Wednesday, July 14, 2010

الفصل الثاني

الفصل الثاني

وحدي أستمع إلى الحقائق المقبورة في الصدور، حين يتحلل المرء من نظرات اللوم، ويعطي ظهره لأيامه بنفس السخرية التي أعطته بها ظهرها، فخابت مساعيه حينا، وانكب على الطريق مرات عديدة.
في حضرتي لا تكون أنت كما عرفت نفسك، حريص على سمعتك وشرفك، حرصك الوحيد سيكون أن تخلع كل الأردية التي أخفت عفنك وكتمت رائحته.
في حضرتي تستيقظ الحواس يقظتها الأخيرة، فترى العين ما تغاضت عنه سنوات، وتسمع الأذن كل الهمس الذي تجاهلته، وتشم روائح القرب والبعد، وتلمس الشوق والوجد، وتشعر بطعم الحب والكراهية فتسأل نفسك ما الذي كان يملأ فمي.

في حضرتي ستتيقن أن الله يُعبد بكل اللغات، لأن حواسك ستكون قادرة على ترجمة كل ما يقع في محيطها، ما هو أبعد من اهتزاز أعواد الذرة، وسنابل القمح، ورفرافات اليمام فوق شجر السرو. ورغم قربي، وتجلياتي في الأشياء، تدعون أنكم لم تقابلوني، فمن قابل الموت وعاد ليروي عنه؟!

في ليلة النصف من شعبان أدق الأبواب ولا أطلب أكثر من رغيف خبز وحفنة ملح فدية لآل البيت. في الآونة الأخيرة لم يعد كثيرون يهتمون بدقاتي، ويصرون على غلق الباب في وجهي، فمعذرة إذا تسربت إليكم من عقب الباب.

هل يبدو أنني غاضب؟ لا مطلقا، غير أنه يبدو لي أحيانا، أنني لا أفهم البشر، وأفعالهم التي تجافي المنطق، فالإنسان وحده القادر على كسر القانون الذي تسير به الأشياء ومع ذلك لا تتوقف الحياة، ولكن في أي طريق تسير؟ كما أنه يترك ما بيده يتسرب منه، من أجل ملئها بما هو قصيّ، ثم يعود ويتذكر يده الفارغة ويطبق عليها. فحُسنة الفقي عندما صارت فتاة رزينة وعاقلة، أصبحت تدّعي أنها لا تراني، وربما حاولت مرات كثيرة أن تتوهم أن ما بيننا ليس سوى خيالات طفولة. ليس هذا فحسب بل تحتفظ بمجلة علي غلافها المهترئ صورة رجل عجوز، ممصوص الوجه والروح، ميت من قبل أن أراه، ويلتف حول عنقه ذراع وجمجمة، تعلوه بخط الثلث عبارة: “الموت يعانقه ولكنه لا يشعر ولا يحس”. ما أجهلهم حين يصورونني بهذا الشكل المخيف، ما لي أنا والتوعية ضد المخدرات، اللعنة على الرسام الذي يشوهني، وقسما بربي لأذهبن إليه حين يأتي اسمه في الكشف على نفس الهيئة التي رسمني بها، وسوف يرى نتيجة ما رسمت يداه.

لست غاضبا، لكني مستاء، فكيف لحسنة أن تنسى وتنكرني..

كنت أحوم حول البيت الوحيد المجاور للمقابر، وكلما اقتربت، تغمض أمها عينيها كي لا تراني، وتغيب عن الوعي فتصرخ النسوة ويدعكن صدرها ويديها بالخل، يحاولن إفاقتها، وبعد جهد تفتح عينيها الملتهبتين من حمى النفاس وتصرخ وتردد اسم زوجها، والنساء يرقبنها، و لم يلاحظن أن الصغيرة كانت دائما مبتسمة ولم يكن اقترابي منها وإغفاءات أمها تهز ابتسامتها، إحساس راسخ بالأمان ينير وجهها ذا الأيام السبعة، وكان الأمر قد صدر لي، لكن أصابعها التي لمست جلدي جعلتني أرتعش، شعرت بأشياء لم أكن أدرك وجودها تتحرك في داخلي، تسربت لي منها أحاسيس آدمية، وملأت روحي بالشفقة، تشتت ذراتي، تغيرت ملامح خلاياي وفقدت السيطرة على عيني، فانهمرت دموعي وأنا أصعد إلى السماء في أشواطي السبعة، كنت أبكم فتحرك لساني الصامت ولهج بالدعاء والتوسل، ابتسامة الرضيعة، ترحيبها الهادئ قالا لي: موعدك ليس الآن.

أخذت أصعد إلي السماء، وفي كل مرة أتأكد من أمر الرب، فأعود لأداء مهمتي، ولكن ابتسامتها تجعلني أصعد ثانية، ست مرات، وفي المرة السابعة تبسم وجه الرب، وانتعشت روح أمها، وبدأت تشرب مرقة الدجاج من يد قريبتها، وذهبت إلى مواعيدي الأخرى.

لا يمكن أن أصف “حُسنة” بأنها ناكرة للجميل، كما لا يمكن أن أصفها بأنها جميلة، شعرها مثلا متوسط الطول، ظلت تحلم دائما بالشعر الطويل، ورغم أنها رمت خصلة من شعرها في النيل أيام الفيضان لكن شعرها كان نموه بطيئا، فلم تعد إلى قص أية خصلة منه، وفيما بعد تحولت كثافة شعرها إلى نعمة حمته من التقصف الذي تحدثه مكواة الأسطى سيد الكوافير كل أسبوع. لم يكن في حسنة الصغيرة ما يميزها لكن ملامحها العادية هذه ستتغير مع السنين، وتتغير معها أشياء كثيرة في حياتها، حتى ليبدو أنها تخلع بين حين وآخر صفاتها، وتكتسب صفات جديدة.

وما يثير الدهشة أن الصفات القديمة والجديدة هي جزء لا يتجزأ منها، بما لا يجعل أحداً يلاحظ هذه التطورات، فقدرتها على التكيف والمواءمة تجعلها في كل الأوقات السيدة الأجمل دائما، وبمرور الوقت ستكتسب نوعا من الجمال يُطلق عليه خبراء الإعلام جمال الشهرة، وتُسمِّيه “حُسنة” جمال النعمة.

تتكرر هذه الأشياء كثيرا في حياة “حسنة الفقي”، فبعد أسبوع من ميلادها تنبه أبوها “حسين الفقي”، وهو يقبل كفها الأيمن، إلى وجود “حَسنة” ذات لون بني فاتح في وسط كفها. وسيقرر على الفور أن يسميها “حَسنة”، وسيعتبرها نعمة من الله، لكن هذا الاسم لن يظل ملاصقا لحُسنة الفقي، فعندما يجلس “فؤاد الكاتب” على يمين الشيخ “حمودة” مأذون “الزرقا” و يده في يد “حسين الفقي” والشيخ “حمودة” يطلب منه: “ردد خلفي زوجني ابنتك حَسنة الفقي البكر الرشيد”، فيردد فؤاد: “زوجني ابنتك حُسنة الفقي البكر الرشيد”

ويجيب الأب مُقِّلدا البيه وضاما الحرف الأول من اسم حسنة ” زوجتك ابنتي حُسنة الفقي البكر الرشيد”

وكما يتغير نطق الاسم، تزيد حروفه حرفين آخرين في مقدمته ليصبح “ست حُسنة”. لكن علاقتي الوطيدة بها، وألعابنا التي لم تنقطع ستعفيني من أي حروف زائدة، وتبقى بالنسبة لي ولكم فقط حُسنة الفقي، إلا إذا مر بها أحدكم ورآها في شرفتها وعلى كتفها شالها الأسود شتاء أو الأبيض صيفا، تتطلع إلى النهر، وتراقب أيامها التي كانت والأيام القادمة، وأراد أن يسمع صوتها الباسم، فالتحية التي تحبها: سا الخير يا ست حُسنة.

تقبلت تغيير نطق اسمها، بنفس قدرتها على التواؤم مع كل جديد وغريب، ويمكننا أن نخمن بأن هذا ما جعلها تتأقلم مع البيت الكبير فلم ترفض يوماً فكرة أو كلمة جديدة، بل وتداري في أحيان كثيرة عدم فهمها، وقلة استيعابها وتردد بينها وبين نفسها بأن غدا سيأتي وستفهم أكثر، ولم يكن هذا الغد يتأخر كثيرا عليها، بل يبدو لي أنها كانت تتعثر دائما في طريقها بهذا الغد، بنفس المهارة التي يتعثر بها أطفال بلدتها في حجارة الطريق.

في كل خميس تذهب “حُسنة” إلي السوق الكبير في بلدة “ميت زهرة”. يقولون إن بنات ميت زهرة جميلات، ويلمزون إلى استقرار جنود الحملة الفرنسية فيها، وأنا لا أوافق على هذا الرأي مطلقا، فهن لا يمتلكن سوى بياض فاقع، وبعض الألوان الفاتحة تتوزع على العيون، كما أن وجوههن المستطيلة العظام تنفي عنهن أي مسحة رقة أو جمال، وإصرارهن على أن الرشاقة عار، وأن الجميز هو أفضل الأشجار، يجعلني لا أستطيع أن أخبركم عن الثقل الذي أعانيه حتى يتخدر ذراعي، وأنا أصعد بأرواحهن إلى السماء.

تحمل “حُسنة” وهي في طريقها إلى السوق بعض الطيور.. بطة أو دجاجة، عددا من البيضات، تكمل بثمنها ما تحتاجه من طلبات للبيت، وأحيانا تشتري لنفسها قطعة قماش أو حلاوة طحينية لأخيها “يحيى”، ولم يكن عليها لكي تصل إلى “ميت زهرة” سوى أن تخترق الشارع الرئيسي في بلدتها الذي ينتهي بالطريق المسفلت والسرايا الكبيرة والنيل مباشرة، وتسير على الطريق المسفلت خصيصا لعربة البيه “الباكار” موديل 1933. والموازي للنيل وتقطع مسافة كيلومتر حتى تصل إلى “ميت زهرة” وعند مدخل البلدة، وقبل أن تصل إلى “الوسعاية” التي ينصب فيها السوق، كان هناك بيت مكون من دورين يحلو لها التطلع إليه، وكان من عادة الفلاحات أن يطرقن على باب بعض الدور المجاورة للوسعاية طلبا لشربة ماء، والدعاء بالصحة والعافية، لكن هذا البيت لم يكن يكتفي بذلك، بل كانت هناك ثلاثة أزيار كبيرة ممتلئة بالماء دائما.
بعد أن انتهت حسنة من بيع “دكر البط” وشراء رطلا من اللحم، دون أن تنسى الكمون والملح اللازمين للعشوة الحلوة، والأهم حصان الحلاوة، وخمسة أقراص حمصية، وقرصين سمسمية، وربع كيلو حمص، وحفنة من نبوت الغفير وخرطة ملبن، احتفالا بالمولد النبوي.

اقتربت من البيت المكون من دورين وحديقة صغيرة، كان الزير قد اقترب على الانتهاء وهي لا تحب شرب الماء المتعكر والمتبقي المليء بالشوائب، وبينما هي تهم برفع شيلتها نادتها سيدة شابة شقراء، كانت “حُسنة” تلمحها وهي تستمع إلى الراديو في الفراندة، نادتها السيدة التي تعاني من الوحدة ومن غرابة اسمها “الياصابات” والذي تتنوع الطريقة التي ينطقها بها الفلاحون الذين يأتون لزوجها الدكتور “ناجي” طلبا للعلاج، البعض يسميها اللية لبياض جسمها الشديد وامتلاء مِؤخرتها، والبعض الآخر يسميها الصُباتة لحمرة وجهها.

بالطبع لم تكن السيدة “الياصابات” التي تلقت تعليما في مدرسة “نوتردام” في طنطا تعرف هذه الدعابات وحتى إن عرفت فإن خفة روحها ستجعلها تسخر هي الأخرى وتضيف لنفسها لقبا جديدا.

دعت اليصابات “حُسنة” لكي تشرب، وسألتها عن اسمها وبلدتها وقدمت لها طبق عاشورة، وكانت المرة الأولى التي تسمع فيها عن هذه الأكلة، وستحاول حُسنه ألا تنسى السؤال عن اسم هذا الطبق وكيفية صنعه.

وعند الياصابات التي لا يزيد عمرها عن خمسة وعشرين عاما، وإن كان من يراها يعتقد أنها في الأربعين- في الواقع لم يكن أحد يهتم بعمرها فالمرأة إما طفلة لا تصلح للزواج أو متزوجة أو أرملةـ بدأت حَسنة التي ختمت القرآن الكريم منذ عامين وتعلمت مباديء القراءة والحساب، تمسك في يدها مجلات وجرائد وتستمع إلى الراديو عجيبة تلك الأيام، وانفتح لها للمرة الأولى عالم لم تكن تعرف حتى أنه موجود، وبتوثق العلاقة مع الياصابات سألتها عن سبب إقامتها في الدور الأرضي وليس الدور الثاني فابتسمت وقالت لها برقة:
– أحسن يا حَسنة، علشان يبقى سهل عليَّ أشوفك.

لكن هذه الإجابة لم تقنعها، فهي تشعر أن الأدوار العلوية بها شرفة، وأن الغبار من السهل أن يصيب طقم الصالون النبيتي المذهب، الذي رأته وجلست على وروده القطيفية، وأنه يستحق الدور الثاني، ولما ألحت في طلب الحقيقة ودفعا للخجل عن السيدة الرقيقة، وجب عليَّ أن أشرح لها بعضا من حقائق الحياة التي ستعرفها فيما بعد، فما تراه امتيازا للدور الثاني كان ممنوحا لزوجة شقيق الدكتور خوفا على أولادها من اللعب في الشارع، رغم أنهم يلعبون فيه، لكني أشفقت على قلب البنت الصغيرة التي ستعرف في الأيام القادمة ما هو أكثر عمقا وإيلاما من مجرد النزول من دور علوي إلى دور سفلي.

أعجبت حُسنة بماكينة الخياطة التي تمتلكها الياصابات، وتعلمت أن تجلس عليها، وأن تحيك بعض القصات البسيطة، كما تعلمت بعض أشغال الإبرة من المفارش والناموسيات والستائر.

وفي أحد أيام الأربعاء عرضت اليصابات عليها قطعة قماش جديدة لونها أخضر عنابي ومنقوشة بزهور بيضاء لتفصل لها جلبابا جديدا متوسط الطول، وبتقسيمة من الوسط، وكرانيش دائرية حول الرقبة، وعندما همت بأخذ مقاساتها استنكرت حَسنة وقالت:
– يا ست الياصابات حرام تفصيل الهدوم يوم الأربع، الهدوم يا تتسرق،
يا تتحرق.
لكن اليصابات استكملت عملها وأدارتها: لفي آخد قياس ظهرك.

ولم تجرؤ على إخبار أبيها عن الجلباب الجديد إلا يوم الخميس، كما لم تجرؤ على إخباره فيما بعد أن مهنته التي اتخذ منها لقبا سببت لها قلقا كبيرا..فحُسنة الفقي لا علاقة لاسمها بعائلة الفقي الإقطاعية ولا بالممثلة الشابة “نيرمين الفقي” التي ستظهر وحسنة سيدة تتخطى عامها الستين بثقة وثبات تدعمهما برفضها الدائم لصبغات الشعر القديم منها والجديد.

وظلت تحمد الله كثيرا أن أخاها “يحيى” سافر في بعثة للدكتوراه إلى ألمانيا قبل مقتل “صلاح حسين” الذي تزعم مقاومة أهالي كمشيش ضد الممارسات الظالمة لعائلة الفقي قبل الثورة وبعدها. فقد وصل جبروت العائلة إلى استخدام القوة المسلحة ضد الأهالي وقيام عائلة الفقي باعتقال زعماء أهالي كمشيش وحبسهم في قصر الأسرة، ودفعهم للقاتل “محمود خاطر” لقتل “صلاح حسين”.

كانت تتابع باهتمام ما تكتبه الجرائد، كانت هذه الأوقات من أصعب الأيام في حياة زوجها “فؤاد الكاتب”، وكل من كانت له أراض زراعية خضعت للإصلاح الزراعي وامتد أثرها لأكثر من عام وفاجأهم عبد الناصر وهم مجتمعين في عيد العمال بقوله “السنة اللي فاتت مات الشهيد صلاح حسين في كمشيش، ونبهنا مات ازاي .. قُتل.. قُتل بعد 14 سنة من الثورة بأيدي الإقطاع.. في كمشيش في الوجه البحري هنا.. مش حتى في مجاهل الصعيد.. جنبنا.. جنب القاهرة، وجنب دايرة أنور السادات. وازاي الكلام ده يحصل؟ معناه ايه؟ معناه إن احنا كنا نايمين على الثورة المضادة اللي موجودة في البلد. إذا كان الاقطاعيين بيطلعوا ويموتوا عيني عينك، جنب دايرة أنور السادات وفي المنوفية، واحد فلاح لأنه بينادي بحق الفلاحين وبينادي بإنسانية الفلاحين”

يمكنني أن أفشي سرا عن حسنة فهي لم تحب أبدا صوت عبد الناصر، كانت تعتبر صوته أضعف ما فيه بينما قامته وعينيه سر قوته، وعندما تابعت على الشاشة الانحناءة الخفيفة التي في ظهره بكت، وتمنت أن يموت قبل أن ينحني أكثر، لكن بعد أن مات، ومات من جاء بعده، وبدأ التلفزيون يفرج عن صوته فتذاع أجزاء من خطبه تعودت عليه وأصبح الحنين إليه يملؤها، والحقيقة أنها لم تصرح بهذا الرأي أبدا، بل كانت تدافع عن عبد الناصر وتبرر دائما أخطاءه حتى وإن حكت في صدرها، وظلت تراه مثل كل النساء -عدا “زينب الغزالي” و”حميدة قطب”- ملاكا أو على الأقل نبيا حتى أنها سألتني: إنما هو نبي ولا ملاك؟

فأجبتها: الموت نفسه ملاك.

ارتبكت، فهل يمكن لعيني ناصر الثاقبتين.. أن يعرفا علاقتها بالحريق الذي نشب في جسد “أم الخير” زوجة “حامد” البواب.

بدأت حُسنة تشعر بالألم في أماكن متفرقة من جسدها، وتلاحظ ظهور بقع زرقاء في أماكن الألم، استشارت الدكتور “ناجي”، طمأنها أن الحالة بسيطة وربما أصيبت بهذه الكدمات دون أن تشعر، لكن الألم تزايد عليها ولم تفلح الدهانات التي كتبها الدكتور “ناجي” مع البقع التي تختفي نهارا وتظهر ليلا، أشارت عليها خادمتها “فاطمة”:
- البقع الزرقا في جسمك يا ست حُسنة لازم من فعل الجان- يجعل كلامنا خفيف عليهم- يمكن يا ست عاكستيهم ورميتي ميه سخنه على أرض الحمام أو صرختي فيه، لازم نرش الحمام، وأوضتك بميه فيها عرق الحلاوه وبذر الرجلة وربنا يأذن بالشفا.

لكن “حُسنة” ظلت بأوجاعها، فنصحتها “فاطمة”أن تذهب إلى أحد الشيوخ المبروكين في “السرو” أو يأتي هو إليها لكنها خشيت من غضب “فؤاد”، وهي نفسها لم تكن ترى داعيا لذلك.

– طيب على الأقل يرقيك، يا ست أنت لازم محسودة، أو مسحور لك .

وافقت بشرط ألا يعرف أحد ممن بالسرايا.

جلست في منتصف السرير، وأخذ الشيخ يمر بيده على جسدها ورأسها وهو يتمتم:” بسم الله، حبس حابس، وحجر يابس، وشهاب قابس في عين العائن، اللهم رد عين العائن عليه في ماله وولده وأحب ما لديه، ونكس اللهم برأسه بين رجليه، وخذ كلمته من بين شفتيه، ورد اللهم بأسه عليه، ماء رقيق ولحم سميق وعلى العين لا تضيق، فارجع البصر هل ترى من فتور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير، النبي ضلعت ناقته، قامت ولحقت، فلا عظم كسير، ولا دم يسيل، في عين الفكر ما ذكر من كل أنثى وذكر، يا عين يا عائنة، يا رديئة يا خائنة، يا حمراء مثل اللحم، يا بيضاء مثل الشحم، يا سوداء مثل السجم، اللهم اكفف حُسنة شر العين السوداء والعين الحولاء والعين الرقطاء والعين السوداء. والسماء ذات البروج وكل عين تلوج والشمس وضحاها لكل عين تراها، هل أتاك حديث الغاشية لكل عين ماشية، والطور وياسين لكل عين تعين، والسماء والطارق لكل عين خارق، هل أتاك حديث الغاشية لكل عين ماشية …” ثم قرأ آية الكرسي والمعوذتين والإخلاص.

جلس على كرسي في مواجهتها وقال لها: يا ست أنت معمول لك عمل على أظافرك المقصوصة، والألم يحدث لك كلما حرق جزء منها.
سألته الخادمة: ممكن تفك العمل يا شيخنا؟
- أنا هعملك عروسه معكوسه وإنت لما تشعري بالألم غزيها بالإبرة، سيصل ألمك إليها، وستعرف أنك كشفتيها وتبطل أذاها عنك.

جهز الشيخ العروسة، وأوصى حُسنة باستعمالها عندما يأتيها الألم، أبدت حُسنة ترددها أمام فاطمة، وأظهرت عدم مبالاتها بحديث الشيخ، وعندما حل المساء وبدأت البقع الزرقاء تنتشر في جسدها، غرست الإبرة.وكلما غرست أكثر كانت شدة الألم تتفاوت، طغت عليها رغبة في معرفة الفاعلة، ربما أكثر من رغبتها في تخفيف ألمها، فأحرقت العروسة. وفي اللحظة التي أمسكت النار في العروسة، توقف طنين الألم، ولكن صرخات متوالية وصيحات “إلحقوني” بدأت تتصاعد، وعندما خرجت إلى الشرفة رأت كتلة من النار تتمرغ على عشب الحديقة و”حامد” البواب يلفها ببطانية، وعرفت أن وابور الجاز شب في جسد “أم الخير” وهي تجهز الشاي لزوجها
وفي مستشفي الزرقا الأميري همست لها “أم الخير” وهي مربوطة بالضمادات:
– سامحيني يا ست حُسنه، الذنب ذنبك.

امتقع وجهها وهمست لها وهي تصر على بقية قصاصة أظافرها التي أصبحت تحرقها بنفسها:
– ربنا يسامحنا كلنا.

واحتفظت بسرها ولم يخطر على بال “فاطمة” أن تسأل سيدتها عن العروسة، كما أن ناصر نفسه كانت تخبئ له الأيام مشاغل أهم بكثير من اشتعال النار في جسد فلاحة أيا كانت الأسباب، فبعد أقل من شهر وخمسة أيام من خطابه السابق كان ناصر قادرا على جمع شمل آل الكاتب حول التلفزيون ودفع حُسنة إلى أقصى حدود البكاء.

يتبع

No comments: