Wednesday, July 14, 2010

الفصل الحادي عشر

تعطيني ريشتها، تفتح علبة الألوان، تفرد اللوحة البيضاء، تعلقها على مسند وتمد يدها بالفرشاة – ارسمي يا جدتي.
استنكر طلبها، لم يكن لي أية كراسة رسم، هذه الأشياء لم تكن في الكتاب، كان لنا لوح ولكن لتسميع وكتابة آيات القرآن الكريم. كراسات الرسم ظهرت بعدي بسنوات.
– ارسمي لوحتك الخاصة، ارسمي ما تحلمين به.
ليس هذا بالأمر اليسير. في أيامي هذه تختلط الذكريات بالأحلام بالمخاوف ويحتاج فض الاشتباك بينهم إلى مهارة وحذق لم يعودا لي.
منذ ليلتي الأولى تخايلني تموجات ألوانه.. تغير كل شيء، لكنه بقي مزهوا، لامعا يملأ السجادة المعلقة في منتصف الجدار القبلي في الصالة الكبيرة، أتحسس ملمسها الحريري، أتعجب للون أرضيتها الأبيض الثلجي الذي يتوارى ليترك للطاووس كل المكان. تجذبني ألوانه أغرق في أزرقها وأحمرها وأصفرها، تختلط الألوان فلا أفصلها عن بعض، يبرق الأخضر والبرتقالي والبنفسجي، تومض آلاف العيون المنتشرة على ذيله، قدرا مسلطا، لا يغفو أبدا ويطلع على كل شيء، كلما نظرت إليه من زاوية جديدة تغيرت ألوانه.
يتشاءم البعض من وجوده بالبيت؟ من صوته الذي يشبه اسطوانة قديمة مشروخة، فهل حقا كان السبب في دخول إبليس الجنة وخروج آدم منها؟ أم أنه كما قال “منير” مقدس ورمز لكبير الملائكة وإله الشمس “تموز”، لا أتذكر..غير أني تفاءلت به، حين عرفت للمرة الأولى معنى أن أنام قريبة من شخص إلى هذه الدرجة، أضع يدي على العرق النابض في رقبته، أجده هادئا مطمئنا، وأنا لا أصدق نفسي، متى تستيقظ الشمس؟ لكنه حين استيقظ مبكرا كما هي عادته دائما قبلني في شفتي وقال: ابقي نائمة، لم تنامي جيدا بالليل وغطاني.
لكنها تصر
- ارسمي ما تشعرين به.
تترك اللوحة البيضاء في غرفتي وتسافر …
بأي الألوان أبدأ وحياتي بين عالمين، الأسود والأخضر طَبَعا في الروح صفاتهما، والأزرق جاء متأخرا ليهدئ من روعي، ألجأ إليه بعيدا عن الصخب الذي يستشعره كل من يدخل عالما جديدا.. اللون الأسود قوي، صريح، أشتاق إلى حدته وصرامته، أرتديه في أيامي الأخيرة تعويضا عن سيولة الروح وهشاشتها، أرسمه خطوطا، خطا مستقيما يربط بين نقطتين، بين ميلاد وموت، ربما كان طريقا. أي الطرق التي مشيت عليها؟! أي درب يؤدي بنا إلى النهايات المحتومة؟! ربما النظرة المستقيمة لأبعد من بيت فقير يقوم بعيدا وحيدا في غربة أبدية عن الآخرين، مستكفيا بنفسه.
لم يعد بيتك صار مجرد بيت.. البيت المكون من ثلاث غرف، غرفة للضيوف بها ثلاث كنبات، كل كنبة لها مسندان وبينهما تكاية، ويغطي الكنب كيريتون مطرز: كنبة يغطيها لون “نبيتي” سادة والأخريان مطرزتان بأزهار حمراء، رسمها يشبه لوزات القطن. الحوائط صارت كالحة، ومن أثر اللمبة الوناسة يتصاعد هباب مخروطي الشكل، تتزايد مساحة الغابات المرسومة بفعل الرطوبة، تتآكل القلوب التي حفرها “يحيى”، والحرف الأول من اسم “صفية”.
كل شيء في البيت يبدو أصغر مما كان، أضيق، لكن “الوسعاية” التي أمامه مازالت كما هي تحدها المصطبة وتظللها تكعيبة العنب.
الأسود قرين الأرض والظلمة، الليل كافر، تشكلات الجان، الأسود الجامع لكل الألوان القادر على امتصاص كل ما يقترب منه، حجر المغناطيس الذي أريتني إياه وأنت في المدرسة، تلتقطين به مسامير ودبابيس البيت، البيت الذي كان متماسكا وفجأة تخلخلت روابطه، أم إن هذا حاله منذ زمن؟ فقط كنا ننتظر مغناطيسك، حجرك الأسود، كي نرى التفكك والصدأ الذي يأكل روحنا، ويرتفع صياح أبيك وأمك
- أنتِ السبب ؟
- ايه كان بإيدي؟! ليه ربنا يفضحنا كده ؟
- بنتك هي اللي هتفضحنا.
- سافر وارجع بها، امنعها، أنت أبوها.
- أنت أمها.
حلقة مفرغة واسطوانة تتردد حشرجتها كل مساء، كل صباح.
لكن أحدا لم يسافر إليك ولم يسأل عنك في بعدك النائي، الذي لا أستطيع اتخاذ موقفا منه، فلعل لونك الأسود يجذبني إلى ضفة ما، وأيا كانت ضفة النهر فأنا معك، هاهو أسودك يحفزني لكي أسألك لماذا لم تأخذيني معك كي أكون بجانبك واكتفيت بالرسائل المتبادلة دون عنوان سوى طابع بريد لمدينة غريبة.
تزداد الفجوة بيني وبين أمك، وبينها وبين أبيك، تزداد الفجوات ويسود اللون الأصفر، الفجوة لا أعرف كيف أرسمها، فجوة لا تعني دائرة، ربما تكون جفوة .. صحراء جرداء واسعة تصرخ فيها فلا يرتد صداك أبعد من أذنك.
الأصفر مقبض، الخنجر الذي ينتظر من يغمده ليجهز على علاقتي بأمك، لماذا تبدو مترامية الأطراف ولا سبيل لجمعها؟
كانت تشبهني عيناها، شعرها، وجهها، عدا أنها أكثر بياضا، لم يكن لها هذا الجمال الخاطف، الساحر.
عندما تراها امرأة معي تقول:
– بنتك شبهك خالص.
وأكمل أنا في سري ما لم تقله: فلاحة مثلك.
لم تحقق توقعاتي، درجاتها متوسطة، تحب ما أكره وتكره ما أحب.
الأصفر الشقاق الدائم بيننا وقد تعبت منه، الأصفر مرارة، وعتاب مصلوب على الشفاه، توتر، انتظار لشيء لا أتوقعه، الموافقة على الزواج من رجل لا أستطيع إصدار حكم عليه بعد كل هذه السنوات.. أذكره تماما حين دخل بصحبة أحد أعمامه، استقبله “فؤاد” في حجرة المكتب، ثم نادى:
- فاطمة! خدي عوض يلعب مع الأولاد.
نفر الولد من يد فاطمة وكأنه فهم أن المطلوب عدم وجوده في الغرفة، أو كأنه تعود على هذا السلوك من الآخرين، لكنه لم يبرح المقعد الذي جلس عليه في الصالة الكبيرة.
عند سقوط الورقة تستخلص منها الشجرة كل المادة المفيدة، ولا يبقى في الورقة إلا الفضلات ذات اللون الأصفر، وعندما يعجز الجذر عن امتصاص الماء وتستمر عملية النتح يفقد النبات الكثير من حرارته، مما يعرضه للتجمد، لذا تتساقط الأوراق تدريجيا، أوراق خطية مدورة، إبرية، بيضاوية، حوافها ملساء، مسننة، متموجة، منشارية. و يبقى مكانها أثر في الساق يسمي “الندبة”، كما الندوب التي تبقى في الروح.. الأصفر جوع، هزال، لون مريض عليل، لون الذهب، فأر يبحث عن كنزه الذي ضيع كنزه، قرص الشمس، ذبول الذؤابة الأخيرة لشمعة موقدة في حجرة ساكنة إلا من سريان دموع امرأة على جسد مسجى، الوشوشة، الهمسات، الشائعات، رنين الصاجات، لمعة “غوايش” لا أشتريها من الموالد، وغيرة لا أريد لك أن تختبريها.
من قال إن إمساك العصا على الدوام ترهق اليد التي تضرب؟.
قرأت يوما: إننا نحتاج إلى أربعة أحضان حب وتعاطف في اليوم من أجل أن نبقى أحياء، ونحتاج إلى ثمان من أجل أن نستمر، ونحتاج إلى اثني عشر حضنا كي ننمو ونتطور، فهل اتسع حضني لأولادي؟
من شرفتي أراهم، يسيرون أكتافهم مثقلة بعذابات أيامهم الطويلة، أتطلع في وجه ابنتي يوجعني وجعها الذي تعيشه، ولا تمسكه بيديها، وتدير وجهها عنه، عاجزة لكنها لا تسند نفسها… تفتحين دفتر محاضراتها، تفاجئك وردة مجففة، ويقفز في وجهك قلب مرسوم يخترقه سهم، تميزين من الحرفين الحرف الأول من اسم “راوية”، تفركين الوردة بين أصابعك وتشطبين القلب والحرفين، تتركين رسالتك في دفترها دون أن تسأليها. وعلي مائدة العشاء، تتحدثين بهدوء وأنت تضعين الشوربة في طبق فؤاد
- راوية هتقضي أيام المذاكرة هنا.
– وأيام الامتحان؟
- تروح وترجع في نفس اليوم؟
فعن أي شيء تبحثين الآن؟ عن دموع في عينيك؟ تستدعينها فيصعد إليك خادم البئر بدلو فارغ. هل تلجئين لوضع نقطة واحدة من العسل في عينيك، وتستمتعين باللهيب لثوانٍ؟ لم تعد عيناك تستجيبان للغسيل الطبيعي، عليك بالقطرة، ترطب عينيك، لكن حزنك سيبقى جافا حارقا.
مساكين الرجال الذين لا يبكون، تمتص أجسادهم سمومهم، وأحيانا، ترتد إلينا، ليس صحيحا أنهم بلا دموع. ما الذي جعل فؤاد يبكي؟ في المرة التي رأيت فيها دموعه أيقنت أنه يحبني وأن لي مكانا في قلبه، لكن الأمر لم يستمر طويلا فقد مات فؤاد، قبل أن يختبر طعم الدموع على ابنه البكر.
حبيبة هل صحيح أن ابنتك ستكون شبهك تماما؟
ستكون جميلة جدا، أنت فُقت جمال “نور” و”شمس” و”قمر”، هل ستكون جميلة مثلهن أم ستكون جميلة مثل “صفية”؟ أم مثل “حياة”؟ كلهن كنا الأجمل، وأنت جئت لترفعي رأسي، وأتباهى بجمالك، وأتقبل المجاملات
– طالعة لجدتها.
أول ما تبادر لذهني وعيناي ترى عبارتك: “أحتاج إليك يا جدتي” اللون الأحمر. قطرات حمراء تفصل بين عالمين، هو دائما اللون الأحمر يطاردنا، اللون الأحمر حياة وموت. الأحمر شره، صرخات، حريق، لهب، شرارة انطلقت من فرن لم تنته صاحبته من الخبيز، طارت الشرارة إلى برج الحمام، وطار الحمام المشتعل وأخذ يتساقط على سطح المنازل الأخرى المغطاة بالقش والحطب فاشتعلت المنازل الواحد بعد الأخر، يوم بأكمله احتاجه الحريق كي يخمد، لكن الشرارة التي أصابت “يحيى” و”صفية” احتاجت كل عمرهما ولم تخمد. ينظر لهما الموت ويقول: لا شيء يشبه الكائن الحي أكثر من النار، هي كائن متنوع تستطيع أن تكتسي بكل الأشكال سواء منها المفزعة إلى أبعد حدود الفزع، والأليفة إلى أبعد حدود الألفة، وهي وحدها القادرة على كشف معدن الأشياء وروحها.
اللون الأحمر أحلامك وكوابيسي.
لكن ما تكتبينه لي ليس له علاقة بألواني، أو حتى الألوان التي تركتيها لي، ربما هناك خلطة معينة بنسب لا أعرفها، ومن أين لي أن أعرف؟
ترسلين خطابات مليئة بأشياء أجهلها: دي إن ايه، واطسون…
يبدو أنني سأحتاج إلى نظارتي التي أتجاهلها، وأنزل إلى المكتبة، هل ما تقولينه موجود فوق الأرفف الخشبية في المكتبة، في كتب الطب كانوا يقولون: “إن الماء الذي يقدر منه الولد السوي، إذا وقع في رحم المرأة، اختلط بمائها ودمها، فخثر وغلظ، فمخضته الريح حتى يصير كماء الجبن، ثم يصير كاللبن الرائب، ثم تنقسم أعضاؤه لإبان أجله. فإن كان ذكرا فوجهه قبل ظهر أمه، وإن كانت أنثي فوجهها قبالة بطنها، ويداه على وجهه، وذقنه على ركبتيه، مقبض على المشيمة كأنه مصرور في صرة. وهو يتنفس من متنفس شاق عليه. وليس منه عضو إلا كأنه في وثاق؛ فوقه حر البطن وثقله، وتحته ما تحته. منوط قمع سرته إلى مريء بأمعائها، يمص به من طعامها وشرابها. وبذلك يعيش ويحيا. فهو بهذه المنزلة وعلي هذا الحال إلي يوم مولده”.
لا يبدو لي هذا الكلام مثل الوصف والصور التي ترسلينها لي. مكتبتنا قديمة، لا جديد فيها، ربما أسأل “يحيى”، سيحب طفلتك، هو يحب كل البنات.
سيكون لك طفلة، غلطة تحتاجين إلى حمايتي لإصلاحها. لا تحملي هما، سوف أجبر أباك على الموافقة على زواجكما، وإذا لم يوافق فليذهب إلى الجحيم سوف نعقد قرانكما، وبعد فترة تعود المياه إلى مجاريها ومهما كان “عوض” طيب ما أن يرى حفيدته حتى يرق قلبه، فقط عرفيني عليه. لكن الأمر لا يستدعي سفرا للخارج، لا أشجعك على الخطأ، سأحتفظ لنفسي بقرصة أذن كبيرة .
مهما عنفتك “راوية” أو “عوض” تحمليهما فأنت مخطئة.
لا يوافق على الزواج بك!! من هذا المجنون؟ ألا يعرف من أنت وعائلتك وما تمتلكين. لا تحزني يا حبيبتي سوف أذهب إليه، اطمئني لن أخذلك أبدا،على الأقل نعقد القرآن ويطلقك. ما هذا يا “حبيبة”؟ هذا يحتاج إلى صفعة، لكني سأحميك من يدي ومن يد “عوض”، ما الذي أعجبك في هذا النذل الذي يهرب بفعلته؟
“حبيبة” هل أنت متأكدة ربما يُهيأ إليك. وهذه الكروت التي تبعثينها لي، تؤكد ما فعلت في لحظة طيش وطفلتك لا تكف عن النمو والحياة تتمدد فيها.
هل مات؟ هل صدمته سيارة، قطار، طائرة ؟
لا أفهم ابنتك. ابنتك ليس لها أب، ابنتك لوحدك، مريم أخرى ومسيحة جديدة.
يا حبيبتي الأمر أهون من أن تختلقي هذه القصة، تجارب وهندسة وراثية، من سيصدقك، هناك قصص أسهل، نمنح الطفلة اسما لأي أب، لكن لا تقولي هذا الكلام، عليك أن تعودي كي نتفاهم ونتخذ ترتيبات، حبيبة لا تعودي للسرايا، عودي إلى شقة “الزمالك”، الشوارع المزدحمة تستوعب ما تقولين.
ولكن حبيبة اعذريني، لا تحلفي، وهذه الأوراق؟ النعجة “دولِّي”، النعاج لا أحد يسألها عن شرفها وعرضها وكل ما ادخرته عائلتك لك. لماذا تحكمين على نفسك بهذه القسوة؟ “راوية” لا يمكن أن تتحمل هذه الصدمة، لا تقولي لها ، ابنتي لن تتحمل.
ابنتك!! ماذا ستسمينها؟ لدينا أسماء كثيرة، وشموع عديدة يمكن أن نضيئها، والشمعة الأطول عمرا تكون ابنتك التي لا أدري بأي لون يمكن أن ترسم صورها وهي مازالت مغروسة في رحمك، تستمد وجودها منك، وتتغير أحوالها بين دقيقة وأخرى، كتلة لحمية تشبه ذكر البط، ربما يكون “دارون” مخطئا، فأصل الإنسان قد يكون ذكر البط، ونحن نأكل أسلافنا.
في أسبوعها السادس، أطرافها الصغيرة لم تكتمل لكنها تبدو انسيابية، لم تظهر كل أصابعها، لكن عمودها الفقري مكتمل، فقراته واضحة كم عددها؟ ورأسها كبيرة جدا، أكبر من بقية الجسد، وضلوعها التي لن تجد من يكسرها لها ظاهرة، لم يتخلق لحمها بعد وفمها مضموم وعيناها دائرية، مجرد نتوء، وأنفها صغير.
ما الذي استغربه وأنا أمسك صورها؟ سبق لي أن شاهدت هذا. في كتاب؟.. في السينما؟.. في جريدة ؟
سمح لنا الرجل الميكانيكي بمشاهدة جَنِينُه، نعم جنينه، نزفته الأم مع دمائها المنسابة،على فخديها في شهره الرابع، والرحم الذي ينمو فيه الآن من صنعه، صنعه في خمسة أيام. لم تكن أعضاؤه واضحة، احتاجت إلى منظار مكبر، كي يحدد الأب مكان فتحة الفم، ويقطر له بالقطارة نقط من محلول سكر النبات.
رأيت طفلتك ملفوفة بفوطة خفيفة، كل جسدها عدا الرأس الذي ظهر عليه الشعر كما ظهرت الحواجب والرموش، وبانت تقاطيع وجهها بوضوح، والأصابع في يديها وقدميها، كانت أطرافها الأربعة عبارة عن خيط رفيع جدا أحمر اللون. بدأت تستجيب لأصوات الأم والأب.
الطفلة تنمو أسرع مما تنمو داخل رحم الأم، استخدم الأب مركبات البنسلين ومضادات الفطريات والكراوية وسكر النبات ولبن الأم في تغذيتها بالقطارة، ومركبات أخرى لم يفصح عنها الأب للأطباء ومازال يرفض رأيهم في نقلها للمستشفى.
لابد وأن يكون الجنين بنتا، كنت أخاف على جنينك، لكنك أحسنت، البنات يحملن سر البقاء.
ماذا أريد أن أفعل الآن وأنا أتكئ بين مخدتين، تحتي ملاءة بنفسجية، وفوقي لحافي القديم.أن أجلس على الأرض، على النجيلة وأعشاب مجهولة الاسم، لا تميزها سوى خضرتها، أستند على الأرض الخصبة التي تتخلق الحياة في باطنها، وتتفجر لونا أخضر وأوراقا صغيرة مستطيلة وبيضاوية، رقيقة، غضة، بسيقان وردية، يشتد عودها اللدن فتصير بنية، والنمل يتسابق ويحفر أنفاقه، تتداخل الخضرة الحية مع الأعشاب الجافة الميتة، تتمايل زهرة الأقحوان بألوانها المبهجة وأصفرها الذهبي، أستنشق عبيرها، فيغمرني دفء، وتتولد في داخلي وداعة وينفتح العالم أمامي وتسقط كل الحوائط بيني وبين الآخرين.
يمكنني الآن أن أعتذر لراوية، أستمع لكل لومها، لن أدافع عن نفسي، تحتاج هي لحضني الآن، لن تكون هناك فضيحة، فقط صفحة جديدة نفتحها.
يتماوج النسيم فوق الأرض الخضراء المنبسطة أمامي، تتمايل أطراف النباتات تعطي زخما وغنى وملمسا قطيفيا تتحسسه عيني وتتابع تموجات الأخضر المتناهية، الياقوتة الخضراء التي نظر الله إليها بعين الهيبة فذابت وصارت ماء، ثم خلق العرش وجعله على متن الماء، منتهى الأشياء وحدودها القصوى.
والبنت التي تهز شجرة التوت فلا تقدر عليها، ولا تطول أقرب فرع منها، يأتي أحدهم يهز لها الشجرة، يسقط التوت، تجمع ما يسقط على الأرض وتجرى به لأمها المريضة التي تنام على السرير الوحيد في البيت، تتوقع أن تفرح أمها، تشتكي من ألم في رأسها، تناولها إيشارب لونه أزرق وبه ورود كبيرة حمراء، تعصب رأسها:
– عطشانة.
أحضر القلة، أهز يدها، لكنها مضت بعيدا.
لماذا لا أذهب وأرش قبرها بالماء.. تسقط دمعة من عيني تتمدد جدولا، بحرا أزرق اللون رصينا، هادئا، واثقا.أخطو على شاطئه تتوقف موجاته عند قدمي فأكتسب غرورا وثقة ،عند قدمي يقف العالم.أبحر مع “فؤاد” على مركب من رأس البر حتى أسوان، يمكن للرحلة أن تمتد ونطوف العالم، لكننا عدنا، كنا سنعود لأي سبب.
فتستقبلني هدهدات حمامات بيضاء تطير وتحط على نافذتي، ينساب أمان في الروح، يجعلني أسهر في شرفتي ليال طويلة، أجلس في انتظار أن أراها بعد صلاة العشاء وحتى السحور وصلاة الفجر. عين على السماء وعين على النهر. تقول “رحيل” إنها رأتها في السماء أولا وبخط واضح من النور الأبيض “لا اله إلا الله محمد رسول الله” وظلت العبارة تسير بجوار النجوم ثم سقطت كشهاب نحو صفحة الماء، ليلة القدر للموعودين.
يملؤني حنين دائم إلى اللحظة التي لمست فيها أصابعك وجهي وأنا أعمل في ستارة من الدانتيلا، كان الهدف أن تكون لأمك لكنها لم تكتمل أبدا لها
– مش هغير في الأثاث، الموضه هي الستاير المنقوشه.
وعندما اكتملت كنت بعيدة ودون نوافذ تعلق عليها ستائر للفرح، أرأيت لا يوجد أبيض خالص، اللحظات المختلسة من الأسى والمرارة والملل، حبات ندى أجمعها في الصباح عن زهرات البرسيم من أجل قريب التهبت عيناه.
مازالت على ورقة “الفيكس” نقطة بنية لامعة، نقطة الشيكولاته التي سقطت من حبيبة على الورقة الخضراء البضة، مازالت موجودة، خطا لامعا بنيا لزجا يعترض مسارات الخطوط المتوازية، يتقاطع معها.
هل هي شيكولاتة تغذي الورقة أم هي مرض ظهر على سطحها؟
ياللحفيدة التي تسافر وترسل لي بصور لمراحل تطور جنينها دون أن تتزوج .
ما الذي تحتويه شقة “الزمالك”؟ ما الذي جعل أمك تعود، بعد دراسة علم النفس، سيدة أعمال ومديرة لمدارس؟ ما الذي جعل خالك منير يرحل، ويسافر خالك عاطف، وأنت و”حياة” .. اللعنة. هل كان عليّ أن أتخلص منها؟
الجو شديد البرودة هل أغلق نافذتي؟ لا يمكن فماذا عن الموت القادم هناك من بعيد؟
رأيته يدور حول البيت، مضى عهد لم أره، تغير شكله، بدت عليه خطوط الأيام، ما الذي فقده؟ لمعة العينين؟ أسنانه؟ هل يركب طاقم أسنان، ربما روح المرح. استقبلته، بعد أسبوع مات أبي، كنت أعرف أنه قادم، قادم، فحاولت أن أفادي، وأخفف الواقعة، مات أبي في الوقت المناسب، الوقت الذي جعل نعيه في جريدة الأهرام يليق بالحاج حسين الفقي، والد الأستاذ الدكتور يحيى الفقي أستاذ جراحة التجميل، والسيدة حسنة الفقي وصهر فؤاد بك الكاتب وجد…،..،…، وقريب ونسيب عائلات..
كنت تنتظرين موته.
كتبت هذا الإعلان أكثر من مرة.
فقط كنت مستعدة….
تحاولين رد الاعتبار لأبيك؟
هل كنت أطمع لأبي في ميتة أفضل من هذه؟
وتصبحين أنت في وسط الدائرة.
لا. كان على” فؤاد” أن يموت، كي أصبح في المركز تماما.
غسّلتيه بيديك؟!
امتنانا لما فعل بموته لا ما فعل بحياته.
والنسوة في انتظار خروجه، كان حزني حقيقيا، لكننا عندما عدنا من المقابر كان الهواء مختلفا، نقصت من أجزائه عبارة: “إنت عبيطة”.
الشاهد على سذاجتك مضى، أديت دورك بإتقان كل المخلصات، وبمرور الوقت ستتغير هذه الجدران، الجدران التي سمعت الكلمة، المفروشات التي سقطت عليها، وتصبح السرايا سرايتك، والبيت بيتك، لم يحزنك الموت قدر ما أدهشتك قراراتك العميقة التي لم تصلي أنت إلى قرارها. أي منكما لم يعرف الآخر؟ رغم أنك لا تعرفين لعبة الشطرنج. مسكين فؤاد.

حبيبة! بأي لون يمكن أن تلوني حياتي؟!
الألوان التي تعطيني إياها ألوان قديمة، واثقة، نقية، فيها سكون ورضا، ورغبة في الكمال. أريد ألوانا حقيقية، أريد ألوانك. سأنتظرك.

No comments: