الفصل السادس
“لا شيء يفتك أقوى من الحبس والجدران”.
واحدة من مقولات عديدة تؤمن بها حُسنة، لكن ليس كل ما يؤمن به المرء يفعله، ففي أحيان كثيرة كان العام يمر دون أن تخرج من بوابة سرايتها، ولكنها وبنفس القدرة على الابتعاد، حرصت على أن تظل صِلاتها بأهالي قريتها مستمرة، وأن تفتح نوافذ روحها للعالم تتلقى بعضا من نسماته وكثيرا من أعاصيره.
وعندما أخذ شيخ الجامع الكبير يصب لهيب نيرانه وهو يتوعد المارقين والمفسدين في الأرض “الذين يصنعون تماثيل تضاهي خلق الله الشريف ولكنهم خسئوا ولهم سوء المنقلب”، كان على حسنة أن تستدعي مقولة: “أعط اليد يقصر اللسان”. فارتدت البالطو الأسود فوق فستانها الأزرق ذي الأزهار الصفراء، وأحكمت طرحتها البيضاء حول وجهها مما أكسبه استدارة ليست فيه، وتأكدت من كثافة شرابها الأسود وبالطبع لم تنس خواتمها وأساورها الذهب، وحرصت ألا يزيد ما تضعه من عطر العود أكثر من قطرتين، بما يسمح بتنسم الرائحة الحلوة ولا يثير شيخ الجامع ويجعله يتلوى:
- أستغفر الله، أستغفر الله.
سبقها “حامد” البواب ليتأكد من وجود الشيخ في بيته للقيلولة، واصطحبت معها خادمتها “فاطمة”، كان بإمكانها أن تستدعي الشيخ إلى السرايا، لكنها أرادت أن يراها الجميع في سُرة داره، وقبل أن تلتقط كوب الليمون الذي قدمته لها زوجته “سكينة”، وبينما هي تعلم تماما وتحس بعشرات الأنفاس التي تتجمع حول النافذة لتعرف سبب زيارة الست للشيخ، أخرجت من حقيبتها السوداء اللميع مظروفا به خمسون جنيها، ووضعته على الصينية النحاس.
- يا شيخ عبد الجواد، الجامع من زمان متجددش، وحاله مش عجبني، الفلوس دي تتصرف فيها، وتشرف بنفسك على التجديد، والباقي لأهل الله.
- ربنا يزيدك يا ست حُسنة من نعيم الله، ونِعم الناس.
فانتهزت العبارة وقالت ما جاءت من أجله:
- يا شيخ عبد الجواد بيت الفقي طول عمره طاهر.
- طبعا يا ست إنتم الأساس.
فنهضت لتسلم عليه، وضغطت على يده بما لا يجعله ينقض وضوءه فقط، ولكن بما يتيح “لسكينة” زوجته أن تتباهى وهي ترش الماء المعطر بالصابون مرتين في يوم الجمعة المباركة.
استطاعت أن تخرس الشيخ عبد الجواد لكن” النقود لا تفلح دائما”, فهناك آخر قريب إليها بدرجة خال رفض حتى أن تحدثه في شأن “يحيى”, كما رفض زواجه بابنته “صفية”. فالخال لم يكن راضيا عن زواج ابنة أخته حسنه من “البيه فؤاد”، واتهم أباها علانية بأنه باع ابنته مقابل عشرة قراريط، وأن ما بين حسنة وفؤاد بك ليس إلا نزوة وإن كانت على يد مأذون.
لم يكن لهذا الكلام معنى، خاصة بعد مرور أربعة أعوام على زواج حُسنة وإنجابها لمنير وعاطف، ولكن لو فكر البعض قليلا, وعرفنا بقيام ثورة يوليو والشائعات التي انتشرت عن تجريد الإقطاعيين من أملاكهم، لأمكننا تفهم دوافع الخال الذي أعلنها صريحة، إنه لن يزوج ابنته من طالب فاشل، لا يكف عن إغضاب الله وجلب اللعنة للبلد بالمساخيط التي يصنعها.
وقد كان لديه عدة تبريرات أقوى مثل:
- إنهما أشقاء في الرضاعة.
- إن يحيى لم يكمل تعليمه بعد.
- إنه لن يزوج ابنته لأقل من مهندس زراعي واسمه رزق.
ومع كل التبريرات فقد شعرت البلدة وخاصة النساء أن الرجل قد أخطأ. فيحيى الذي يصغر حُسنة بثلاثة أعوام، كان وسيما كملاك, وفي عينيه سماحة وإغواء يدفع النساء، وخاصة الحوامل للتحديق في وجهه. يذهب إلى الكتاب، يحفظ القرآن, ينتقل إلى المدرسة الابتدائية ثم الثانوية، لكنه لا يترك حافة النهر، يجلس عادة تحت شجرة الصفصاف التي تتبارك بها النساء، و يسمونها شجرة النبي.
تتجمع النساء حول الشجرة، يتأملن في إعجاب الأشكال الطينية التي يصنعها “يحيى”، مركب، جمل، عريس، عروس. يجمع الأشياء فوق شباك “المندرة”, وأحيانا يهادي بها “صفية” التي كانت زميلته في “الكُتَّاب”، وككل الحكايات القديمة كانت هي أجمل بنت وكان هو أجمل ولد, ومن فم الأولاد الذين يقسمون العالم على هواهم دون حسابات خرجت عبارة “يحيى لصفية وصفية ليحيى”، وبعد انتهاء الكُتَّاب مُنعت صفية من الخروج للبيت إلا للضرورة القصوى، التي تسمح بأن يراها العريس المناسب، أو تتحدث أخت لأخيها عن جمالها وأدبها وكمالها، الأصيلة بنت الأصول، وذهب”يحيى” إلى المدرسة الابتدائية في “الزرقا”، ثم المدرسة الثانوية بالمنصورة، إلا أن الحب كنبات اللبلاب تعرف أين جذوره، ولكن لا يمكنك التنبؤ إلى أي مدى سيصل.
نمت العلاقة بين صفية ويحيى بتلقائية وبراءة، يرعاها ويحنو عليها ويدافع عنها، وهي تعطيه من مصروفها وتقاسمه ما تشتريه، وفي ذهن كل منهما “يحيى لصفية وصفية ليحيى”، وبمرور الوقت اكتشفا أن ما بينهما يختلف عما بين يحيى وحُسنة, تنبهت صفية إلى الأمر وإلى ما يعتريها من شوق ليحيى, وبدأت تنتبه إلى تفاصيله وتحفظها, وأصبحت صفية هي النموذج الذي يجسد كل تماثيل ومنحوتات يحيى، وتزايد الضيق الذي يعتريه إذا غابت، والأحلام التي يرى فيها صفية وتنفس عن ضغطه، وأمسى لا ينام إلا وصفية في عينيه، في شفتيه. عذَّبه كثيرا شعوره بإثم أحلامه، وزاد من شعوره إحساس قديم بالذنب تبعثه ألعابه الطينية التي هدده الشيخ “عبد الجواد” وهو تحت يده في الكُتَّاب “كل روح ستأتي يوم القيامة وتقول لك أحييني ولن تستطيع “.
لم يكن يحيى وحده الذي يتألم، صفية أيضا كانت تعاني، ولكن قدرة البنات على الإدراك أكثر عمقا، حتى كان يوم جاءت فيه صفية وهي تحمل صفيحة الماء لتزود به بيت عمتها، كان يحيى وحده بالمنزل وكانت صفية تتمنى ذلك، نهض ليلقاها ويساعدها في إنزال الصفيحة، سقطت مياه الصفيحة عليهما، ابتل جلبابها القطني، وجسم تفاصيل جسدها فكانت تمثالا دقيق النحت كما تمنى دائما أن يصنع، لكن أحاديث شريفة يرويها الشيوخ تجعله يكتفي بمشاهدة التماثيل في متحف المنصورة، دون جرأة على الاقتراب من أو لمس الصلصال.
وإذا بهما جسدان ملتصقان, أعضاؤهما تصرخ بالرغبة في الالتحام والعودة إلى الأصل خلية واحدة انقسمت وحان أوان عودتها واكتمالها، تقلبا على تراب الحجرة الداخلية، لم يشعرا بالطين الذي لطخ ملابسهما، كان كل منهما يعرف جسد الآخر، كأنما تعانقا آلاف المرات، انتقلا إلى الغرفة الأخرى حيث خلعا ملابسهما، ولم ينتظرا فكل عضو من أعضائهما يعرف طريقه للآخر تماما.
تسربت كل مخاوف صفية وبقت مستكينة على ذراع يحيى، وعندما ارتوت شعرت بالعطش, قام يحيى ليحضر لها قلة الماء, وهو واقف يشرب تأملته صفية بعينيها، تكوينه الدقيق، شعره المتهدل وقد التصق على جبهته، والشعيرات القليلة النابتة في وسط صدره، السُرة التي يزداد تحتها كثافة الشعر، الوحمة الحمراء في فخذه الأيسر، شعرت صفية أنها ربما تكون المرة الأولى والأخيرة التي يُتاح لها أن تتأمل جسد رجل تحبه، وشعرت بحنين طاغ ورغبة في البكاء، أن تضمه مرة ثانية إلى صدرها، تضمه كوليد ستحمل فيه تسعة أشهر وعندما يصبح بين يديها يتبخر، أخذت تبكي، ويهتز جسدها في تشنجات متتابعة، لم يفهم لها يحيى سببا، ولما هدأت ملأ يحيى فمه بالماء وقرب فمه من فمها، وعندما التحمت الشفاه سقاها الماء مختلطا بريقه، وظل يحيى يهدهدها.اعتقد أنها خائفة من عاقبة ما حدث بينهما، فأخذ يقبل رأسها، ويقسم أنه لن يتخلى عنها أبدا، وسيفعل المستحيل لكي يرضى أبوها ويتزوجا، ومن أجل عينيها سيترك التماثيل، فهي تمثاله الوحيد وكل عالمه.
لكن في المساء كانت قراءة الفاتحة بين خاله والأستاذ “رزق” مفتش الزراعة الذي يشتهر بعينه الفارغة وشربه للحشيش، وبموافقة صفية التي استدعاها أبوها وأخبرها أن المهندس رزق تقدم يطلب يديها والليلة خطبتها، وعندما همت بالاعتراض صرخ فيها – اخرسي يا فاجرة.
ولطمها على وجهها، فانسل “الحلق” من أذنها، وتمزقت حلمة أذنها اليسرى، وللمرة الثانية في هذه الليلة كان على صفية أن ترى دماءها، سقطت ثلاث قطرات من أذنها على تراب الحجرة، ثلاث قطرات حارة، ساخنة, لزجة، قانية، قادرة على استحضار الحياة، لتعود “حواء” مانحة الحياة التي تجدد نفسها كل شهر. وتُكمل “إيزيس” رحلتها بحثا عن الأجزاء الضائعة من جسد حبيبها الممزق، تنقب عنها في كل مكان حتى تتمكن من جمعها كلها، ثبتتها معا برباط، تستخدم تعاويذها لكي تعيده إلى الحياة.وتتخلق “عشتار”، تفر من أعماق العالم السفلي لتنقذ العالم من الجدب وشبح القحط فتهطل الأمطار، وتجري الأنهار، وتثمر النباتات، وتكثر الغلال، وتزداد المحاصيل، ويرفل العالم بالرفاء والغنى.
في تلك اللحظة تشبعت صفية بهذه القوى القادرة على دحْر الموت وتحقيق الخلاص.وما كان لي كملك للموت أن أتدخل أو أمنع شيئا ففي مثل تلك اللحظات يصبح الإخصاب والموت وجهين لعملة واحدة. ومن الدماء وروح الإخصاب، تكونت صفية أخرى، صفية جديدة لا أدري موقعها مني، ولا تعتقدوا أن الأمر كان يسيرا عليَّ فلطالما تساءلت ماذا أفعل عندما يأتيني أمر الرب؟ أي الصفيتين سوف أصطحب وأيهما التي تنهمر دموعها وهي تقول لأبيها:
– مش عايزه أتجوز.
– ليه؟!
– يحيى؟!
اخترقتها عيناه الثاقبتان، النافذتان:
– هتتجوزي رزق أو موتك على إيدي.
ووضع حذاءه على رقبتها:
– حاضر. حدد الميعاد المناسب.
– لو سليمة هيبان، لو كنت معطوبة..
وفمها ملوث بالدم رددت بآلية:
– شرفك متصان يا با.
هوت بها كفه الكبيرة إلى الواقع, لم ينقطع فرع اللبلاب، فقط التوى قليلا, لكن العينين الحادتين والصوت الغريب الذي لم تسمعه من أبيها من قبل أصابا روحها بالعطب، وأيقظها على حقيقة لم تكن تعرفها في نفسها، ووصمها بعهر ستظل دون وعي منها تؤكده في تصرفات لا تعرف قرارها، تمارسه مع زوجها فكانت تراقب نفسها وهي معه، وتصر على إنهاكه منذ ليلتهما الأولى. بعد أن استوعبت أمها سرها، وبهدوء ودربة لوثت مابين فخديها بدماء الحمامة التي أكلها “رزق” ولم يكمل نصف الثانية، كي يتيح لقرش الحشيش وربع “البراندي” أن ينقله إلى الجنة. التلامس المباغت كانت تخطط له بحنكة ودربة، ليالي تشتعل فيها ولا تنطفئ ، بينما زوجها إلى جوارها راض كل الرضى عن “اللبؤة” التي تزوجها، والتي يتباهى بقدرته على إشباعها في جلسات “الحشيش” على شاطئ النيل، وعندما تحاول واحدة من عشيقاته القديمات التعريض بها يحلف بجسدها ويصفها، وأصبحت صفية مشاعا على النواصي والمقاهي، تُراقب حلمتي ثدييها المخترقتين للسوتيان و الجلباب و الطرحة، ويعد الجالسون في الشارع حركات مؤخرتها.
صفية التي جاء أحدهم إليها في منتصف الليل، وخبط على بابها عاريا وبين يده عضوه مترنحا:
- أموت وألحس يا صفية .
فأغلقت الباب في وجهه، وأغلقت فمها وروحها وحواسها على صرختها، لكن صفية الأخرى، نحتها جانبا، وفتحت الباب لتجد الرجل مازال متسمرا في مكانه، فسحبته من عضوه، أرقدته على المصطبة في الحوش الخارجي، وبركت فوقه وظلت تهتز عليه حتى قارب الفجر على الآذان، وبدأت غبشة الليل تختفي، والرجل تحتها فارق الوعي، وعندما نهضت من فوقه كان عضوه كعود ملوخية جففته شمس الظهيرة. أخرجته من رحمها، وألقت به وسط عيدان القش أمام الدار. وعندما مر أحدهم ورأى النائم على المصطبة، حاول إيقاظه، ولما فشل خبط كفا بكف وتمتم:
– لا حول ولا قوة إلا بالله. الراجل مات.
تعاطفت النساء مع صفية واعتبرنها تميمتهن، كأنها ثأرت لهن من أزواجهن الذين يمضون بعض الليالي في أحضان غوازي الموالد، وعندما يعودون يتبرمون من زوجاتهم ويشبهونهن بالبقر. تلاشى الكلام عن صفية، صارت لها رهبة وسطوة، وكل من توسوس له نفسه بالهمس عنها يتذكر الرجل الذي وجدوه أمام دارها، فلم يعد الرجال يتباهون بفحولتهم، فقد صار هناك حاجز ينتظر الموت من يعبره، وهو ما لم يحاوله أحدهم بعد موت جارهم. تبتسم المرأة التي يتنمر لها زوجها، وتطيب خاطر نفسها، وهي تشد اللحاف على وجهها:
– والله أنت مالك إلا صفية تعرفك مقامك.
وعندما عاد “يحيى “بعد ست سنوات من دراسته للطب، كان ما يشغل “صفية” كيف يمكن أن يكون العتاب؟ من أين يبدأ؟ تخشى لحظة المواجهة، لكنها تحتاج إليها لاسترداد روحها التي تشعر بانقسامها. يستطيع الإنسان أن يحمي نفسه من الآخرين ولكن من الصعب أن يحمي نفسه من نفسه. تتساءل من منهما ترك الآخر هل هي التي تخلت عنه حين استسلمت لعريس أبيها؟.هل هو الذي هرب ولم يعد إلى البلدة إلا بعد أن ظن الجميع أن ما بينهما انتهى.
في غيابه تزور زوج عمتها وتنظف الحجرة التي شهدت حبهما، تتلقط أخباره من حسنة، لا يرد لها ذكر في خطاباته، لكنها تعتبر عبارة كيف “حال أهل البلد” لها وحدها.هل تجرؤ على لمس خطابه؟ خطه المنمنم بقلم أسود على ورق وردي به ورود صفراء.
عاد إلى البلدة منذ ثلاثة أيام، لمحته في طريقه للجامع مر من أمام بيتها، هل يعرف أنها في الداخل؟ أرسلت لها حسنة، لم تذهب تعللت ببرد أصابها، زارتها حسنة، وهو معها، فحصها، تعامل معها كأنها مجرد مريضة، لم تكن مريضة، لكنها الآن مصابة ترتجف من الحمى.
– حرارتها مرتفعة.
يتهمها بالخيانة؟ نسيها؟ أحب زميلة له؟ لماذا يعاملها بهذا الحياد؟ ما الذي تريده؟ ذهبت إلى بيت عمتها كي تشكره.
كان غاضبا حانقا, وكانت هي هشة منتفخة كبالون ينتظر لمسة حانية تعرف خبايا روحها، وتجعلها تستسلم لرغبتها، وتأخذها بعيدا إلى الضفة الأخرى لنهر جفت مياهه، أصابعه القادرة على تمسيد مسامها والنقر على خلاياها كي تخلع جلدها الميت، وتنبت لها حواس جديدة,
- هتفضل تحبني؟
- طبعا.
- مهما حصل؟
- مهما حصل.
وعندما اجتمعت العائلة للاحتفال بعودة يحيى وبينما هم مجتمعون في الحديقة في انتظار الغداء، اقتربت طفلة من صفية وطلبت نفخ بالونتها.
- بنتك؟
هزت رأسها موافقة، أشار يحيى للصغيرة، استكانت في حضن أمها.
- روحى لخالك يا نور.
قبلها:
- بنتك شبهك. حلوة قوي.
همست:
- بنتنا.
وضعت البنت في حجرها، ورفعت فستانها، وكشفت عن وحمة حمراء في منتصف الفخذ، ستستغرب لها الداية في كل مرة تلد فيها صفية، وهي تخبط على مؤخرة بناتها الثلاث نور وشمس وقمر واللاتي سيولدن دائما بعد سفر يحيى بسبعة شهور، لكن من يحسب أو يهتم لهذه التفاصيل التافهة.
- بناتك حلوين يا صفية.
- بس يعني الوحمة.
- يا أختي بكره تروح.
- بتتوحمي على إيه يا صفية؟
- بتوحم على أبوهم.
وعندما سألتها حسنة يوما ألا تشعرين بالندم؟ أجابتها:
– مش ندمانه على اللي عملته، ندمي على اللي معملتوش.
قبل أن يسافر إلى ألمانيا للحصول على الدكتوراه أحضرت كومة من “اللبان الدكر”، وطلبت منه أن يمضغها واحدة تلو الأخرى، وبعد أن يفرغ من واحدة تأخذها وتصرها في منديل لا يفارق ثدييها، وكان من أعجب ما تتلقاه حُسنة من أخيها من هدايا للعائلة مع خطاباته كيس اللبان الممضوغ لصفية.
وبعد أن استقر يحيى في القاهرة وفتح أول مستشفي للتجميل في مصر، كرر رجاءه:
- اطلبي الطلاق ونعيش في القاهرة.
- رزق عمره ما هيوافق.
اصطحبها لرؤية فيلته في المعادي، بيضاء من الخارج، دورين جديدة، بريئة، خفيفة كأنما تطير في الهواء. تشاهدها من بعيد والسيارة تقترب منها، دخلا الدور الأرضي، مفروشاته دافئة الألوان، والإضاءة ناعمة، قادها إلى المدفأة، مصممة على الطراز الإنجليزي، فوقها تراصت عدة صور مؤطرة بالأسود.. صورتها، صور لبناتها وهن في حديقة السرايا…
أمام المدفأة كرسيان من القطيفة الزرقاء
- هنا نجلس في الشتاء.
صعدا الدور العلوي.
- أوضة البنات. هي أوضه واحده، لكن واسعه.
فتح بابا آخر: ودى أوضتنا!
لكنها لم تشعر بذلك. سألته فجأة:
- إنت ليه مجوزتش لحد دلوقتي؟
- مستنيكي!!
شعرت أنها منتبهة لكل ما يحدث بينهما. تراقبه كما اعتادت أن تراقب زوجها. عندما رقد بجوارها، تركت له يدها يقبلها، وأخذت هي تراقب السقف، زجزاج ألوانه المتداخلة بين الأبيض والبمبي حتى منتصفه حيث فتحة دائرية من زجاج شفاف يطل على السماء والنجوم البعيدة.
يتجمع المتناثر من ومضات الضوء، تجلس على حافة السرير، تتعرى تحت المخروط القادم من رحلته اللانهائية، متعبا محبطا غريبا، تستكين في كفها الومضات الواهنة، تغتسل بها تتلألأ في الكف خطوطه المحجوبة. أمام مرآة الحمام تمشط شعرها، سقطت ثلاث قطرات دم من أنفها، امتزجت القطرات الثلاث مع مياه الصنبور وتسربت إلى المجاري. عادت إلى الحجرة، ما زال يحيى نائما محتضنا بذراعه مكانها الذي سيظل فارغا.
No comments:
Post a Comment