجأة وجاء أخوتها يطالبون بنقودها، طردتهم من البيت ووزعت نقودها صدقة على روحها. تحول مشروع تجارة الملابس الجاهزة الذي تمويلينه سرا إلى مشغل ثم مصنع صغير تديره “صفية” بعد موت “رحيل”.

الأيام تُنمي الأشياء وتُميتها. عندما حكيت لرحيل عن الموت قالت يا ست حُسنة (من رأى ملك الموت عليه السلام مسرورا مات شهيدا، فإن رآه ساخطا مات على غير توبة، ومن رأى كأنه يصارعه فصرعه مات، فإن لم يكن صرعه أشرف على الموت ثم نجاه الله. وقيل من رأى ملك الموت طال عمره.)

هل هذا حديثها أم إنه قول ابن سيرين؟

لكنه بأية حال قول مفيد يمكنك التباهي بمعرفته في جلستك الأسبوعية؟

جلستي الأسبوعية!! كل شيء يفقد طعمه الآن.. كنا نجتمع، نشرب القهوة، الزنجبيل، القرفة، نتبادل الأحاديث.. نميمة ،كذبات صغيرة، تجميل، تعرية، لكنها أحاديث تنفس عن الروح وتمنحها انتعاشا، أحاديث لا يمكن للرجال أن يستمتعوا بها، فتأثيرها وقدرتها على تبديد الكآبة والحزن تكمن في سريتها، النكات البذيئة، الأوصاف المحرمة، تبادل الخبرات، الوصفات، الضحك حتى تغرق العيون بالدموع، ونعود بعد هذه الجلسة مفعمات بالحياة ويصبح كل شيء محتملا وفي أحيان كثيرة جميلا.

تفرقت المجموعة، من مرضت؟ ومن ماتت؟ وبقي سؤال جلستي الأولى عالقاً. ماذا أحكي لهن، هؤلاء السيدات المتطلعات لي بين حاسدة وناقمة ومنقبة بما يجعلها تتعجب وتقول: هذه هي الفلاحة التي تزوجها فؤاد بيه الكاتب!!

تردين عليهن بابتسامة غائمة. إذا سألتني ما الذي تحبينه في نفسك؟ سأقول ابتسامتي التي أنقذتني في كثير من الأحوال وحيرت من يراها وأعطت انطباعا بالرضا والسعادة

ما الذي يمكن لي أن أحكي عنه؟ جذوري.. لا أعرف إلى أين تمتد بل ويبدو لي أنها جذور ضعيفة تطفو على سطح مجرى مائي ضحل، لا أعرف شيئا عن جدي، ويبدو أبي دائما وحيدا دون عزوة أو أصدقاء، يؤدي مهامه ثم يتخذ مكانه على طرف المجلس، ليرحل دون أن يميزه أحد.

لا شيء في ماضيّ مميز، لا تفاصيل غنية..لا أسرار، ماذا أحكي..

“فؤاد” قليل الكلام عن عائلته، وكان هذا مريحا بالنسبة لي.. أتاح لي فرصة البحث وكان يفاجأ بمعرفتي بعمته “فايزة” وزوجها ويسألني كيف عرفتي؟

- إنت كل أدراجك مفتوحة.

وغير الأدراج المفتوحة، الصور المعلقة على الحائط في السرايا، صور أقارب فؤاد.. رجال بملابس رسمية، بدل سوداء، تزينها نقوش لأوراق نباتات ذهبية، أحذية لامعة مقدمتها رفيعة .. سيدات بجوارب من النايلون سوداء أنيقة، لا تخلو الأصابع من خاتم تلمع فصوصه في سواد الصورة، واليد بها جوانتي أبيض، ابتسامات، اطمئنان، رضا. صورة لفؤاد طفلا بالعقال العربي. ما الذي تغير فيه؟ صورة لوالد فؤاد وبصحبته ثلاثة أطفال، الوالد يستند إلى الكرسي الذي تجلس عليه طفلة جميلة بشعرها اللامع القصير الذي ينسدل على جبهتها، وفستانها الفاتح يرتفع عن ركبتيها، و”فؤاد” يضع يده حول كتفها، وهو يرتدي جاكت من الصوف، وتحته شورت من نفس القماش واللون. ولما سألته عنها قال إنها “حياة” ابنة عمه.

– أين هي؟

– ماتت.

صورة زفاف والديه: والده ببدلة سموكنج سوداء وقميص أبيض والبيبيونه البيضاء تتوسط عنقه والطربوش المائل قليلا لليمين يزيد من طوله مقارنة بعروسه التي تقف مرتكزة بجسدها على قدمها اليمنى بينما تحني اليسرى قليلا حتى تحاذي نهاية ذقن العريس ولا تزيد، حذاؤها من الساتان والفستان من التل المشغول بالفضة الذي يتجاوز طوله ركبتها قليلا، والجوانتي الأبيض يمتد إلى ما بعد كوعها، وشعرها القصير تبدو أطرافه من تحت الطرحة التي تمتد بجانبها طويلا على أرضية الصورة.

من الصور يستطيع زوجي أن يقول إنه ابن.. وابن..

بل إن رجلا مغربيا جاء إليه بشجرة نسب يعود جذعها إلى الإمام الحسن وجذرها إلى المصطفى، وطلب منه أن ينضم إلى جمعية النسل الشريف ورسم الاشتراك خمس جنيهات لتحسين أحوال آل البيت.

أما أنا فمن أكون، حُسنة بنت حسين الفقي …

حاولت كثيرا إقناع “يحيى” أن يتزوج. لكنه يقول: وبناتي؟

“نور” و”شمس” و”قمر” لسن السبب، لكنه متمسك بحبه لصفية، يحرص عليه أكثر بعد وفاتها، في الأيام القليلة التي يقضيها في البلدة، يبقى معظم وقته جالسا تحت شجرة الجميز، يقبض على الطمي فيخرج من بين أصابعه مائدة مستديرة بأربعة كراسي، تجلس عليها “صفية” مع بناتها وعلي يمينها يقف زوجها “رزق”، وعلى يسارها يقف هو، وهي لا تسمح لأي منهما بالاقتراب من مائدتها.

والنسوة يقطعن تهامسهن حين أنضم إليهن.. ما الذي يجبرني على إبقاء هذا اللقاء الأسبوعي العقيم.

تغفو قليلا وتفتح عينيك، وهم مازالوا يتحدثون، تهز رأسك مبتسما ببلاهة طفل وأنت لا تفهم ما يقولون، ويصبح ما بينك وبين من يجلسون معك فقط ما تشعر به تجاههم، تحبهم، تكرههم، لا ما تراه منهم.

جلستي الأسبوعية، ماذا يتبقى منها غير أحاديث تافهة. لكنها العادة، الرغبة في معرفة ما يدور حولي. تتلاشى أصوات الرجال وتبقى إحداهن تحكي في أذني:

يلومونني على محاولة التخلص من الجنين، ماذا كان بيني وبينه، غير القرف والنزيف والوجع، لا يقوم من فوقي إلا ليأكل، مستعجل يريد الولد الذي يزيد عائلة “النحال”، وأنا بقرة للعشار، والفحل لا يترك البقرة، والسؤال في العيون، يوم بيوم تتابعني الداية. كرهت نفسي، بطني، “محمود” زوجي وكل الذي من رائحته…مثلي مثل أية واحدة، نقى واختار الأحسن بالنسبة له، جميلة، مطاوعة وأهم شرط قوية تقدر تشيل، وكله من أجل ضمان الخلف. وفجأة أصبحت صحته في النازل. يقولون نَفسي كان وحش عليه، وأنا ؟ماذا أخذت من نفسه؟ ولد حرموني منه، وميراث رفضوا حصولي عليه، حتى ما أخذته بالمحاكم كان مصدر طمع لمن يرغب في الزواج مني. محاولات الإجهاض، الولادة المتعثرة بعد وفاة “محمود”، أراحتني من عبء طفل جديد، لكن عوض لا يعرف كل هذا كل ما يعرفه أني تركته، الخيار لم يكن لي، جدته صاحت:

- عايزين ابننا بس.

- وأنا ؟

- مكان ما كنتي، بيت أبوك أولي بك، ابعدوا عني وجه الشؤم.

هل كنت أصدق وأنا أستمع إليها أن “عوض” سيصبح يوما الرجل الوحيد الذي يسكن بيتي؟! يحتل مكتب “فؤاد” ويملأه بالثعالب والذئاب المحنطة، وفي الصباح يدخل حجرتي وفي يده أوراق يطلب التوقيع عليها وحينما أنظر لراوية تفر مني عيناها.

حميمية صوتها وأساه ترجعني لصوت داخلي: السجاد لو اتسخ ننظفه، المشكلة أن فيه حاجات أهم لو اتسخت مش ممكن تنظيفها.

وتشير إلى قلبها .. “الياصابات” الراحة في ظل شجرة كافور بجوارها زير به ماء بارد، لمسة قدمي المتعبتين لبلاط مندى، وخدر راحة يشملك من أصبعك الصغير إلى منبت الشعر في رأسك.

تنتظرني في الفراندة يوم السوق أضع “السبت” أمام الباب المؤدي إلى الصالة، خوفا من توسيخ السجادة، فترفع يد “السبت” وتشير أن أرفع اليد الثانية:

- السجاد لو اتسخ ننظفه، المشكلة أن فيه حاجات أهم لو اتسخت مش ممكن تنظيفها.

المرة الأولى التي أسمع منها كلمة مشكلة فقد كان لديها حل لكل الأمور حتى ليتبدى لمن يعرفها أنه لا توجد لديها مشكلة، أو أنها لا تعرف معنى هذه الكلمة.

وعندما طلب فؤاد يدي، كانت مشورتها أول ما فعلت، وكان رأيها: فرصه هايله، حكاية السندريلا بتتكرر، أحيانا.

أفاقتني كلماتها على الحقيقة التي تغافلتها، السور العالي الذي يفصل بيني وبين فؤاد، المساحات الشاسعة التي تفصل السرايا وفدادينها الأربعة عن بيتنا القابع بعيدا حارسا للمقابر.

وماذا عن مجلاتها التي تحكي عن ملك الإنجليز الذي تنازل عن عرشه من أجل حبيبته المطلقة، وملك المصريين الذي سيتزوج للمرة الثانية من الشعب.

–الجواز مش فسحه.

لكن شيئا لم يكن ليثنيك عن رغبتك.

هي أيضا لم تكن تحاول، كل ما في الأمر أنها كعادتها تنير لي ما حولي كي أراه جيدا. ساعدتني في اختيار ما أحتاجه كعروس وقررنا السفر إلى “المنصورة”. “المنصورة” كانت حلما وكنت أسمع عن “سوق الخواجات” الذي يباع فيه كل شيء فاقترحت مندفعة:

- نروح سوق الخواجات، سنيه بنت العمده اشترت شوارها من هناك.

- عمده! انسي حاجات الفلاحين، شوارك هيكون من أحسن المحلات في السكه الجديده.

ولم يكن ذلك آخر الأشياء التي كان علىَّ نسيانها، فقط كان أول القائمة. وهناك، ونحن نسير على البحر أشارت إلى عمارة عليها لافتة كبيرة في السطر الأول رضوان بك الكاتب وفي الثاني وبخط أصغر قليلا “محامي بالمحاكم الشرعية والمختلط”.

– ده مكتب المرحوم حماكي، ومن يوم وفاته مقفول. خسارة. لو فؤاد بك يشغله.

احتفظت بملاحظتها بالقرب من أذني، أتحين الوقت المناسب كي أطرحها على”فؤاد”.

وأنا مستغرقة في أفكاري طلبت هي من السائق:

- شارع الشريف الرضي في توريل يا أسطي!

وبالقطع لم أكن أعرف ما هو “توريل”؟ وأمام البيت رقم سبعة وقف السائق، صعدنا إلى الطابق الثالث، وأمام أحد بابين وقفت وأخرجت من حقيبتها مفتاحا ودخلنا البيت، هتفت فرحة كطفلة تستعرض فستانها يوم العيد، لكنها كانت تستعرض اتساع شقتها ونوافذها الواسعة التي ترى من جانبها النيل.

– إيه رأيك؟

– هتسيبي البلد؟

ويبدو أن نبرة صوتي كانت تحمل من العتاب أكثر مما تحمل من التساؤل، فجلست في أقرب ركن ويدها على فمها:

- تعبت. سارة نفسها تعبت، وأنا مش زوجة نبي.

- هشوفك تاني؟

- طبعا هازورك وتزوريني، والسواق ممكن يوصلك.

نقلت “الياصابات” عفشها وساعدتها في تجهيز أغراضها وعندما هممت بربط ماكينة الخياطة اعترضت:

- دى هسيبها لك.

بعد زواجي لم أر “الياصابات” حتى كان مولد ابني الأول، وكنت أطمئن عليها خلال متابعة حملي مع زوجها الدكتور “ناجي”. زارتني يوم “السبوع”، وأحضرت معها أبريقا كبيرا مزركشا.

سألتني كيف حال ماكينة الخياطة؟

– في عيني.

- بتستعمليها؟

- مفيش وقت.

- كل شيء له أوان.

وجاء الوقت الذي أصبح لي حجرة تخصني، حجرة فسيحة، تتمدد لتسع السحب البيضاء والغزلان والمراجيح وصور لابنة حبيبة التي أنتظرها.

يتبع

No comments: