ليست “حُسنة” وحدها التي تنتظر.
فكل أوقاتي انتظار، أجلس في مكاني المختار، في يدي اللوح المكتوب، وعن شمالي شجرة أوراقها أعمار كل البشر، فإذا قَرُبَ أجل بني آدم يبست ورقته، نزلتُ أقبض روحه وأشطب اسمه من اللوح. الشجرة أوراقها خضراء زاهية، لكن ليست خضرة كل الأوراق واحدة، بعضها تبدو ذابلة صفراء عليلة، وأخرى يانعة، تسري فيها خضرة الحياة. أما الورقة التي شدت انتباهي دونا عن كل الأوراق فكانت ورقة يابسة بلا روح، أعوام وأنا أراقبها وأحدث نفسي: غدا ستسقط، الآن ستسقط، لكنها في مكانها، بحثت عن صاحبها فوجدتها “لعوض” زوج “راوية”..
لفت انتباهي ذبذبات صوته العالية، السريعة، كأنما يتخلص من عبء دون أن يهتم إن كانت رسالته وصلت أم لا، وبمرور الوقت تصبح ذبذباته رسالة لامبالاة من رجل يستخسر بذل جزء من طاقته للآخرين. طريقة لا تبعث الثقة في صاحبها، هي في الحقيقة تدل على الاستغناء، وعدم الحاجة إلى الناس. وإن كانت تجعل النساء بما فيهن راوية تسألن: لماذا يُعطي العالمَ وجهه الذي لا يحب؟
فتتهامس المسنات: “أصيب أبوه “محمود النحال” بمرض غريب جعل وزنه يتناقص بسرعة كبيرة حتى مات ووزنه لا يزيد عن أربعين كيلو، ولم يكن مر على زواجه ثلاثة شهور، كانت زوجته “سميرة” في أول الحمل، حاولت إجهاضه أخبرت الداية حماتها، اشتعلت الحرائق في بيت النحال، وبعد ها بيومين مات محمود. اتهمها أهله أنها السبب في موته، فكرهوها ومنعوها من الخروج حتى وضعت، وجدته زوجة “النحال” الكبير، أسمت المولود “عوض”، وطردت أمه دون ميراث ومنعتها من رؤيته”.
أما الحكاية التي لن تسمعها “راوية” من أية امرأة فهي: أن الولد اليتيم مرض ذات مساء، بمرض يطلق عليه الأطباء “الجفاف”، وعلاجه يحتاج رعاية وتناول محاليل ملحية، خافت عليه جدته أن يلحق بأبيه، نصحت إحداهن الجدة فوضعوه في قبر، وقالت لها إن الجان قد استبدلوه بابن لهم طمعا في جمال ولدها ويمكن استرداد الوليد الريان بتركه في قبر مهجور ثلاث ساعات قبل وأثناء صلاة الجمعة ومعه ثلاثة أرغفة من خبز القمح الفاخر. ولما عادت النسوة إليه كانت صفرته ورجفته قد اختفتا، وحلَّ محلهما لون أحمر محتقن، سيتحول هذا اللون إلى سمرة ليست من عائلته، ولكنها من سديم روحه التي تاهت بين السماء والأرض، لم تهتم الجدة بهذه الملاحظات كل ما يهمها أن الولد كان جائعا، وبدأ في التهام الطعام الذي قدمته له واعتبرت هذا من علامات تمام الشفاء، ومن فرحتها لم تلحظ حركة عينيه السريعة وما تخفي من خواء مريع.
وسينمو الولد ويكبر دون أن يعرف أحد أن روحه فارقته من سنوات، ولن تكتشف ذلك سوى إحدى عشيقاته، التي ستحاول أن تفديه، وتشاطره روحها، لكن ذلك كان متأخرا جدا، فالولد كان قد تعود أن يعيش بلا روح، حتى أنه ضربها حينما أقامت زارا كبيرا ترضية لملك الجن الذي سرق روحه من أجل ولده، ومع دقات الزار رضي الملك أن يخاوي ابنه.
ولكن العجيب أن “عوض” لم يتحمل وجود روحه في بدنه دقائق، فانتفض وقذف عشيقته براكية النار، ولطف الله فلم تصبها النار بل جُرح كعبها، فلم تكررها ثانية.
أما الحكاية التي لا يعرفها أحد أبدا، ولا يمكن أن أحكيها فهي أن “عوض” كان يأكل نفسه، وأن أعضاءه كانت تنسلخ منها رقائق تنزل مع برازه وبوله، وحتى مع زفير تنفسه، وسوف يفاجأ الطبيب الذي سيرتاب في سبب موته، عندما يشرحه بتقلص أعضائه الداخلية وتحولها إلى حبات ليمون متناثرة منحوتة كما الجبال التي بردتها عوامل التعرية، وكأن سكينا ظلت تكشط من طبقاتها بانتظام على مدار خمسين عاما، وربما يكون عضوه هو الشيء الوحيد الذي نجا من هذا النحت. وليس أمامنا غير احتمالات ثلاثة لتفسير هذا.
الاحتمال الأول: أن عضوه لم يتأثر لوقوعه خارج جوفه.
الاحتمال الثاني: أن عضوه يعوض ما يفقده من أنسجة النسوة اللاتي يعاشرهن.
وهناك شائعة تقول إن النساء اللاتي عاشرهن على كثرتهن أصيبن بقرحة في أرحامهن، ويؤيد هذا الاحتمال عدم استمرار علاقته الجنسية مع أي واحدة أكثر من شهور قليلة.
الاحتمال الثالث: أن “عوض” كان يدرك تماما أهمية عضوه فبادله سرا بروحه.
وأرجح أنا هذا الاحتمال.. فهو كرجل يمكنه أن يتنازل عن روحه ويبيعها حتى للشيطان، ولكن لا يمكن مهما كان كارها لنفسه وللآخرين أن يتنازل عن عضوه الذي يحدد وضعه وترتيبه الفحولي وتسيده.
وحتما فإن “عوض” كان ابنا بارا لثقافته العضوية.
ولأن “عوض” رغم كل صفاته كان لديه شيء من الحظ بالمفاهيم الدارجة التي تعتبر الخير “خيري أنا”، والشر “مصيبتي أنا”، فقد كانت حيواناته المنوية هي الأخرى منحوتة، مقروضة، ولذا لم ينجب سوى “حبيبة” وإلا لكانت لديه قبيلة من الأبناء غير الشرعيين يقاسمون حبيبة ميراثها. ونتيجة لذلك كان على حبيبة أن تتحمل وحدها إرثه ووزره وخطاياه. ورغم أهمية “حبيبة” لنفي أي شائعة تتعلق بقدرته الجنسية، رغم هذا كان يعتبر حبيبة خطيئته وهو الذي كان يستخسر أن يلقي ظله على الأرض ولا يريد أن يترك للعالم شيئا.
ولو كان الأمر بيده لما أدخل شيئا في جوفه، لكنه كان نهما لشرب السوائل فلا يمكنك أن تراه دون أن يكون بيده كوب ماء أو شاي أو عصير فاكهة، وكان يضع إلى جوار سريره دورقا كبيرا مليئا بشراب الليمون، ليروي عطشه الدائم حتى أثناء نومه، وكلما وقع ما يوتره شرب أكثر، وكان هناك الكثير الذي يوتره.
لكن شيئا لم يوتره مثلما حدث حين حضر افتتاح معرضها الأول، فوجئ بأن جميع اللوحات المعلقة في قاعة العرض لرجال عراة في أوضاع مختلفة. لم يكن منبع الصدمة الأجساد العارية، لكنها المرة الأولى التي يرى فيها رجالا عراة يستعرضون عريهم وطبقة رقراقة من الخجل تكسو وجوههم، حتى العري في التماثيل القديمة كان عريا لاستعراض جمال الجسد وتنسيق عضلاته، ولكن عراة ابنته أجسادهم مريضة كالحة مترهلة. وما أزعجه أكثر نظرة الخواء التي تملأ عيونهم والتي ذكرته بنظرة يراها في المرآة وهو يحلق ذقنه كل صباح. لم يجرؤ أن يسألها، لكنه انتبه لوجودها وكيف تنظر إليه، أجهدته في الأيام القليلة التي تقيمها في السرايا يشعر أنه مراقب تحت عدسة ميكروسكوب .لا يمكن لابنة أن تفعل ذلك بأبيها، كان آخر ما يتمنى أن يترك على الأرض لوحة لجسده عاريا، عريه فضيحة، أكبر حتى من فضيحة أن تعود إليهم وعلى يدها طفلة مستنسخة منها.
يخاف “عوض” من عريه وعري الآخرين، حتى الجنس لم يكن بالنسبة له أكثر من طبق مشمش فارغ، وامرأة تخرج من فمها النواة الأخيرة وتمضغ سؤالها مختلطا بلحم المشمش:
– خلصَّت..؟
وصار هذا هو الوضع الأنسب له، فمع اندماج السيدة في إدخال حبات المشمش في فتحتها العلوية يكون هو مخترقا فتحتها السفلية.
لكن ماذا يحدث في الأيام التي لا يوجد فيها مشمش وهي كثيرة؟ أحيانا يفي البلح الرطب بالغرض، ولكن لا شيء يعدل المشمش. يركز مع نفسه فلا يعطي ولا يأخذ، وتهرع المرأة لتغتسل ويسقط بين فخديها سائله، تتخلص منه، ولا يغادر الغرفة المعتمة دون أن يتأكد من ذلك، كالشبح لا يبقى له أثر.
وقد قلق بعد زواجه من “راوية” ومحاولتها التقرب منه، وتلقائية استجابتها له. أخافته حرارة جسدها، وأطلقت توتره وأفقدته سكونه الداخلي وقدرته على التحكم في نفسه، فأصبح يتجنبها.
التباعد الجنسي لعوض لاقى قبولا من “راوية” التي كانت جزيرتها هي الأخرى تزداد عزلة بقدر ما تنمو أعمالها في الخارج، ففي لقاءاتهم الأخيرة كان عوض سريع القذف ولم يكن يلتقي معها أبدا، وهي تتألم من أقل احتكاك، صارت معاناتها واستحمامها في الشتاء للصلاة لا تستحق حتى أنها كانت تتساءل أي متعة حصلت عليها كي تتطهر منها. وفاجأها في آخر لقاء لهما بخروج بعض الديدان البيضاء الصغيرة من فرجها، مما أرعبها منه ومن نفسها، ولم تجرؤ على محاولة تكرار التجربة لمعرفة من منهما يتعفن من الداخل أكثر. لكن الشيوخ الذين تتبعهم كانوا يهددونها بالرب والقانون. فماذا تريد المرأة من الرجل؟ وكانت تحفظ مقولات الشيخ كشك في آداب الجماع وترددها حين يوسوس لها الشيطان: ” لقد بنيت العلاقة بين الرجل والمرأة على خمس:
- الجماع ابتغاء الولد وليس المتعة.
– عدم التعري لأن معكم من يستحونكم من الملائكة.
- يبيح الإسلام الرفث وهو الكلام الذي يزيد الرغبة الجنسية”.
ورغم إيمان “راوية” التام وغير المنقوص فإن الرفث هو ما لم تستطع أن تنطق به أبدا وما لم تشعر بالرغبة فيه.
وعندما قرأت فيما بعد في مجلة “طبيبك الخاص” عن طريقة لعلاج القذف تسمي “ماسترز وجونسون” وتتلخص كما وصفتها المجلة في القبض على العضو الذكري بأصابع اليد والضغط لفترة حتى يزول الإحساس باقتراب القذف. جعلتها هذه الطريقة تضحك من قلبها حتى دمعت عيناها وتشكر الله أن العمر قد مر وعفاها من مثل هذه التجربة.
نادرا ما أشفق على أحد لكن راوية التي لا يمكنها أن تسمعني أو أن أحدثها تذوي ورقتها هذه الأيام سريعا، وتنتشر على سطحها بقع صفراء تأكل خضارها.
ترغب في أن تنام، كأنها مكتئبة، لكنها تعاني ما هو أبعد من الاكتئاب، إنها تتجاهل ما تشعر به، رغم دراستها لعلم النفس إلا أنها تعتقد أن كل هذه المقولات عن الشك والحيرة والسلبية وقلة السيطرة والإرهاق هي دراسات أجراها علماء ملحدون كي تبعد الإنسان عن ربه.
تتمنى أن تتلاشى، تختفي بعيدا هناك حيث لا يعرفها أحد، بعيدا عن “عوض” وانكماشه وانكفائه على ذاته، هذا إن كان قد بقى له ذات، بعيدا عن عيني أمها التي تمتلك ما يبدو أنه حكمة أبدية، بعيدا حتى عن عيون الله التي يعذبها مراقبته لها.
ولكن وبأسرع ما يمكن ترتدي وجه التسليم، وتخاصم نفسها حين تهمس لها: “أيتها الحمقاء هل الرب ليس لديه سواك فلا ترف عينه عنك، أم أنك اتخذت من خشيته الدائمة، وإحساسك الدائم بالمراقبة منه ستارا، توهمين نفسك بأهميتك المفقودة، حيث لا أحد يشعر بك في هذا البيت الكبير، فالله يراقبك دائما وأنت على اتصال دائم به، تصلين، ترتدين خمارا… لكن لماذا كل هذا الخواء. أين دراستك؟ كنت تأخذين الدواء من يد أبيك وترفضينه من يد أمك. ما الذي وتر العلاقة بينكما؟ لماذا لم تكن مثلك الأعلى ورحت بعيدا إلى الحاجة “زينب الغزالي” والأخوات، وافقت على الزواج من عوض لمجرد أنها أبدت اعتراضا. عباءتها واسعة، تخنقك وكنت تريدين عالمك. فأصبحت جزءا من قطيع أكبر، تسخرين من صفية وبناتها، ومن رحيل وتدعين رغبتك في هدايتهن، وأنت تتمنين أن يظلوا في الفئة الضالة.
افتحي الدرج السفلي في دولابك هل ما زلت تقرأين روايات عبير؟ متى اكتشفتها؟ هل مازال الكونت فارسك؟ ماذا أعجبك في “عوض”؟ صمت الكونتات الذين قرأت عنهم، الجليد الذي يواري بركانا صاخبا، وانتظرت الحمم حتى خمدت.
ما تنفكين ترددين في مجالس الأخوات أنك تحديت أهلك، وأعرضت عن جاهليتهم وصبرت، وكنت أول من ارتدت الخمار في الناحية، وبفضل الله لا توجد فتاة إلا وترتدي الخمار وأول خمار ترتديه يكون هدية من محلاتي، تشتريه وتأخذ معه خمار هديه. فكيف ستواجهين ما تسميه الفضيحة؟ وأنت هناك بعيدا بعيدا في أعماقك تغبطين ابنتك. وتحملقين في أشرعتها المفرودة وتتمنين استعارتها ولو دقائق…”
تتغاضى عن هذا الصوت، تخنقه.. وتخلق صوتها الخاص الذي يردد قصة نسجتها من الحقيقة والخيال، عبر سنوات طويلة عاشت بها ومعها:
ولدت في اليوم الثامن، بعد أن تم كل شيء، أصبحت أمي سيدة البيت، وأكد مكانتها الداخلية ولدان، قرت بهما عينا أبي، ربما يقول قائل ليس لك حق فيما تقولين، وكفاك عقوقا لأمك حتى في خاطرك، ومن أدراك أنك لم تكوني الريحانة التي ينتظرها أبوك؟
يبدو هذا للبعض حقيقيا ولكن مولدي في ذلك الوقت، هو الذي هز اكتمال العالم وجعل أمي ترجئ غزوها الخارجي، وهي التي جربت قبل شهر من مولدي استقبال السيدات لها في المنصورة بعين الحسد، وشهدت لها الخالة “الياصابات” بالنجاح، وكأنها ربيبة السرايات بكمال زينتها وحلو حديثها. وكانت الست حُسنة تهيئ نفسها لجلسات الخميس بالفساتين الجديدة، والجلوس إلى جوار أبي وهو يقرأ لها بصوت عال أبياتا من الشعر القديم، أو تتصفح المجلات لتكون أول من يحدثهن عن الجديد.
وتصبح حكاية اكتشاف حملها بي إحدى نوادرها التي تحكيها:”بينما السيارة بسائقها تستعد لنقلي لزيارة أمينة هانم المليجي، وإذا بي أشعر بدوار وكدت أسقط على الأرض، لكن فؤاد بك حملني بين ذراعيه، وطلب الدكتور ناجي وكانت المفاجأة التي لم انتظرها أني حامل، وطبعا اعتذر فؤاد لأمينة هانم، وطلب مني الدكتور ناجي عدم الحركة طوال فترة الحمل، فتغيبت مدة عن الجلسات والصحبة الحلوة” .
لا تمل أمي ترديد هذه الحكاية، وتعدل وتبدل فيها كما تشاء. و للإخبارية بقية، لا تسمعها الهوانم بل تكتفي بترديدها أمام صفية والياصابات ورحيل.
- طبعا كنت أنا موضوع الحديث في بيت بنت المليجي، والحسد والعين، الأرنبة، طبعا فلاحة، لكن أنا عرفتهم مقامي.
لا تمل حُسنة ترديد الحكاية.
ولا تمل راوية من نسج قصتها والقذف بها ككرة الثلج.. لا يكفي أن تقدم لي تفاحة، أو تنصحني بشرب كوب من الماء صباحا على الريق للتخلص من غثيان الحمل. ماذا عن الماء الفاتر وملعقتي الخل الأبيض للتخلص من الحيوانات المنوية، وبقايا رجل لا يعطيك نفسه. بل يتهمك بأنك قليلة الأدب، ويشك في تربية بنت الأصول.
كيف أهملتني وتركتني لهذا الموقف المحرج؟ امرأة قليلة الأدب مع زوجها.
وبعد ولادة “حبيبة” وقص الزائد من جسدي، أصبح العالم هادئا مستكينا إلا من ألم الاحتكاك، ويبدو أن الآخر كان مستريحا وراضيا، وفي ماذا تطمع المرأة أكثر من رضا زوجها..؟
في هذه اللحظة وهي جالسة تراقب غروب الشمس التي تختفي رويدا رويدا خلف الأشجار الكثيفة البعيدة، التي تتبدى كما حصن يخفي خلفه كل الأسرار، والشمس تتماوج ألوانها بين الأحمر والبرتقالي والأصفر، ويلهب وجهها سياط الوقت وعقارب الساعة، وكلما غاب جزء من قرصها، وتطاولت قمم الأشجار لتصل إلى حافته المتوهجة، انتشرت على الأرض عتمة خفيفة تغطي الزراعات الممتدة، تتكاثف العتمة لتجمع ندف الليل.
في هذه اللحظة تمنت “راوية” أن تكون زوجة صياد تفرش معه الشبكة أو تجدف بالمجداف بينما يرمي الشبكة ويفردها.
يكمل الصياد دورته في خط بيضاوي وفي أصابعه يلمع وميض سيجارة وصوت رميته للشبكة يشق سكون النهر ويحفز إيقاع موجاته، يدق بقدميه على باطن القارب، فتنتقل دقاته وأحاسيسه إلى الماء ومنها إلى السمك فيتجمع في شبكته استجابة لغواية النقرات المنبعثة من طبلته وقدميه.
يمر به قارب مسرع يجمع صيادوه السمك على أنغام أغاني سريعة ولا يمكن أن نجزم إذا كان هذا هو السبب فيما تردده حُسنة، وهي تنزع الشوك من لحم السمك البلطي، وتضعه في فمها بدون مزاج
– طعم السمك تغير.
فكل أوقاتي انتظار، أجلس في مكاني المختار، في يدي اللوح المكتوب، وعن شمالي شجرة أوراقها أعمار كل البشر، فإذا قَرُبَ أجل بني آدم يبست ورقته، نزلتُ أقبض روحه وأشطب اسمه من اللوح. الشجرة أوراقها خضراء زاهية، لكن ليست خضرة كل الأوراق واحدة، بعضها تبدو ذابلة صفراء عليلة، وأخرى يانعة، تسري فيها خضرة الحياة. أما الورقة التي شدت انتباهي دونا عن كل الأوراق فكانت ورقة يابسة بلا روح، أعوام وأنا أراقبها وأحدث نفسي: غدا ستسقط، الآن ستسقط، لكنها في مكانها، بحثت عن صاحبها فوجدتها “لعوض” زوج “راوية”..
لفت انتباهي ذبذبات صوته العالية، السريعة، كأنما يتخلص من عبء دون أن يهتم إن كانت رسالته وصلت أم لا، وبمرور الوقت تصبح ذبذباته رسالة لامبالاة من رجل يستخسر بذل جزء من طاقته للآخرين. طريقة لا تبعث الثقة في صاحبها، هي في الحقيقة تدل على الاستغناء، وعدم الحاجة إلى الناس. وإن كانت تجعل النساء بما فيهن راوية تسألن: لماذا يُعطي العالمَ وجهه الذي لا يحب؟
فتتهامس المسنات: “أصيب أبوه “محمود النحال” بمرض غريب جعل وزنه يتناقص بسرعة كبيرة حتى مات ووزنه لا يزيد عن أربعين كيلو، ولم يكن مر على زواجه ثلاثة شهور، كانت زوجته “سميرة” في أول الحمل، حاولت إجهاضه أخبرت الداية حماتها، اشتعلت الحرائق في بيت النحال، وبعد ها بيومين مات محمود. اتهمها أهله أنها السبب في موته، فكرهوها ومنعوها من الخروج حتى وضعت، وجدته زوجة “النحال” الكبير، أسمت المولود “عوض”، وطردت أمه دون ميراث ومنعتها من رؤيته”.
أما الحكاية التي لن تسمعها “راوية” من أية امرأة فهي: أن الولد اليتيم مرض ذات مساء، بمرض يطلق عليه الأطباء “الجفاف”، وعلاجه يحتاج رعاية وتناول محاليل ملحية، خافت عليه جدته أن يلحق بأبيه، نصحت إحداهن الجدة فوضعوه في قبر، وقالت لها إن الجان قد استبدلوه بابن لهم طمعا في جمال ولدها ويمكن استرداد الوليد الريان بتركه في قبر مهجور ثلاث ساعات قبل وأثناء صلاة الجمعة ومعه ثلاثة أرغفة من خبز القمح الفاخر. ولما عادت النسوة إليه كانت صفرته ورجفته قد اختفتا، وحلَّ محلهما لون أحمر محتقن، سيتحول هذا اللون إلى سمرة ليست من عائلته، ولكنها من سديم روحه التي تاهت بين السماء والأرض، لم تهتم الجدة بهذه الملاحظات كل ما يهمها أن الولد كان جائعا، وبدأ في التهام الطعام الذي قدمته له واعتبرت هذا من علامات تمام الشفاء، ومن فرحتها لم تلحظ حركة عينيه السريعة وما تخفي من خواء مريع.
وسينمو الولد ويكبر دون أن يعرف أحد أن روحه فارقته من سنوات، ولن تكتشف ذلك سوى إحدى عشيقاته، التي ستحاول أن تفديه، وتشاطره روحها، لكن ذلك كان متأخرا جدا، فالولد كان قد تعود أن يعيش بلا روح، حتى أنه ضربها حينما أقامت زارا كبيرا ترضية لملك الجن الذي سرق روحه من أجل ولده، ومع دقات الزار رضي الملك أن يخاوي ابنه.
ولكن العجيب أن “عوض” لم يتحمل وجود روحه في بدنه دقائق، فانتفض وقذف عشيقته براكية النار، ولطف الله فلم تصبها النار بل جُرح كعبها، فلم تكررها ثانية.
أما الحكاية التي لا يعرفها أحد أبدا، ولا يمكن أن أحكيها فهي أن “عوض” كان يأكل نفسه، وأن أعضاءه كانت تنسلخ منها رقائق تنزل مع برازه وبوله، وحتى مع زفير تنفسه، وسوف يفاجأ الطبيب الذي سيرتاب في سبب موته، عندما يشرحه بتقلص أعضائه الداخلية وتحولها إلى حبات ليمون متناثرة منحوتة كما الجبال التي بردتها عوامل التعرية، وكأن سكينا ظلت تكشط من طبقاتها بانتظام على مدار خمسين عاما، وربما يكون عضوه هو الشيء الوحيد الذي نجا من هذا النحت. وليس أمامنا غير احتمالات ثلاثة لتفسير هذا.
الاحتمال الأول: أن عضوه لم يتأثر لوقوعه خارج جوفه.
الاحتمال الثاني: أن عضوه يعوض ما يفقده من أنسجة النسوة اللاتي يعاشرهن.
وهناك شائعة تقول إن النساء اللاتي عاشرهن على كثرتهن أصيبن بقرحة في أرحامهن، ويؤيد هذا الاحتمال عدم استمرار علاقته الجنسية مع أي واحدة أكثر من شهور قليلة.
الاحتمال الثالث: أن “عوض” كان يدرك تماما أهمية عضوه فبادله سرا بروحه.
وأرجح أنا هذا الاحتمال.. فهو كرجل يمكنه أن يتنازل عن روحه ويبيعها حتى للشيطان، ولكن لا يمكن مهما كان كارها لنفسه وللآخرين أن يتنازل عن عضوه الذي يحدد وضعه وترتيبه الفحولي وتسيده.
وحتما فإن “عوض” كان ابنا بارا لثقافته العضوية.
ولأن “عوض” رغم كل صفاته كان لديه شيء من الحظ بالمفاهيم الدارجة التي تعتبر الخير “خيري أنا”، والشر “مصيبتي أنا”، فقد كانت حيواناته المنوية هي الأخرى منحوتة، مقروضة، ولذا لم ينجب سوى “حبيبة” وإلا لكانت لديه قبيلة من الأبناء غير الشرعيين يقاسمون حبيبة ميراثها. ونتيجة لذلك كان على حبيبة أن تتحمل وحدها إرثه ووزره وخطاياه. ورغم أهمية “حبيبة” لنفي أي شائعة تتعلق بقدرته الجنسية، رغم هذا كان يعتبر حبيبة خطيئته وهو الذي كان يستخسر أن يلقي ظله على الأرض ولا يريد أن يترك للعالم شيئا.
ولو كان الأمر بيده لما أدخل شيئا في جوفه، لكنه كان نهما لشرب السوائل فلا يمكنك أن تراه دون أن يكون بيده كوب ماء أو شاي أو عصير فاكهة، وكان يضع إلى جوار سريره دورقا كبيرا مليئا بشراب الليمون، ليروي عطشه الدائم حتى أثناء نومه، وكلما وقع ما يوتره شرب أكثر، وكان هناك الكثير الذي يوتره.
لكن شيئا لم يوتره مثلما حدث حين حضر افتتاح معرضها الأول، فوجئ بأن جميع اللوحات المعلقة في قاعة العرض لرجال عراة في أوضاع مختلفة. لم يكن منبع الصدمة الأجساد العارية، لكنها المرة الأولى التي يرى فيها رجالا عراة يستعرضون عريهم وطبقة رقراقة من الخجل تكسو وجوههم، حتى العري في التماثيل القديمة كان عريا لاستعراض جمال الجسد وتنسيق عضلاته، ولكن عراة ابنته أجسادهم مريضة كالحة مترهلة. وما أزعجه أكثر نظرة الخواء التي تملأ عيونهم والتي ذكرته بنظرة يراها في المرآة وهو يحلق ذقنه كل صباح. لم يجرؤ أن يسألها، لكنه انتبه لوجودها وكيف تنظر إليه، أجهدته في الأيام القليلة التي تقيمها في السرايا يشعر أنه مراقب تحت عدسة ميكروسكوب .لا يمكن لابنة أن تفعل ذلك بأبيها، كان آخر ما يتمنى أن يترك على الأرض لوحة لجسده عاريا، عريه فضيحة، أكبر حتى من فضيحة أن تعود إليهم وعلى يدها طفلة مستنسخة منها.
يخاف “عوض” من عريه وعري الآخرين، حتى الجنس لم يكن بالنسبة له أكثر من طبق مشمش فارغ، وامرأة تخرج من فمها النواة الأخيرة وتمضغ سؤالها مختلطا بلحم المشمش:
– خلصَّت..؟
وصار هذا هو الوضع الأنسب له، فمع اندماج السيدة في إدخال حبات المشمش في فتحتها العلوية يكون هو مخترقا فتحتها السفلية.
لكن ماذا يحدث في الأيام التي لا يوجد فيها مشمش وهي كثيرة؟ أحيانا يفي البلح الرطب بالغرض، ولكن لا شيء يعدل المشمش. يركز مع نفسه فلا يعطي ولا يأخذ، وتهرع المرأة لتغتسل ويسقط بين فخديها سائله، تتخلص منه، ولا يغادر الغرفة المعتمة دون أن يتأكد من ذلك، كالشبح لا يبقى له أثر.
وقد قلق بعد زواجه من “راوية” ومحاولتها التقرب منه، وتلقائية استجابتها له. أخافته حرارة جسدها، وأطلقت توتره وأفقدته سكونه الداخلي وقدرته على التحكم في نفسه، فأصبح يتجنبها.
التباعد الجنسي لعوض لاقى قبولا من “راوية” التي كانت جزيرتها هي الأخرى تزداد عزلة بقدر ما تنمو أعمالها في الخارج، ففي لقاءاتهم الأخيرة كان عوض سريع القذف ولم يكن يلتقي معها أبدا، وهي تتألم من أقل احتكاك، صارت معاناتها واستحمامها في الشتاء للصلاة لا تستحق حتى أنها كانت تتساءل أي متعة حصلت عليها كي تتطهر منها. وفاجأها في آخر لقاء لهما بخروج بعض الديدان البيضاء الصغيرة من فرجها، مما أرعبها منه ومن نفسها، ولم تجرؤ على محاولة تكرار التجربة لمعرفة من منهما يتعفن من الداخل أكثر. لكن الشيوخ الذين تتبعهم كانوا يهددونها بالرب والقانون. فماذا تريد المرأة من الرجل؟ وكانت تحفظ مقولات الشيخ كشك في آداب الجماع وترددها حين يوسوس لها الشيطان: ” لقد بنيت العلاقة بين الرجل والمرأة على خمس:
- الجماع ابتغاء الولد وليس المتعة.
– عدم التعري لأن معكم من يستحونكم من الملائكة.
- يبيح الإسلام الرفث وهو الكلام الذي يزيد الرغبة الجنسية”.
ورغم إيمان “راوية” التام وغير المنقوص فإن الرفث هو ما لم تستطع أن تنطق به أبدا وما لم تشعر بالرغبة فيه.
وعندما قرأت فيما بعد في مجلة “طبيبك الخاص” عن طريقة لعلاج القذف تسمي “ماسترز وجونسون” وتتلخص كما وصفتها المجلة في القبض على العضو الذكري بأصابع اليد والضغط لفترة حتى يزول الإحساس باقتراب القذف. جعلتها هذه الطريقة تضحك من قلبها حتى دمعت عيناها وتشكر الله أن العمر قد مر وعفاها من مثل هذه التجربة.
نادرا ما أشفق على أحد لكن راوية التي لا يمكنها أن تسمعني أو أن أحدثها تذوي ورقتها هذه الأيام سريعا، وتنتشر على سطحها بقع صفراء تأكل خضارها.
ترغب في أن تنام، كأنها مكتئبة، لكنها تعاني ما هو أبعد من الاكتئاب، إنها تتجاهل ما تشعر به، رغم دراستها لعلم النفس إلا أنها تعتقد أن كل هذه المقولات عن الشك والحيرة والسلبية وقلة السيطرة والإرهاق هي دراسات أجراها علماء ملحدون كي تبعد الإنسان عن ربه.
تتمنى أن تتلاشى، تختفي بعيدا هناك حيث لا يعرفها أحد، بعيدا عن “عوض” وانكماشه وانكفائه على ذاته، هذا إن كان قد بقى له ذات، بعيدا عن عيني أمها التي تمتلك ما يبدو أنه حكمة أبدية، بعيدا حتى عن عيون الله التي يعذبها مراقبته لها.
ولكن وبأسرع ما يمكن ترتدي وجه التسليم، وتخاصم نفسها حين تهمس لها: “أيتها الحمقاء هل الرب ليس لديه سواك فلا ترف عينه عنك، أم أنك اتخذت من خشيته الدائمة، وإحساسك الدائم بالمراقبة منه ستارا، توهمين نفسك بأهميتك المفقودة، حيث لا أحد يشعر بك في هذا البيت الكبير، فالله يراقبك دائما وأنت على اتصال دائم به، تصلين، ترتدين خمارا… لكن لماذا كل هذا الخواء. أين دراستك؟ كنت تأخذين الدواء من يد أبيك وترفضينه من يد أمك. ما الذي وتر العلاقة بينكما؟ لماذا لم تكن مثلك الأعلى ورحت بعيدا إلى الحاجة “زينب الغزالي” والأخوات، وافقت على الزواج من عوض لمجرد أنها أبدت اعتراضا. عباءتها واسعة، تخنقك وكنت تريدين عالمك. فأصبحت جزءا من قطيع أكبر، تسخرين من صفية وبناتها، ومن رحيل وتدعين رغبتك في هدايتهن، وأنت تتمنين أن يظلوا في الفئة الضالة.
افتحي الدرج السفلي في دولابك هل ما زلت تقرأين روايات عبير؟ متى اكتشفتها؟ هل مازال الكونت فارسك؟ ماذا أعجبك في “عوض”؟ صمت الكونتات الذين قرأت عنهم، الجليد الذي يواري بركانا صاخبا، وانتظرت الحمم حتى خمدت.
ما تنفكين ترددين في مجالس الأخوات أنك تحديت أهلك، وأعرضت عن جاهليتهم وصبرت، وكنت أول من ارتدت الخمار في الناحية، وبفضل الله لا توجد فتاة إلا وترتدي الخمار وأول خمار ترتديه يكون هدية من محلاتي، تشتريه وتأخذ معه خمار هديه. فكيف ستواجهين ما تسميه الفضيحة؟ وأنت هناك بعيدا بعيدا في أعماقك تغبطين ابنتك. وتحملقين في أشرعتها المفرودة وتتمنين استعارتها ولو دقائق…”
تتغاضى عن هذا الصوت، تخنقه.. وتخلق صوتها الخاص الذي يردد قصة نسجتها من الحقيقة والخيال، عبر سنوات طويلة عاشت بها ومعها:
ولدت في اليوم الثامن، بعد أن تم كل شيء، أصبحت أمي سيدة البيت، وأكد مكانتها الداخلية ولدان، قرت بهما عينا أبي، ربما يقول قائل ليس لك حق فيما تقولين، وكفاك عقوقا لأمك حتى في خاطرك، ومن أدراك أنك لم تكوني الريحانة التي ينتظرها أبوك؟
يبدو هذا للبعض حقيقيا ولكن مولدي في ذلك الوقت، هو الذي هز اكتمال العالم وجعل أمي ترجئ غزوها الخارجي، وهي التي جربت قبل شهر من مولدي استقبال السيدات لها في المنصورة بعين الحسد، وشهدت لها الخالة “الياصابات” بالنجاح، وكأنها ربيبة السرايات بكمال زينتها وحلو حديثها. وكانت الست حُسنة تهيئ نفسها لجلسات الخميس بالفساتين الجديدة، والجلوس إلى جوار أبي وهو يقرأ لها بصوت عال أبياتا من الشعر القديم، أو تتصفح المجلات لتكون أول من يحدثهن عن الجديد.
وتصبح حكاية اكتشاف حملها بي إحدى نوادرها التي تحكيها:”بينما السيارة بسائقها تستعد لنقلي لزيارة أمينة هانم المليجي، وإذا بي أشعر بدوار وكدت أسقط على الأرض، لكن فؤاد بك حملني بين ذراعيه، وطلب الدكتور ناجي وكانت المفاجأة التي لم انتظرها أني حامل، وطبعا اعتذر فؤاد لأمينة هانم، وطلب مني الدكتور ناجي عدم الحركة طوال فترة الحمل، فتغيبت مدة عن الجلسات والصحبة الحلوة” .
لا تمل أمي ترديد هذه الحكاية، وتعدل وتبدل فيها كما تشاء. و للإخبارية بقية، لا تسمعها الهوانم بل تكتفي بترديدها أمام صفية والياصابات ورحيل.
- طبعا كنت أنا موضوع الحديث في بيت بنت المليجي، والحسد والعين، الأرنبة، طبعا فلاحة، لكن أنا عرفتهم مقامي.
لا تمل حُسنة ترديد الحكاية.
ولا تمل راوية من نسج قصتها والقذف بها ككرة الثلج.. لا يكفي أن تقدم لي تفاحة، أو تنصحني بشرب كوب من الماء صباحا على الريق للتخلص من غثيان الحمل. ماذا عن الماء الفاتر وملعقتي الخل الأبيض للتخلص من الحيوانات المنوية، وبقايا رجل لا يعطيك نفسه. بل يتهمك بأنك قليلة الأدب، ويشك في تربية بنت الأصول.
كيف أهملتني وتركتني لهذا الموقف المحرج؟ امرأة قليلة الأدب مع زوجها.
وبعد ولادة “حبيبة” وقص الزائد من جسدي، أصبح العالم هادئا مستكينا إلا من ألم الاحتكاك، ويبدو أن الآخر كان مستريحا وراضيا، وفي ماذا تطمع المرأة أكثر من رضا زوجها..؟
في هذه اللحظة وهي جالسة تراقب غروب الشمس التي تختفي رويدا رويدا خلف الأشجار الكثيفة البعيدة، التي تتبدى كما حصن يخفي خلفه كل الأسرار، والشمس تتماوج ألوانها بين الأحمر والبرتقالي والأصفر، ويلهب وجهها سياط الوقت وعقارب الساعة، وكلما غاب جزء من قرصها، وتطاولت قمم الأشجار لتصل إلى حافته المتوهجة، انتشرت على الأرض عتمة خفيفة تغطي الزراعات الممتدة، تتكاثف العتمة لتجمع ندف الليل.
في هذه اللحظة تمنت “راوية” أن تكون زوجة صياد تفرش معه الشبكة أو تجدف بالمجداف بينما يرمي الشبكة ويفردها.
يكمل الصياد دورته في خط بيضاوي وفي أصابعه يلمع وميض سيجارة وصوت رميته للشبكة يشق سكون النهر ويحفز إيقاع موجاته، يدق بقدميه على باطن القارب، فتنتقل دقاته وأحاسيسه إلى الماء ومنها إلى السمك فيتجمع في شبكته استجابة لغواية النقرات المنبعثة من طبلته وقدميه.
يمر به قارب مسرع يجمع صيادوه السمك على أنغام أغاني سريعة ولا يمكن أن نجزم إذا كان هذا هو السبب فيما تردده حُسنة، وهي تنزع الشوك من لحم السمك البلطي، وتضعه في فمها بدون مزاج
– طعم السمك تغير.
No comments:
Post a Comment