أي حيرة كتبت على صفية؟
فقد كبرت بناتها الثلاث: “نور” و”شمس” و”قمر” وهذا أمر طبيعي.
أما غير الطبيعي فهو الشبه الكبير بينهن، ما إن يرى أحد من أهل البلدة إحدى البنات حتى يسألها: أنت أخت نور؟
وما يحدث بالفعل أن الشبه بينهن تزداد كثافة تفاصيله.. الشعر الأسود الناعم، العيون اللوزية، البشرة البيضاء، الغمازات.. ما إن تبلغ الواحدة منهن حتى تتطابق ملامحها مع ملامح أختها الكبرى.
هذا التشابه بات يشغل بال صفية، أما “رزق” فكانت البنات لديه بنتا واحدة لا أكثر، ينادي عليها عندما يحتاج إلى كوب ماء على الغداء أو كوب شاي.
البنات أنفسهن انتبهن إلى هذا التشابه، وأصبح لديهن إصرار على تأكيده، عند اختيار تسريحة الشعر، القماش والأحذية، وفي مدارسهن كانت الواحدة منهن تتخرج وتأتي الأصغر، فتتعجب المدرسات من الشبه بينهن.
هذا الشبه الذي كان مسار تندر، صار مشكلة لمن يريد أن يخطب واحدة منهن، فعندما يأتي خاطب مع أهله ليقول: أريد الزواج من “نور”، تجلس البنات الثلاث أمامه ويسألنه: هل يمكنك أن تحدد أية واحدة منا “نور”؟
تنمحي السنوات التي بين كل واحدة والأخرى، ولم يكن العمر قد رسم أيا من خطوطه على الوجوه الغضة وحتى عندما يقوم بعمله فإنه هو الآخر سوف يشارك في اللعبة ذاتها، ويتواطأ معهن، ويرسم على وجوههن خطوطا رهيفة رقيقة لا تصل أبدا إلى حد التجعيدات.
نادرا ما استطاع أحد أن يميز بين البنات الثلاث، وإذا حدث لا يتعدى الأمر أن يكون مجرد تخمين.
لكن “صفية” كانت تعرفهن، وتوضح لحسنة كيف لا يختلط عليها أمرهن.. من رائحة الليمون التي تهفهف بمجرد مرور “شمس”، كنت وحدي في البيت يوم مولدها، ذهبت “نور” تنادي “رزق” من المقهى، وأنا نائمة على الكنبة في الصالة تحت النافذة المطلة على المشتل، ومع وجع الطلق تزداد كثافة رائحة أشجار الليمون، تنعشني قبل أن يغمى على.. من الليونة في حركة “قمر”، كم كانت ولادتها سهلة حتى أنها انزلقت قبل أن تصل “أم خليل” الداية. بمجرد أن أفكر فيها أجدها أمامي، دافئة، حانية، لم يكن عالمي ليكتمل دون هذه البنت التي لا تغيب ابتسامتها.
أما “نور” فهي رائحة الماء، وندى الفجر الذي كنت أتلقفه وأنا شاردة أيام حملها، وإحساس مثقل بالذنب والرجاء والخوف يغمرني، وجاءت نور، شربة ماء في ساعات القيظ والسلام الذي منحني العالم إياه، ولكن صراحتها مثل السهم تخيفني.
لا تخشى “صفية” على البنات إذا كن بصحبة “نور”، فهي التي تستطيع أن تتحمل الحقيقة التي لن تقولها “صفية” لهن، وكان الأمر واضحا بالنسبة لصفية مهما اصطدمت بالسؤال في لمعة عين “نور”، أو ارتسمت الإجابة متكدرة على وجهها فلن تقول، وكان الاتفاق الصامت ألا سؤال وألا إجابة.
وهى تتعجب كيف لا يفرقون بين بناتها الثلاث، ربما يكون في الأمر سحر أو “عمل”، ربما يكون “رزق” هو الذي ربط “العمل” كي ينتقم مني.
لا تريحها كلمات حُسنة: ولماذا يفعل ذلك لبناته؟ لا تدري صفية إن كانت تتخابث عليها أم أنها فعلا خرفت بعد وفاة ابنها، وقد يكون صحيحا ما ترويه راوية :”أصبحت أمي تستخدم العادات كما شالها الصيفي المشغول من الدانتيلا البيضاء بوروده المشمسة الواسعة، تضعه على كتفيها وقتما تريد وترميه على أقرب كرسي حين تمله، فتفتح الراديو على إذاعة الشرق الأوسط ومازال جسد قريب لم يبرد في قبره، وتقف في الشرفة بشعرها الأبيض المعصوب بشريط زاه دون طرحتها وتدندن “عدينا يا شوق عدينا على بر الهوى رسّينا” بينما النسوة يعبرن بسوادهن أمام البيت الكبير في اتجاه السرادق المقام وصوت المقرئ يلعلع في السماء “يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية”
وأحيانا تذهب لزيارة بنت من بنات العائلة لتهنئها بسلامة الولادة، فما أن ترى المولود حتى تقول:
– ماله وحش كده، يا اختي ده زي القرد.
تربت على رأس النفساء، تقبلها وتعطيها عشرة جنيهات
– متزعليش يا حبيبتي.
وتغالب دموعها وسط زغاريد السبوع
- يا ماما كسفتينا.
تضغط على يدي وتقول: هيزوره قريب، الولد ده ولد موت.
لم يكن من مفر لحيرة “صفية”، وإن كنت لا أوافقها على شكها في زوجها، وأرى من واجبي أن أتدخل لتوضيح بعد الأمور:
فلا يعني كوني ملك الموت أن أكون حياديا مع جميع الأشخاص، لكني صدقا أضمن حيادي مع هذا الرزق، الذي يبدو باهتا كما ظل، ليس له من وجود سوى في جلساته مع أصدقائه لتدخين الحشيش والأفيون. ولا يزيد عن كونه رجلا أصلعا، عندما يضحك تتجمع حبات العرق على جلد رأسه المحمر، وتتناثر بقع بنية على جلد يده وعلى ذقنه يداريها بلحية خفيفة بيضاء.
يحيرني هذا الرجل، فهل كان يعلم أن “يحيي” هو أبو بناته، أشك، وما أدراك ماذا يعني الشك بالنسبة لي أنا ملك الموت، لكني أتصور – وأنا لا أملك يقينا- أنه غافلني في هذه النقطة.
ليس أمامي غير أن أختلق لكم رواية.. عدة روايات…
الرواية الأولى: أنه كان متزوجا من امرأة أخرى في بلدة بعيدة.. وبعد عام لم ينجبا، ذهبا إلى الطبيب، أخبره أنه لا يمكنه الإنجاب، وبعد هذا التقرير طلق زوجته لأي سبب، وطلب نقله إلى مكان لا يعرفه أحد فيه، وتزوج “صفية”، ولما وجد البنات حوله حمد لها وللبنات أنهن أعطينه شهادة رجولته وكماله، ولم يفضحهن كي لا يفضح نفسه.
الرواية الثانية: أن الشكوك كانت تساوره فلم يكن على يقين قاطع بشيء، ونفسر بهذا علاقته المتذبذبة بالبنات بين الحب والنفور، حتى أنه يتصرف في كثير من المواقف وكأنه ليس أكثر من زوج أم.
الرواية الثالثة: أنه مثل كل الرجال الذين لا يشكون، كان على يقين أنهن بناته ومن أجلهن كان يتقاضى الرشاوى من جمعية “تقاوي البطاطس”، كي يحافظ لهن على مستوى معيشة معين، ويضحي بسمعته من أجل مستقبل البنات. وهذا ما سيجعل “نور” ممتنة له وتصر على إحياء مشتل الزهور الذي أهمله.
فعلي “صفية” أن تمحو فكرة “العمل” من رأسها، وتنتبه لبناتها أكثر، وتبحث معهن عما يفتقدن، فالأميرات الثلاث يضعن شرطا لمن يريدهن.. فقط أن يعرفهن، أن يميزهن، أن يقول: هذه “نور”، هذه “شمس”، هذه “قمر”. لكن الفتيات الثلاث كن متشابهات وزمن الحواديت قد انتهى، وفي حياة الناس ما هو أهم من البحث عن توأم الروح، أو الفلقة الثانية من حبة الفول، المهم أن تكون العروس مؤدبة،وبنت ناس.
والحقيقة أن كل من يتقدم لهن كان معذورا..
لكن البنات كن خياليات، ويطمحن إلى المستحيل، لذا تراني أتعاطف معهن، وأُحمل “يوسف إدريس” مسئولية مصيرهن، وعدم زواجهن، فهن لم يتمسكن بهذا الشرط إلا بعد قراءتهن لقصة “بيت من لحم”، أرعبتهن فكرة التواطؤ، وكان في حياتهن من الغموض ما يكفي، ومن التساؤلات الخرساء ما يثقل كاهلهن.
وعندما أصرت البنات على موقفهن وزادت حيرتها، أطلعنها على القصة، لكن صفية فهمتها بطريقتها، فزاد رفضها لكل محاولات “يحيى” الزواج منها.
إلا أنها ككل الأمهات لا تكف عن الشكوى.
تشتكي إلى “يحيى” في زيارة له في مستشفاه، وهي تجري الفحوص الطبية بعد شعورها بالألم في الجهة اليسرى من ثديها وإحساسها بوجود “كلكوعة” تحت إبطها الأيسر.
– البنات بقوا عوانس.
لكن “يحيى” كان يرى أن بناته مازلن شابات، وكان يمني نفسه بيوم تلين فيه رأسها ، ويعيش مع البنات، وهذا ما لم يحدث، فلم يكن أمامه سوى أن يجذب بناته إلى العالم الذي بناه لنفسه وأن يحتفظ بجزء منهن، فاشترى جهاز “ريكوردر” لكي يستمع إلى تسجيلاتهن، ويحتفظ منهن بذبذات الصوت التي لا تفنى ولا تضيع ويسمعهن في أي وقت يريد. وأصر على إكمال تعليمهن في جامعة القاهرة.
- إنت البنات معاك طول الوقت، نفسي أقرب منهم.
تمنى أن يستقطبهن، وعندما تخرجت “نور” وفر لها وظيفة “مديرة الحسابات” في مستشفاه لكنها صدمته، عندما علم من “حُسنة” برغبتها في تأجير جزء من الفدادين الأربعة المحيطة بالسرايا لتوسع مشتل الزهور الذي أهمله رزق وأسمته “رزق البنات”
زارها في المشتل، وجده متفتحا بكل الزهور…القرنفل، الورد البلدي، الياسمين برقته وبياضه الناصع، البلاك روز السوداء النادرة بملمسها القطيفي، البنفسج، الليليم بألوانه الفوشيا والأبيض والبرتقالي، عصفور الجنة، الأوركيد، الجلاديولوس بساقه الشامخة، الماري جولد بلونيها الأصفر والبرتقالي.
وفي خلفية الزهور توزعت نباتات الزينة. هناك نباتات يعرفها: الفيكس ديكورا، البوتس، الأناناس، الأروكاريا، الأسبرجس الناعم، الصبارات: البلدي والشمعدان وجلد النمر. وأنواع أخرى يجهل أسماءها، فعرفته عليها: القشطة أوراقه تشبه مذراة القمح، الكلاديم: ورقته خضراء قلبية مبرقشة باللون الأحمر أو الأصفر أو الكريمي وساقه ضعيفة، الرويو يشبه النخل ورقته مستقيمة وضعيفة، الدراسينا مانسنجيانا ورقته طويلة رخوة، الدارسينا مارجيناتا ورقته شريطية رفيعة.
- إزاي بتميزي بينها؟
- زي ما إنت بتميز بيني وبين “شمس” و”قمر”.
- أحيانا بحس إنك بتكرهينني؟
- أكرهك!! ليه؟
- نظراتك.
- مش كره، ده وجع. كل مبشوفك بتوجعني، في أحيان كتيره، ببقى عايزه أحضنك، وكلمة بابا على لساني، لكني أكتمها فتوجعني.
- أنا أبوك، قوليها..
- اللي بيوجعني أكتر إن عمري ما كان لي الحق أتباهى بابويا، بابا رزق، عارفه انه مدمن، وإيده طويلة على فلوس الجمعية التعاونية. وإنت! عمري ما تكلمت عنك، أخاف يسألوني هو يبقى لك إيه؟
- ممكن نعيش مع بعض، ونسيب هنا خالص. أنا..
- لازم تفهم، مهما كانت عيوب بابا، عمره ما جرحنا، مفيش مره شخط في واحدة مننا، المشتل ده كان نفسه فيه، ومش ممكن أسيبه.
- وأنا؟
- مش هنديك أكتر من المساحة اللي إديتها إنت لنفسك.
- ممكن أحضنك؟
- لا. بابا معودناش إننا نحضنه.
لذا لم يصر على ذهاب “شمس” و”قمر” إلى القاهرة ما دمن سيعدن في النهاية إلى “رزق”. واكتفى منهن بما يختلسه من أوقات متعة صغيرة، مثل ذهابهن معه إلى الأوبرا. اخترن يوم الاثنين لحضور العرض الختامي لأوبرا “كارمينا بورانا” للموسيقار الألماني ” كارل أورف”، التي كان مقدرا أن تكون خاتمة العروض الشتوية لحفلات دار الأوبرا، كانت شيئا مختلفا وجديدا. في الاستراحة أتفقن على تكرار التجربة، لكن هذا لن يحدث فدار الأوبرا احترقت بعد ثلاثة أيام من تلك الليلة التي ستبقى في ذاكرتهن ويحكين عنها كلما شاهدن “عبد الحليم” يغني “نار يا حبيبي نار”، أو “فريد الأطرش” وهو ينادي على “فاتن حمامة”، ومازالت الحكايات على ألسنتهن وهن يشغلن “بلوفر” من الصوف لطفلة جديدة قادمة لهذه العائلة.
بالطبع لم تكن الزيارات القليلة أو الجلسات الصغيرة في حديقة “جروبي”، أو حتى مساعدتهن في مشتلهن تريح يحيى أو تزيح قلقه من الحرام الذي كان يشعر به تجاه علاقته بصفية التي تصر على عدم الزواج به؟ ومحاولاته المستميتة معها، سأتزوجك غصبا عنك. لكن شيئا لم يثنها عن قرارها.
ربما هي “صفية” الأخرى. هل نسيتموها؟ “صفية” التي لا تحبونها؟ ربما كانت تقود “صفية” في دروب من المتعة لم تعرفها حتي مع “يحيى الفقي”، لكن ما يمكن أن أقوله لكم إن هذا القلق وهذه التساؤلات، لم تؤثر في وسامة وجاذبية “يحيى” رغم أنه في الستين والفضل للكريمات والهرمونات، حتى أن “صفية” حين انتهى ما بينهما وعاد فقط ابن العمة وأبو البنات لم تكن تندم على شيء من علاقتها معه سوى أنها أضاعت على بناتها فرصة عريس وسيم ورشيق، على الأقل كانت تطمئن على واحدة من البنات، وظل “يحيى” في خاطرها بطلا لأفلام الأبيض والأسود، لم تصبه نغبشة الألوان.
ورغم علاقاته المتعددة التي كان يسميها احتياجات ضرورية، إلا أن “صفية” ظلت في الأماكن العصية على التفسير، في منطقة هل حدث هذا فعلا أم لا؟ وعندما يجلس أمام الفضائيات ويشاهد الجميلات اللاتي منحهن بمشرطه جمالها، يجد أن نسيانه لها أمر عليه ألا يتعب نفسه في محاولته، فهي قادرة على اقتحام حياته وفرض نفسها ولو عن طريق الأخريات.
في بداية شهرته كجراح تجميل لم يكن متعمدا تلبيس ملامحها لجميلاته لكنه اختيار أول فتاة جاءته لإجراء جراحة تجميل، فبينما هو يمعن النظر في وجهها لتحديد ما يحتاج من إزالة أو إضافة، أمسكت الفتاة بصورة صفية وقالت:
- أريد أن أكون شكل هذه.
وعندما تشاهدون الشفاه المنتفخة، والخدود المستديرة تذكروا “صفية” ورغم ذلك لم تكن واحدة منهن “صفية”.. الطبطبة على الظهر، اللمعة في العينين، حرارة شفتيها على باطن كفه، مما يجعله يهمس لها إذا التقيا في مناسبة عائلية
- إنت لازم ساحرة لي.
وإذا آمنا بالسحر فإننا لن نحتار أو نتساءل لماذا يصدقها؟! وهي التي ترفض الزواج منه، وكيف يوقن أن البنات فعلا بناته؟!. وإذا كنتم لا تؤمنون مثلي بالسحر فهناك إجابة من ثلاث احتمالات:
إن قلبه يصدق صفية.
إنها رغبة في أن يكون له ظل على الأرض.
إنه ككل الرجال مغفل كبير.
لكنها ظلت محتفظة بصلابة رأسها حتى النهاية. لم يكن أحد بقادر على إثنائها عن قرار اتخذته، حتى أنها رفضت بعد أن تأكدت إصابتها بالسرطان أن يتم استئصال صدرها الأيسر:
- يمكن أن ينتشر الورم في جسمك كله.
- كله مكتوب.
تحملت ألمها، رفضت العلاج الكيمائي، وليلة موتها استندت على كتف واحدة من بناتها. استحمت في النهر، هذه الليلة كان الهواء لطيفا والقمر منيرا، لكن أحدا لم يتلصص عليها وهي تستحم، فقد كانت فروع شجرة الصفصاف تنوح أكثر من المعتاد، كما كان الشباب مشغولين بالسهر في دار إبراهيم أبو مسلم، يشاهدون فيلم حمام “الملاطيلي” لشمس البارودي من جهاز الفيديو الذي عاد به من العراق.
ارتدت كفنها وضفرت شعرها ونامت في الحجرة المغطاة بورق الحائط المليء بعصافير الجنة، وعندما اقتربت منها ونظرت في عينيها البلوريتين، توقعت أن أرى الصورة التي أوصف بها، وتتردد على الشفاه حتى صدقتها وصرت أخاف النظر في عين من ألقاه، بحثت عن وجهي الصخري الكالح، عن العين المطموسة في وجهي، والعين الحية في قفاي، عن رأسي التي لو صبت عليها جميع البحار والأنهار ما وقعت منها قطرة على الأرض، عن أجنحتي الأربعة آلاف، عن العيون والألسن التي تملأ جسدي وتجعلني أتخفى في آلاف الأشكال حتى لا أرى حقيقتي التي أخشاها وأهرب منها. في عينيها انمحت هذه الصور، ورأيتني طائرا أخضر مستكينا، منكمشا على نفسه، ولا أبالغ إذا قلت مكسور الجناح، فأدركت أنها تتوق لي، وأنها لا تهابني بل تشفق على.
دفنت “صفية” في حديقة المسجد الذي بناه “يحيى” على النيل مباشرة، ومازال قبرها مجاورا لمكتبة الجامع.
وربما يكون هذا حدث لواحد من الأسباب الثلاثة:
أن عين النساء المخصصة لعائلتها كانت قد استقبلت زائرة منذ أقل من أسبوعين بما يمنع فتحها قبل ستة أشهر.
أن “يحيي” أراد أن تدفن في أرضه، وهي التي رفضت أن تعيش في بيته.
أن “صفية” من أولياء الله الصالحين.
ويبدو أن أهالي البلدة وخاصة النساء يرجحون الاحتمال الأخير، ويتهامسون بأن أمنيتها تحققت وهي التي كانت تكره الذهاب للمقابر وتقول إنها مزدحمة وخانقة.. يا سلام لو الواحدة تدفن في الوسع والبراح.
ورغم دعوة أعضاء جماعة “أنصار السنة” أهالي البلدة إلى مقاطعة هذا الجامع، فإن البلدة هجرته قليلا، وعادت إليه لمشاهدة موكيته الأخضر، والحصول على جوائز مسابقات حفظ القرآن الكريم، ولا يخلو الأمر من امرأة أو شابة توقد شمعة وتضعها على القبر الذي نمت على شاهده شجيرات “الجهنمية” بألوانها البيضاء والحمراء والبنفسجية. وعلي عكس ما تتوقعون وما توقع أهل البلدة لم يظهر عفريت لصفية أو حتى شبح يجذب الرجال إلى قاع النهر الذي تحب، فصفية لم تكن بحاجة إلى الطواف ليلا فبعد تسعة أشهر من وفاتها، استقبلت البلدة عددا كبيرا من الصفيات واللاتي ولدتهن أمهاتهن بعد أن استحممن بماء غسلها.
فقد كبرت بناتها الثلاث: “نور” و”شمس” و”قمر” وهذا أمر طبيعي.
أما غير الطبيعي فهو الشبه الكبير بينهن، ما إن يرى أحد من أهل البلدة إحدى البنات حتى يسألها: أنت أخت نور؟
وما يحدث بالفعل أن الشبه بينهن تزداد كثافة تفاصيله.. الشعر الأسود الناعم، العيون اللوزية، البشرة البيضاء، الغمازات.. ما إن تبلغ الواحدة منهن حتى تتطابق ملامحها مع ملامح أختها الكبرى.
هذا التشابه بات يشغل بال صفية، أما “رزق” فكانت البنات لديه بنتا واحدة لا أكثر، ينادي عليها عندما يحتاج إلى كوب ماء على الغداء أو كوب شاي.
البنات أنفسهن انتبهن إلى هذا التشابه، وأصبح لديهن إصرار على تأكيده، عند اختيار تسريحة الشعر، القماش والأحذية، وفي مدارسهن كانت الواحدة منهن تتخرج وتأتي الأصغر، فتتعجب المدرسات من الشبه بينهن.
هذا الشبه الذي كان مسار تندر، صار مشكلة لمن يريد أن يخطب واحدة منهن، فعندما يأتي خاطب مع أهله ليقول: أريد الزواج من “نور”، تجلس البنات الثلاث أمامه ويسألنه: هل يمكنك أن تحدد أية واحدة منا “نور”؟
تنمحي السنوات التي بين كل واحدة والأخرى، ولم يكن العمر قد رسم أيا من خطوطه على الوجوه الغضة وحتى عندما يقوم بعمله فإنه هو الآخر سوف يشارك في اللعبة ذاتها، ويتواطأ معهن، ويرسم على وجوههن خطوطا رهيفة رقيقة لا تصل أبدا إلى حد التجعيدات.
نادرا ما استطاع أحد أن يميز بين البنات الثلاث، وإذا حدث لا يتعدى الأمر أن يكون مجرد تخمين.
لكن “صفية” كانت تعرفهن، وتوضح لحسنة كيف لا يختلط عليها أمرهن.. من رائحة الليمون التي تهفهف بمجرد مرور “شمس”، كنت وحدي في البيت يوم مولدها، ذهبت “نور” تنادي “رزق” من المقهى، وأنا نائمة على الكنبة في الصالة تحت النافذة المطلة على المشتل، ومع وجع الطلق تزداد كثافة رائحة أشجار الليمون، تنعشني قبل أن يغمى على.. من الليونة في حركة “قمر”، كم كانت ولادتها سهلة حتى أنها انزلقت قبل أن تصل “أم خليل” الداية. بمجرد أن أفكر فيها أجدها أمامي، دافئة، حانية، لم يكن عالمي ليكتمل دون هذه البنت التي لا تغيب ابتسامتها.
أما “نور” فهي رائحة الماء، وندى الفجر الذي كنت أتلقفه وأنا شاردة أيام حملها، وإحساس مثقل بالذنب والرجاء والخوف يغمرني، وجاءت نور، شربة ماء في ساعات القيظ والسلام الذي منحني العالم إياه، ولكن صراحتها مثل السهم تخيفني.
لا تخشى “صفية” على البنات إذا كن بصحبة “نور”، فهي التي تستطيع أن تتحمل الحقيقة التي لن تقولها “صفية” لهن، وكان الأمر واضحا بالنسبة لصفية مهما اصطدمت بالسؤال في لمعة عين “نور”، أو ارتسمت الإجابة متكدرة على وجهها فلن تقول، وكان الاتفاق الصامت ألا سؤال وألا إجابة.
وهى تتعجب كيف لا يفرقون بين بناتها الثلاث، ربما يكون في الأمر سحر أو “عمل”، ربما يكون “رزق” هو الذي ربط “العمل” كي ينتقم مني.
لا تريحها كلمات حُسنة: ولماذا يفعل ذلك لبناته؟ لا تدري صفية إن كانت تتخابث عليها أم أنها فعلا خرفت بعد وفاة ابنها، وقد يكون صحيحا ما ترويه راوية :”أصبحت أمي تستخدم العادات كما شالها الصيفي المشغول من الدانتيلا البيضاء بوروده المشمسة الواسعة، تضعه على كتفيها وقتما تريد وترميه على أقرب كرسي حين تمله، فتفتح الراديو على إذاعة الشرق الأوسط ومازال جسد قريب لم يبرد في قبره، وتقف في الشرفة بشعرها الأبيض المعصوب بشريط زاه دون طرحتها وتدندن “عدينا يا شوق عدينا على بر الهوى رسّينا” بينما النسوة يعبرن بسوادهن أمام البيت الكبير في اتجاه السرادق المقام وصوت المقرئ يلعلع في السماء “يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية”
وأحيانا تذهب لزيارة بنت من بنات العائلة لتهنئها بسلامة الولادة، فما أن ترى المولود حتى تقول:
– ماله وحش كده، يا اختي ده زي القرد.
تربت على رأس النفساء، تقبلها وتعطيها عشرة جنيهات
– متزعليش يا حبيبتي.
وتغالب دموعها وسط زغاريد السبوع
- يا ماما كسفتينا.
تضغط على يدي وتقول: هيزوره قريب، الولد ده ولد موت.
لم يكن من مفر لحيرة “صفية”، وإن كنت لا أوافقها على شكها في زوجها، وأرى من واجبي أن أتدخل لتوضيح بعد الأمور:
فلا يعني كوني ملك الموت أن أكون حياديا مع جميع الأشخاص، لكني صدقا أضمن حيادي مع هذا الرزق، الذي يبدو باهتا كما ظل، ليس له من وجود سوى في جلساته مع أصدقائه لتدخين الحشيش والأفيون. ولا يزيد عن كونه رجلا أصلعا، عندما يضحك تتجمع حبات العرق على جلد رأسه المحمر، وتتناثر بقع بنية على جلد يده وعلى ذقنه يداريها بلحية خفيفة بيضاء.
يحيرني هذا الرجل، فهل كان يعلم أن “يحيي” هو أبو بناته، أشك، وما أدراك ماذا يعني الشك بالنسبة لي أنا ملك الموت، لكني أتصور – وأنا لا أملك يقينا- أنه غافلني في هذه النقطة.
ليس أمامي غير أن أختلق لكم رواية.. عدة روايات…
الرواية الأولى: أنه كان متزوجا من امرأة أخرى في بلدة بعيدة.. وبعد عام لم ينجبا، ذهبا إلى الطبيب، أخبره أنه لا يمكنه الإنجاب، وبعد هذا التقرير طلق زوجته لأي سبب، وطلب نقله إلى مكان لا يعرفه أحد فيه، وتزوج “صفية”، ولما وجد البنات حوله حمد لها وللبنات أنهن أعطينه شهادة رجولته وكماله، ولم يفضحهن كي لا يفضح نفسه.
الرواية الثانية: أن الشكوك كانت تساوره فلم يكن على يقين قاطع بشيء، ونفسر بهذا علاقته المتذبذبة بالبنات بين الحب والنفور، حتى أنه يتصرف في كثير من المواقف وكأنه ليس أكثر من زوج أم.
الرواية الثالثة: أنه مثل كل الرجال الذين لا يشكون، كان على يقين أنهن بناته ومن أجلهن كان يتقاضى الرشاوى من جمعية “تقاوي البطاطس”، كي يحافظ لهن على مستوى معيشة معين، ويضحي بسمعته من أجل مستقبل البنات. وهذا ما سيجعل “نور” ممتنة له وتصر على إحياء مشتل الزهور الذي أهمله.
فعلي “صفية” أن تمحو فكرة “العمل” من رأسها، وتنتبه لبناتها أكثر، وتبحث معهن عما يفتقدن، فالأميرات الثلاث يضعن شرطا لمن يريدهن.. فقط أن يعرفهن، أن يميزهن، أن يقول: هذه “نور”، هذه “شمس”، هذه “قمر”. لكن الفتيات الثلاث كن متشابهات وزمن الحواديت قد انتهى، وفي حياة الناس ما هو أهم من البحث عن توأم الروح، أو الفلقة الثانية من حبة الفول، المهم أن تكون العروس مؤدبة،وبنت ناس.
والحقيقة أن كل من يتقدم لهن كان معذورا..
لكن البنات كن خياليات، ويطمحن إلى المستحيل، لذا تراني أتعاطف معهن، وأُحمل “يوسف إدريس” مسئولية مصيرهن، وعدم زواجهن، فهن لم يتمسكن بهذا الشرط إلا بعد قراءتهن لقصة “بيت من لحم”، أرعبتهن فكرة التواطؤ، وكان في حياتهن من الغموض ما يكفي، ومن التساؤلات الخرساء ما يثقل كاهلهن.
وعندما أصرت البنات على موقفهن وزادت حيرتها، أطلعنها على القصة، لكن صفية فهمتها بطريقتها، فزاد رفضها لكل محاولات “يحيى” الزواج منها.
إلا أنها ككل الأمهات لا تكف عن الشكوى.
تشتكي إلى “يحيى” في زيارة له في مستشفاه، وهي تجري الفحوص الطبية بعد شعورها بالألم في الجهة اليسرى من ثديها وإحساسها بوجود “كلكوعة” تحت إبطها الأيسر.
– البنات بقوا عوانس.
لكن “يحيى” كان يرى أن بناته مازلن شابات، وكان يمني نفسه بيوم تلين فيه رأسها ، ويعيش مع البنات، وهذا ما لم يحدث، فلم يكن أمامه سوى أن يجذب بناته إلى العالم الذي بناه لنفسه وأن يحتفظ بجزء منهن، فاشترى جهاز “ريكوردر” لكي يستمع إلى تسجيلاتهن، ويحتفظ منهن بذبذات الصوت التي لا تفنى ولا تضيع ويسمعهن في أي وقت يريد. وأصر على إكمال تعليمهن في جامعة القاهرة.
- إنت البنات معاك طول الوقت، نفسي أقرب منهم.
تمنى أن يستقطبهن، وعندما تخرجت “نور” وفر لها وظيفة “مديرة الحسابات” في مستشفاه لكنها صدمته، عندما علم من “حُسنة” برغبتها في تأجير جزء من الفدادين الأربعة المحيطة بالسرايا لتوسع مشتل الزهور الذي أهمله رزق وأسمته “رزق البنات”
زارها في المشتل، وجده متفتحا بكل الزهور…القرنفل، الورد البلدي، الياسمين برقته وبياضه الناصع، البلاك روز السوداء النادرة بملمسها القطيفي، البنفسج، الليليم بألوانه الفوشيا والأبيض والبرتقالي، عصفور الجنة، الأوركيد، الجلاديولوس بساقه الشامخة، الماري جولد بلونيها الأصفر والبرتقالي.
وفي خلفية الزهور توزعت نباتات الزينة. هناك نباتات يعرفها: الفيكس ديكورا، البوتس، الأناناس، الأروكاريا، الأسبرجس الناعم، الصبارات: البلدي والشمعدان وجلد النمر. وأنواع أخرى يجهل أسماءها، فعرفته عليها: القشطة أوراقه تشبه مذراة القمح، الكلاديم: ورقته خضراء قلبية مبرقشة باللون الأحمر أو الأصفر أو الكريمي وساقه ضعيفة، الرويو يشبه النخل ورقته مستقيمة وضعيفة، الدراسينا مانسنجيانا ورقته طويلة رخوة، الدارسينا مارجيناتا ورقته شريطية رفيعة.
- إزاي بتميزي بينها؟
- زي ما إنت بتميز بيني وبين “شمس” و”قمر”.
- أحيانا بحس إنك بتكرهينني؟
- أكرهك!! ليه؟
- نظراتك.
- مش كره، ده وجع. كل مبشوفك بتوجعني، في أحيان كتيره، ببقى عايزه أحضنك، وكلمة بابا على لساني، لكني أكتمها فتوجعني.
- أنا أبوك، قوليها..
- اللي بيوجعني أكتر إن عمري ما كان لي الحق أتباهى بابويا، بابا رزق، عارفه انه مدمن، وإيده طويلة على فلوس الجمعية التعاونية. وإنت! عمري ما تكلمت عنك، أخاف يسألوني هو يبقى لك إيه؟
- ممكن نعيش مع بعض، ونسيب هنا خالص. أنا..
- لازم تفهم، مهما كانت عيوب بابا، عمره ما جرحنا، مفيش مره شخط في واحدة مننا، المشتل ده كان نفسه فيه، ومش ممكن أسيبه.
- وأنا؟
- مش هنديك أكتر من المساحة اللي إديتها إنت لنفسك.
- ممكن أحضنك؟
- لا. بابا معودناش إننا نحضنه.
لذا لم يصر على ذهاب “شمس” و”قمر” إلى القاهرة ما دمن سيعدن في النهاية إلى “رزق”. واكتفى منهن بما يختلسه من أوقات متعة صغيرة، مثل ذهابهن معه إلى الأوبرا. اخترن يوم الاثنين لحضور العرض الختامي لأوبرا “كارمينا بورانا” للموسيقار الألماني ” كارل أورف”، التي كان مقدرا أن تكون خاتمة العروض الشتوية لحفلات دار الأوبرا، كانت شيئا مختلفا وجديدا. في الاستراحة أتفقن على تكرار التجربة، لكن هذا لن يحدث فدار الأوبرا احترقت بعد ثلاثة أيام من تلك الليلة التي ستبقى في ذاكرتهن ويحكين عنها كلما شاهدن “عبد الحليم” يغني “نار يا حبيبي نار”، أو “فريد الأطرش” وهو ينادي على “فاتن حمامة”، ومازالت الحكايات على ألسنتهن وهن يشغلن “بلوفر” من الصوف لطفلة جديدة قادمة لهذه العائلة.
بالطبع لم تكن الزيارات القليلة أو الجلسات الصغيرة في حديقة “جروبي”، أو حتى مساعدتهن في مشتلهن تريح يحيى أو تزيح قلقه من الحرام الذي كان يشعر به تجاه علاقته بصفية التي تصر على عدم الزواج به؟ ومحاولاته المستميتة معها، سأتزوجك غصبا عنك. لكن شيئا لم يثنها عن قرارها.
ربما هي “صفية” الأخرى. هل نسيتموها؟ “صفية” التي لا تحبونها؟ ربما كانت تقود “صفية” في دروب من المتعة لم تعرفها حتي مع “يحيى الفقي”، لكن ما يمكن أن أقوله لكم إن هذا القلق وهذه التساؤلات، لم تؤثر في وسامة وجاذبية “يحيى” رغم أنه في الستين والفضل للكريمات والهرمونات، حتى أن “صفية” حين انتهى ما بينهما وعاد فقط ابن العمة وأبو البنات لم تكن تندم على شيء من علاقتها معه سوى أنها أضاعت على بناتها فرصة عريس وسيم ورشيق، على الأقل كانت تطمئن على واحدة من البنات، وظل “يحيى” في خاطرها بطلا لأفلام الأبيض والأسود، لم تصبه نغبشة الألوان.
ورغم علاقاته المتعددة التي كان يسميها احتياجات ضرورية، إلا أن “صفية” ظلت في الأماكن العصية على التفسير، في منطقة هل حدث هذا فعلا أم لا؟ وعندما يجلس أمام الفضائيات ويشاهد الجميلات اللاتي منحهن بمشرطه جمالها، يجد أن نسيانه لها أمر عليه ألا يتعب نفسه في محاولته، فهي قادرة على اقتحام حياته وفرض نفسها ولو عن طريق الأخريات.
في بداية شهرته كجراح تجميل لم يكن متعمدا تلبيس ملامحها لجميلاته لكنه اختيار أول فتاة جاءته لإجراء جراحة تجميل، فبينما هو يمعن النظر في وجهها لتحديد ما يحتاج من إزالة أو إضافة، أمسكت الفتاة بصورة صفية وقالت:
- أريد أن أكون شكل هذه.
وعندما تشاهدون الشفاه المنتفخة، والخدود المستديرة تذكروا “صفية” ورغم ذلك لم تكن واحدة منهن “صفية”.. الطبطبة على الظهر، اللمعة في العينين، حرارة شفتيها على باطن كفه، مما يجعله يهمس لها إذا التقيا في مناسبة عائلية
- إنت لازم ساحرة لي.
وإذا آمنا بالسحر فإننا لن نحتار أو نتساءل لماذا يصدقها؟! وهي التي ترفض الزواج منه، وكيف يوقن أن البنات فعلا بناته؟!. وإذا كنتم لا تؤمنون مثلي بالسحر فهناك إجابة من ثلاث احتمالات:
إن قلبه يصدق صفية.
إنها رغبة في أن يكون له ظل على الأرض.
إنه ككل الرجال مغفل كبير.
لكنها ظلت محتفظة بصلابة رأسها حتى النهاية. لم يكن أحد بقادر على إثنائها عن قرار اتخذته، حتى أنها رفضت بعد أن تأكدت إصابتها بالسرطان أن يتم استئصال صدرها الأيسر:
- يمكن أن ينتشر الورم في جسمك كله.
- كله مكتوب.
تحملت ألمها، رفضت العلاج الكيمائي، وليلة موتها استندت على كتف واحدة من بناتها. استحمت في النهر، هذه الليلة كان الهواء لطيفا والقمر منيرا، لكن أحدا لم يتلصص عليها وهي تستحم، فقد كانت فروع شجرة الصفصاف تنوح أكثر من المعتاد، كما كان الشباب مشغولين بالسهر في دار إبراهيم أبو مسلم، يشاهدون فيلم حمام “الملاطيلي” لشمس البارودي من جهاز الفيديو الذي عاد به من العراق.
ارتدت كفنها وضفرت شعرها ونامت في الحجرة المغطاة بورق الحائط المليء بعصافير الجنة، وعندما اقتربت منها ونظرت في عينيها البلوريتين، توقعت أن أرى الصورة التي أوصف بها، وتتردد على الشفاه حتى صدقتها وصرت أخاف النظر في عين من ألقاه، بحثت عن وجهي الصخري الكالح، عن العين المطموسة في وجهي، والعين الحية في قفاي، عن رأسي التي لو صبت عليها جميع البحار والأنهار ما وقعت منها قطرة على الأرض، عن أجنحتي الأربعة آلاف، عن العيون والألسن التي تملأ جسدي وتجعلني أتخفى في آلاف الأشكال حتى لا أرى حقيقتي التي أخشاها وأهرب منها. في عينيها انمحت هذه الصور، ورأيتني طائرا أخضر مستكينا، منكمشا على نفسه، ولا أبالغ إذا قلت مكسور الجناح، فأدركت أنها تتوق لي، وأنها لا تهابني بل تشفق على.
دفنت “صفية” في حديقة المسجد الذي بناه “يحيى” على النيل مباشرة، ومازال قبرها مجاورا لمكتبة الجامع.
وربما يكون هذا حدث لواحد من الأسباب الثلاثة:
أن عين النساء المخصصة لعائلتها كانت قد استقبلت زائرة منذ أقل من أسبوعين بما يمنع فتحها قبل ستة أشهر.
أن “يحيي” أراد أن تدفن في أرضه، وهي التي رفضت أن تعيش في بيته.
أن “صفية” من أولياء الله الصالحين.
ويبدو أن أهالي البلدة وخاصة النساء يرجحون الاحتمال الأخير، ويتهامسون بأن أمنيتها تحققت وهي التي كانت تكره الذهاب للمقابر وتقول إنها مزدحمة وخانقة.. يا سلام لو الواحدة تدفن في الوسع والبراح.
ورغم دعوة أعضاء جماعة “أنصار السنة” أهالي البلدة إلى مقاطعة هذا الجامع، فإن البلدة هجرته قليلا، وعادت إليه لمشاهدة موكيته الأخضر، والحصول على جوائز مسابقات حفظ القرآن الكريم، ولا يخلو الأمر من امرأة أو شابة توقد شمعة وتضعها على القبر الذي نمت على شاهده شجيرات “الجهنمية” بألوانها البيضاء والحمراء والبنفسجية. وعلي عكس ما تتوقعون وما توقع أهل البلدة لم يظهر عفريت لصفية أو حتى شبح يجذب الرجال إلى قاع النهر الذي تحب، فصفية لم تكن بحاجة إلى الطواف ليلا فبعد تسعة أشهر من وفاتها، استقبلت البلدة عددا كبيرا من الصفيات واللاتي ولدتهن أمهاتهن بعد أن استحممن بماء غسلها.
No comments:
Post a Comment