Sunday, April 29, 2007

لماذا لا يقرأون أدبنا؟!... بهاء طاهر


عن الأدب ولندن والأستاذ أسامة!
لماذا لا يقرأون أدبنا؟!
كتب بـهــاء طــاهر ــ العربي الناصري 28/4:

كان لابد أن أقول كل شيء فى عشر دقائق لا أكثر! وعندما عرضت مشكلتى على صديقى العزيز الشاعر الدكتور نصار عبدالله قال أنا أفهمك تماما وحكى لى واقعة من مخزون معارفه اللانهائى: أن رئيس وزراء بريطانيا الأشهر تشيرشل أرسل برقية مطولة إلى أحد قادته العسكريين فى أثناء الحرب العالمية الثانية، وأنهاها باعتذار قال فيه لم يكن عندى وقت لكى أكتب بإيجاز!. أما أنا فكان على أن أصبح أمهر من تشيرشل نفسه وأنا أقصد بلده. فقد دعانى المجلس الثقافى البريطانى لكى أتحدث فى ندوة فى معرض لندن للكتاب فى الأسبوع الماضى عن أهمية الترجمة فى مد الجسور بين الثقافات المختلفة، وعن دور الأدب العربى المترجم فى هذا المجال، وعن تجربتى الخاصة مع الترجمة. وكنت أشارك فى هذه الندوة مع الروائية المصرية أهداف سويف التى تكتب بالإنجليزية مباشرة وتحظى بالشهرة هنا وهناك والمستعربة البريطانية وأستاذة الأدب العربى بجامعة سانت أندروز كاثرين كابام ويدير الندوة الدكتور صبرى حافظ الناقد المعروف وأستاذ الأدب العربى بجامعة لندن، على ألا يتجاوز كل منا تلك الدقائق المحددة بصرامة حديدية لنترك مجالا للنقاش والتعقيب من جمهور الندوة، وهم من الناشرين الإنجليز والدوليين. كان الموضوع يستحق العناء من وجهة نظرى. فقد ظل يدهشنى فى سنوات إقامتى فى أوروبا ما كنت ألاحظه حين أدخل المكتبات وأراجع الأرفف التى تعرض الأدب العربى المترجم. اعتدت فى كل مرة وفى كل بلد أن أجد فى تلك الأرفف أعمالا لكتاب وكاتبات لا يكاد يعرفهم أحد فى مصر، وعندما أبحث عن كتب لطه حسين أو توفيق الحكيم أو يوسف إدريس أو يحيى حقى أو غيرهم من أعلام أدبنا فإنى لا أجد شيئا. حتى نجيب محفوظ نادرا ما كنت أجد له كتابا مترجما فى المكتبات قبل حصوله على جائزة نوبل. وكنت دائما ما أتساءل عن السر فى هذه الاختيارات المنحازة للكتب المترجمة من أدبنا المصرى على قلة ما يترجمونه منه. حاولت تلمس الإجابة عن هذا السؤال وغيره من الأسئلة المطروحة بذلك الايجاز الصعب. وبما أن الصحافة ليست أكثر تسامحا من الإنجليز الذين نظموا الندوة فى مسألة اتاحة الحيز للكتاب فسأعرض هنا ما قلته هناك آملا أن تتاح الفرصة لشرح أوفى. وقد بدأت بما تعنيه الترجمة بالنسبة لى. فعندما بدأت فى مطلع الشباب قراءة الأدب الروسى الكلاسيكى العظيم كان يحيرنى ما هو الساموفار؟ وكان ذكره يتردد كثيرا فى القصص عندما يصرخ أحدهم فاريا. الساموفار! ولم يهتم المترجمون أن يفسروا لنا أنه نوع روسى من غلايات الشاى تاركين لنا أن نفهم هذا من سياق القصة. والغريب أن هذا الساموفار الغامض وكلمات روسية أخرى مثل الكفاس أو تغيير اسم الشخصية فجأة من مجرد تانيا إلى الاسم الطويل والغريب الوقع ناتيانا الكسيفنا جريجور يفيتش، كل ذلك كان يضيف إلى سحر قراءة هذا الأدب ولا ينقص منه، كان يساعدنى على أن أتأقلم دون وعى مع عالم مختلف تماما وغريب عما ألفته، وعلى محاولة فهم هذا العالم وأن أتقبل فى النهاية فكرة الاختلاف الثقافى. والحقيقة أن كل قارئ لأدب أجنبى عن ثقافته الخاصة يمر بهذه العملية من التأقلم، وهى عملية مثمرة للغاية، إذ يمكن أن تساعدنا على أن نفهم بعضنا البعض وأن نتعاطف مع إخواننا وأخواتنا فى البشرية فى كل مكان. وبالنسبة لى مثلا فإن أشخاصا مثل هاملت أو الإخوة كارامازوف أو مدام بوفارى قد أصبحوا أصدقاء أقرب إلى الحياة من كثير من البشر الذين أصادفهم، والفضل فى ذلك يرجع للمؤلفين العظام ولمن ترجموهم إلى لغتنا. فإذا ما انتقلت من ذلك إلى الأدب العربى والمصرى بالتحديد فيمكن أن أقول إن عملية التأقلم والقبول هذه فى الغرب مازالت تحبو فى بداياتها الأولى لأنه لكى يصبح أى أدب فى العالم جسرا حقيقا بين الثقافات فيجب أولا ترجمة الأعمال التى لها قيمة أدبية حقيقية فى نطاق هذا الأدب وأن تكون معبرة عن التيار الرئيسى فى ثقافة البلد، وهو ما يعنى بالضرورة أنها تعكس صورة حقيقية لهذا البلد ولأهاليه. واختيار الأعمال الممثلة للثقافة الحقيقية بهذا المعنى مسئولية يشترك فيها المترجم والناشر. ولكن لسوء الحظ فإن هذه المعايير تتم التضحية بها فى كثير جدا من الأحيان عند ترجمة أدبنا لصالح أعمال تعزز الفكرة النمطية والساذجة القائلة إن الشرق هو الشرق، والغرب هو الغرب، وإنهما لا يلتقيان أبدا. وقد ظلت معظم الأعمال المترجمة عن الأدب المصرى قبل حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل، وحتى بعد حصوله عليها، هى تلك الروايات التى تركز على محنة المرأة المصرية، ومساوئ الحكم الاستبدادى، وما يوصف بالفساد الشرقى! وكل هذه بطبيعة الحال مشاكل لا يمكن لأى كاتب جدير باسمه أن يتجاهلها، لكن الأدب الحقيقى يتناول هذه المشاكل وغيرها فى سياق أعم وبرؤية أعمق لهموم المجتمع لا تحصره فى هذه الزوايا الآحادية الجانب، ويكفى أن نقرأ كيف يتم الترويج لتلك الأعمال شبه الدعائية المترجمة لفهم ما أعنيه. فهم يعلنون عنها بعبارات من قبيل دراما جريئة!.. شابة مصرية تناضل من أجل حريتها ضد أب طاغية فى مجتمع يسيطر عليه الرجال! أو تراجيديا سياسية مذهلة فى قاهرة الستينيات التى يسيطر عليها الإرهاب! وما إلى ذلك من شعارات محفوظة وممجوجة. ومن الواضح أن تلك الإعلانات موجهة إلى جمهور ما يسمى كتب أفضل المبيعات الشعبية الخفيفة ولكى تجتذب أيضا من تستهويهم تأكيد فكرتهم عن الشرق الغرائبى المتخلف. لكن مثل هذه الإعلانات والأعمال التى تروج لها يستحيل أن تساهم بأى قدر فى مد جسر حقيقى بين الثقافات. وقد طلب إلى أيضا أن أتكلم عن تجربتى الخاصة مع الترجمة. وهى تجربة محدودة فى الترجمة إلى الإنجليزية. إذ ترجمت اثنتين من رواياتى هما خالتى صفية والدير فى الولايات المتحدة عام 1996 وهى من الروايات العربية النادرة التى عرضها بحماس الملحق الأدبى الشهير لصحيفة نيويورك تايمز مشبها إياها بالمآسى الإغريقية! أما الرواية الثانية الحب فى المنفى فقد أصدرتها دار نشر الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام 2001 وهى تتناول موضوعا اكتشف من مناقشاتى وتجربتى مع عدد من الناشرين الأجانب أنه يعتبر من المحرمات فى الترجمة والنشر وأعنى قضية فلسطين ومجزرة صابرا وشاتيلا. وقد حظيت كلتا الروايتين باستقبال طيب من الجمهور المصرى عند نشرهما بالعربية، ومازالتا تصدران فى طبعات متعاقبة بالعربية، لكن ذلك لا يحدث بالنسبة للترجمتين! ولا أستطيع أن أقول بأمانة إنهما قد ساعدتا على بناء ذلك الجسر المنشود بين الثقافتين. ويصدق هذا الحكم أيضا على أعمال أكثر الكتاب موهبة فى مصر من جيلى والجيل الذى تلاه. ولابد من وجود تفسير لذلك. أذكر أنى اشتركت فى ندوة مع عدد من الناشرين الألمان الذين زاروا القاهرة، أثيرت خلالها مسألة الأدب العربى المترجم، وحكى ناشر ألمانى عن تجربة خاصة. قال إنه أصدر ترجمة لرائعة نجيب محفوظ زقاق المدق فوزعت على مدى سنوات سبعمائة نسخة، ثم حدث بعد ذلك أن حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل فوزع فى أسبوع واحد عشرة آلاف نسخة من الترجمة نفسها، وبدا لى أن هذه القصة تدل على أن توزيع الأدب العربى الجاد وقراءته فى الغرب بحاجة إلى حدث فى ضخامة الهرم الأكبر مثل الفوز بجائزة نوبل!.. أما البديل لذلك فهو الاستجابة لتوقعات قطاع معين من الجمهور يريد أن يقرأ عن الشرق الغرائبى ليؤكد تصوراته المسبقة عن اضطهاد الحريم ووحشية الرجال.. إلخ. على أن الوقت لم يتح لى مع الأسف هناك، ولن يتاح هنا، لأتحدث عن دلالة هذه الأمور كلها. وكان أكثر ما أسعدنى فى المناقشات التى أعقبت الندوة تعليق ناشر إنجليزى هو بيل سوينسون الذى وافق على معظم ما ذهبت إليه وركز على المسئولية الأدبية للناشر فى تغيير هذا الوضع لبناء جسور حقيقية وتفاهم أصدق بين الشرق والغرب. على أن زهرة واحدة لا تصنع الربيع، وطالما استمر الوضع الراهن الذى تقتصر فيه ترجمة الأدب العربى الحقيقى على دور نشر صغيرة ومحدودة الجمهور، وتصدر فيها هذه الأعمال فلا تلقى شيئا من الاهتمام الإعلامى أو النقدى هناك للتعريف بها أو ترويجها لدى جمهور القراء الواسع، طالما استمر ذلك فسيظل مصير الأدب العربى الحقيقى مثل مصير زقاق المدق قبل نوبل محفوظ رغم كل قيمتها الأدبية فى ذاتها والتى لم تضف إليها الجائزة شيئا!. لا تقلدوا لندن! أتاحت لى هذه الندوة رغم كل شيء فرصة أن أرى لندن بعد غياب سنوات طويلة. وأدهشنى أنها مازالت جميلة وأنها تزداد جمالا! لم تمتد معاول الهدم إلى مبانيها القديمة التى تميز طابع المدينة وبصمتها. مازالت مساحات الخضرة الشاسعة فى حدائقها الجميلة باقية لم تمس، بل يضاف إليها ولا يقتطع منها. وأقترح أن نبعث للإنجليز ببعض خبرائنا لتعليمهم الطريقة المثلى لتنمية الثروة العقارية بإزالة المبانى القديمة واجتثاث الخضرة، فأنا أرى حولى الآن فى الحى الذى أسكنه عملية هدم تجرى على قدم وساق لإزالة الفيلات الصغيرة والحدائق التى كانت تحيط بها بعد أن صدر قانون عصرى يبيح ذلك الهدم. وما أكثر الأشياء التى قارنت فيها بين ما يحدث هنا وهناك. فقد لفت نظرى أن المرور فى وسط المدينة أكثر انسيابا وأقل تكدسا مما رأيته فى زيارتى السابقة. وشرح لى أولو العلم أن أزمة التكدس انتهت منذ أن صدر قانون يفرض على أصحاب السيارات الخاصة دفع رسم خاص لدخول وسط البلد فى أوقات العمل الرسمية قدره ثمانية جنيهات إسترلينية حوالى مائة جنيه مصرى فإذا تأخر الدفع يوما واحدا تتضاعف الغرامة إلى ما يتجاوز الألف جنيه، وخُصصت حصيلة هذه الرسوم لتحسين المواصلات العامة فى وسط البلد، فتضاعف عدد الأتوبيسات بحيث لم يعد أحد يشعر بالحاجة إلى استعمال سيارته الخاصة فى أوقات العمل إلا للضرورة القصوى. وتخيلت ما يمكن أن يحدث عندنا لو أخذنا بمثل هذا النظام. تخيلت الاستثناءات التى ستحدث للمواكب، ولسيارات الكبار وملحقيهم من الصغار، وتخيلت ما سيحدث لحصيلة الرسوم، فدعوت الله فى سرى ألا يصل خبر هذا التنظيم إلى أسماع المسئولين عندنا!. وكان من حظى أيضا فى هذه الزيارة القصيرة للندن أن شاهدت المسرحية الأولى التى كتبها تنيسى وليامز لعبة الحيوانات الزجاجية والتى قدمناها فى البرنامج الثانى بالإذاعة فى سالف الزمان. لعبت دور البطولة فى هذا العرض اللندنى الرائع الممثلة الأمريكية الشهيرة جيسيكا لانج، فمازالت لندن عاصمة عالمية للمسرح يقصدها عشاق هذا الفن الجميل من الجمهور والفنانين. ومن عجيب أمر الإنجليز أنهم قدموا مسرحية تنيس وليامز كما كتبها الرجل تماما، دون إعداد درامى أو رؤية دراماتورجية عصرية، لذا لزم أن ألفت نظر المسئولين عن هيئة المسرح وفنانينا المسرحيين إلى هذا الخطأ الذى يقع فيه الإنجليز باحترامهم النصوص، كما كتبها أصحابها عسى أن يوفدون من عندنا دراماتورجا لتدراكه!. لا.. يا أستاذ أسامة! لو صح ما نشرته الصحف منسوبا إلى صديقى وكاتبى المفضل الأستاذ أسامة أنور عكاشة لكان لى أن أحاوره مطولا. فقد نشرت صحيفة المصرى اليوم يوم الأربعاء الماضى على لسانه أنه قال فى ندوة بنقابة الصحفيين انسوا القومية العربية.. خلاص بح كذا!! مؤكدا أن العرب طول تاريخهم لم يتحدوا والاتحاد كان بين المسلمين فقط. وأضاف: جميع الدول العربية تكره مصر لذا علينا الحفاظ عليها والابتعاد بها عن العرب الذين أصبحوا أشد خطرا عليها من الغرب! انتهى النص ولم تنته حيرتى!. ولن أقدم الآن دفاعا عن القومية العربية على غرار ما فعله ساطع الحصرى أو جمال عبدالناصر مثلا.. تغير الزمان! لكنى أريد أن أسأل صديقى: لماذا يكون الالتزام بالقومية حلالا لكل أقوام فى الأرض وحراما على العرب وحدهم؟ هو يعرف أن نهضة أوروبا مثلا نشأت بظهور الدول القومية وأن الألمان والإيطاليين وغيرهم خاضوا حروبا لتحقيق وحدتهم القومية. لماذا؟ لأن الدول القومية أقدر على تحقيق مصالح شعوبها والدفاع عن نفسها، أمام القوميات الأخرى. ومن هنا فقد رأينا فى قرننا الحالى ألمانيا تناضل دون كلل حتى توحد شرقها مع غربها، تواصل الصين معركتها لاسترداد تايوان. وقبل ذلك كله ألم يكن كفاح تشى جيفارا منذ بدئه وحتى مماته دفاعا عن القومية اللاتينية فى أمريكا؟ هكذا قرأت على الأقل. وهل حقا يكرهنا العرب أكثر من الغرب؟ ألا تكرهنا إسرائيل أكثر مجتمعين دون تفريق؟ ألا تتعامل معنا كقومية؟. إننى أعرف عن يقين مدى وطنية الأستاذ أسامة وغيرته الصادقة على مصر، ولكنى أظن أيضا أننا ما لم نتصرف أمام هذا الخطر الداهم متحدين أو متضامنين أو متعاونين أو أيا ما شئت، فسنتحول لا قدر له إلى أوطان سليبة.. واحدا بعد الآخر، وما حرب لبنان والاحتلال المستمر للجولان عنا ببعيد.. ليتنا نتناقش!.

Tuesday, April 24, 2007

يوسف إدريـس .. آخـــر !

يوسف إدريس آخر؟ ــ كتب :مصطفي الحسيني :أخبار الأدب
السؤال هو لماذا لم يجد حسام فخر (وكثيرون غيره دون شك) ما حظي به يوسف إدريس والنابهون من أبناء جيله من حفاوة؟ هل يمكن القول أن هذا هو الفرق بين المناخ الثقافي عندنا في ذلك الزمان وفي هذا الزمان؟ذات مساء، في النصف الأول من خمسينات القرن الماضي، شهد هذا الكاتب بعينيه وسمع بأذنيه طه حسين يقول ليوسف إدريس، بلهجة المعلم ونبرة السيد اللتين كان يلجأ إليهما أحيانا إظهارا للتقدير والود: لن يكتب مقدٌمة كتابك الأول سواي. وقد كان. صدرت المجموعة الأولي من قصص يوسف إدريس أرخص ليالي تتصدرها مقدمة كتبها السيد العميد.وانتبه: في ذلك الوقت كانت الحركة الأدبية في مصر يستغرقها جدل لم يبرأ من الحدة بل مارسه بعض أطرافه بغير قليل من لدد العداوة. كان الجدل يدور بين جيلين: الجيل الذي كان طه حسين أنصع أعلامه والجيل الذي كان يوسف إدريس من أكثر ومضاته جاذبية. وكان استخدام العامية في الأدب خصلة من ذلك الجدل. وفيها كان علي طرفي نقيض، شيخ الشباب المهيب والكاتب الذي كان ظهوره في أفاق الحركة الأدبية منعشا لها دون خلاف.
***لكن يبدو أن حسام فخر ظهر في زمن لا يكرٌمه قرين لطه حسين. وبالتالي لم يحظ باستقبال مفعم بحفاوة يستحقها.من هو حسام فخر؟ لا يستطيع هذا الكاتب إلا أن يقول أنه لا يعرف، أو بالأحري أنه يعرف القليل الذي فاجأه واستمتع به وأنعش أمله في مستقبل الأدب في مصر، بعد أن قرأ الكتب الثلاثة الصغيرة الحجم التي صدرت له حتي الآن: وجوه نيويورك (2004) ، يا عزيز عيني ( 2006 ) ، حكايات أمينة (2007 ). كما عرف بعد تحري مقتضب أن رغم أنه في عين القارئ وإدراكه كاتب مستجد وبالتالي لا بد أن يكون شابا مثلما كان يوسف إدريس عندما نشر له نادي القصة مجموعة أرخص ليالي، أي حول منتصف العشرينات، لكنه صدم عندما قيل له أنه علي مشارف الخمسين، وأنه يعيش ويعمل منذ شرخ شبابه في الولايات المتحدة في نيويورك التي يهدي إليها مجموعته الأولي وجوه نيويورك ويراها مدينته الحبيبة التي فقدها !
***هل من صلة بينه وبين يوسف إدريس استدعت هذا التداعي؟اجتهاد هذا الكاتب هو: نعم! كان ما جعل يوسف إدريس مفاجأة باقية هو أنه أمتع قارئه ليس بالحكاية، إنما بكيف يحكيها. هذه هي أرخص ليالي وهذه هي بالذمة والأمانة و لغة الآي آي و أليس كذلك؟ وغيرها وغيرها بما يكاد يشمل مجمل عمله. بلمحة واحدة يغوص إلي أعماق النفس وينسج معها معالم وجدان وحياة.هذا ما يفعله حسام فخر في زمن آخر وفي بيئة أخري ومن بيئة أخري، بيئة المغترب الذي بكٌّر إلي الاغتراب وطال به دون أن يفقد شيئا من ما غرست تربيته وبيئته الأصلية في وجدانه. وأيضا مثل يوسف إدريس تراه يطعن بحربة نفاذة لكنها ناعمة لا تجرح ولا تؤلم، بل تلقي أضواء كاشفة لا تبهر النظر، حتي يستطيع القارئ أن يري.
***لماذا تأخر هذا الكاتب حتي نشر وهو يقترب من منتصف أربعيناته؟سؤال مفتوح للتخمين والرجم : اغترابه؟ تأخر إدراكه لموهبته؟ كسله؟ ضيق فرص النشر وما في شروطه من حيف علي حقوق الكجتٌاب؟ ارتباكات ( لفظ مخفف) المناخ الثقافي؟ هذا وغيره وارد.لكن السؤال الأهم هو لماذا لم يجد هذا الكاتب ( وكثيرون غيره دون شك) ما حظي به يوسف إدريس والنابهون من أبناء جيله من حفاوة؟هل يمكن القول أن هذا هو الفرق بين المناخ الثقافي عندنا في ذلك الزمان وفي هذا الزمان؟ألا يصلح هذا السؤال الأخير لقدح جدل منعش ومفيد بين عصرين؟ولعل هذا هو سبب الكتابة عن حسام فخر.

Monday, April 23, 2007

عصر الجماهير الغفيرة ..جلال أمين

اضغط على الصورة لتحمـيل الكتـاب :)
كتب د.أيمن محمد الجندي : المصريون بتاريخ 18 - 4 - 2007

أتمنى أن يقرأ الدكتور جلال أمين هذا المقال ليعرف كم أستمتعت بكتابه ( عصر الجماهير الغفيرة ) حتى أنني كنت أدخره للمساء مشفقا أن انتهي منه بسرعة ..كم هو إنسان جميل وراق !!..هذا التعاطف مع الطبقات الفقيرة والمهمشة ..هذا الحب الواضح لمخلوقات الله ..هذا الأمتزاج بالكون ..إعراضه عن كل تافه وإهتمامه بكل ما هو أصيل .وإذا تذكرنا المنشأ الطيب سهل علينا فهم روحه المتسامحة..فجده العالم الورع .. المتهجد المبتهل ..الزاهد المستغفر ..المعرض عن الدنيا وزخرفها ..الدين حياته وخلاص روحه غايته ..أما أبوه فهو الكاتب الإسلامي أحمد أمين ..المفكر الجاد في سبيل إصلاح أمته الضعيفة ، يفسر ضعفها بفساد نظام الحكم ونفاق رجال الدين الذين شايعوا الحكومات الظالمة ..وحتى حينما يلتقط صورة تذكارية بمناسبة زواجه فكل ما يفكر فيه أن يكتب خلف الصورة " أرجو من الله أن يعينني على القيام بعمل عظيم أخدم به أمتي" .ميول جلال أمين اليسارية كانت إنحيازا واضحا للفقراء لا خصاما مع الدين والله.. أنا لا أجد أي مشكلة في التعامل بمرونة مع الفكر اليساري والإقتباس منه بإعتباره منجزا بشريا لا يخلو من الحكمة..حينما يقول ماركس " الدين أفيون الشعوب " لا أتردد في رفض مقولته ..لكني أنصت له حينما يعتبرالدولة أداة للطبقة العليا في قهر سائر الطبقات ..والذين يتصورون أنها تستطيع القيام بالحكم بين الطبقات أو تنحاز للطبقات الدنيا واهمون ويطلبون المستحيل .المشكلة تأتي حينما تتحول الماركسية من إنجاز بشري لمعتقد ، حتى أن صديقي قال ذات مرة في مزاح أقرب للجد " مشكلة الماركسية اعتقادهم أن من لا يؤمن بالماركسية سيدخل النار !!"..................عصر الجماهير الغفيرة ..أو الآثار المترتبة على زيادة حجم السكان من بليون ونصف في بداية القرن العشرين إلى ستة بلايين في نهايته .. زيادة - ليست في الحجم المطلق فحسب بل في النسبة الفعالة منهم - ترتب عليها تغيرات عميقة في كل نواحي الحياة ..الكتاب شيق فعلا ..يذكرني الأستاذ جلال أمين بشخصية " مس ماربل " اللطيفة التي أبدعتها الكاتبة البوليسية البريطانية " أجاثا كريستي " وهي تعتقد أن كل ما يحدث في العالم سبق له الحدوث في قريتها الصغيرة الهادئة ..من ثم فهي تستطيع أن تفسر لغز أي جريمة تحدث في العالم .. أستاذنا الجميل فعل نفس الشيء ..مارس علم الإجتماع من خلال ذكرياته الشخصية ..هذا أضفى بعدا حميما وجاذبية لا توصف على كتاباته .............يقول الأستاذ أنه حينما ركب الطائرة منذ خمسين عاما كان واحدا من الأرستقراطية التي يجب على مضيفة الطائرة تدليلها ..ذلك أن ركاب الطائرات في هذا الوقت كانوا قلة ضئيلة جدا ..اليوم حينما يجد نفسه واقفا في طابور طويل أغلبه من العمال والحرفيين في طريقهم إلى الخليج يجد أن معاملة المضيفة تغيرت فصارت تلقي بصواني الطعام بدون حتى ابتسامة بعد أن تحول ركاب الطائرات من أرستقراطية العالم إلى جماهير غفيرة ..يقول أيضا انه رأي تمثال الرحمة الشهير لمايكل أنجلو في روما منذ خمسين عاما على مسافة خطوة أو خطوتين ..واليوم حينما حاول زيارته وجد التمثال محاطا بسياج منيع ..ووجد نفسه أيضا واحدا وسط مئات.. نفس الكلام يمكن أن نقوله نحن عن الكعبة المشرفة وسهولة تقبيل الحجر الأسود في الماضي بالمقارنة للجماهير الغفيرة الآن . هذه ظاهرة مؤسفة ومفرحة في الوقت نفسه ..فبقدر ما ضربت الصفوة تحررت الجماهير الغفيرة ..ربما لم نعد الآن أسعد مما كنا في الماضي ولكن المؤكد أن ما كان مقصورا على القلة أصبح في متناول الكثيرين ..والسبب لا يرجع فقط لتطور الصناعة في المجتمع الغربي أو نهوض الدولة لمسئولياتها في المجتمع الأشتراكي بقدر ما يرجع إلى أن التكنولوجيا تطورت بحيث أصبح الإنتاج بالجملة ضرورة ..وصار تصريف تلك البضائع يحتاج إلى توسيع نطاق السوق وفتح ميادين جديدة لتسويق هذه السلع المنتجة ..وما كان ليس في مصلحة السادة منذ عقود قليلة صار اليوم ضرورة حياة أو موت .. لا بد من تشجيع تلك الجماهير الغفيرة على الاستهلاك لتظل عجلة الإنتاج دائرة ..يحدث هذا عن طريق إقناعهم بحاجتهم إليها عن طريق مخاطبة غرائزهم البدائية وخلق احتياجات جديدة لهم .. اتساع السوق سمح بإنتاج هائل للسلع ولكنه في الوقت نفسه طبع الحضارة الأمريكية بالتماثل الرهيب في السلوك والتفكير وانتشار الموضات وخضوع المستهلك لحملات الدعاية والإعلان.وبدلا من الارتقاء بثقافة الرجل العادي لم تكف عن تملقه ببرامج الترفيه والفوز الرخيص في المسابقات التلفزيونية التافهة وقطع البرامج للإعلان عن السلع المراد تسويقها ..وإذا اضطر التلفزيون لتقديم برنامج جاد يستهدف النفع العام لا الربح أضطر لتقديمه بعد منتصف الليل .وأتساع السوق لم يؤد فقط لشيوع الثقافة الهابطة وإنما أصاب الثقافة الرفيعة في مقتل ..على سبيل المثال كانت مجلة الرسالة تطبع نحو ألفي نسخة في أربعينات القرن الماضي وبرغم ضآلة الكمية لم تصادف مشاكل إقتصادية ..ارتفع حجم السوق وزاد عدد القراء لكن الحجم النسبي للثقافة الجادة ظل ضئيلا وحينما ارتفع عبء النفقات على الجميع صار الاستمرار مستحيلا ..استطاعت المجلات السطحية الصمود فيما اغلقت مجلة الرسالة .انتشرت المسرحيات الهزلية التي لا تتطلب من المشاهد قدرات أكبر من الضحك على سقوط الممثل على وجهه أو ضرب ممثل لآخر على قفاه ..وانتشرت أفلام الإثارة التي تعتمد على تعرية الممثلة لجسمها أو الإشارات الجنسية المتكررة ..وظهرت صحافة الإثارة التي تحمل طابع التبسيط الشديد وهو التبسيط الملائم للجماهير الغفيرة بعد أن كانت تخاطب الصفوة من قبل ..ذلك أن الإنتاج الواسع هو عدو الثقافة الرفيعة لأنه يعتمد على الإستجابة لما يشترك فيه الناس جميعا : الغرائز .وحتى التلفزيون الذي كان مقصورا على طبقة صغيرة جدا وكانت برامجه أقل إثارة وأكثر إعتمادا على الإقناع ..فإنه حينما استطاعوا خفض نفقة انتاجه إلى مستوى جعله في متناول الجماهير الغفيرة ترتب على ذلك تغير طبيعة برامجه بحيث تصبح مناسبة لأذواق المشاهدين الجدد ..زحفت الإعلانات حتى صارت موضوعات البرامج تتحدد طبقا لما يريد أصحاب السلع عرضه من إعلانات ..شيء شبيه بإنتاج السلاح ..فبدلا من أن تنشب الحرب أولا ثم يجني منتجو السلاح أرباحهم أصبحوا يختلقون الحرب من أجل تصريف السلاح .أما بعد دخول عصر الأقمار الصناعية وتعدد جنسيات المشاهدين صار تسويق السلعة يعتمد على الغرائز التي يستجيب لها الإنسان بوصفه حيوانا !! ....................عصر الجماهير الغفيرة ..زمان كان الرجل يذهب للبقال فيشتري احتياجاته فقط وربما تذوق الجبن قبل شرائه ..واليوم جاء عصر السوبر ماركت الذي يضع سلة معدنية خبيثة تعتمد على ذلك النزوع الفطري لدى الإنسان لملء ما كان فارغا ..وكلما كان حجمها كبيرا دفعه ذلك لا شعوريا لشراء المزيد من السلع ..عدد لا نهائي من أصناف السلعة الواحدة يصيبه بالارتباك فيصبح فريسة سهلة لإغراء يقنعه أنه لو اشترى هذا الصنف كسب عدة جنيهات وبذلك يتحول الإنفاق - بالإيهام – إلى أدخار !!.يحكي أيضا عن الهاتف الذي كان نادرا ما يدق في بيت والده ..كانت المكالمات مقتضبة لتحقيق غرض محدد يتم بعدها إنهاء المكالمة فورا ..ولم يكن متصورا وقتها أن يستخدمه الصغار.. تغير الحال تدريجيا فأصبح يدق لمجرد التهنئة بالعيد أو السؤال عن الصحة أو لسؤال البنت المتزوجة عن الطريقة الصحيحة لصنع المحشي ..بعدها شاع استخدامه منذ منتصف الثمانينيات وجرت تغيرات جوهرية في صناعته ..فبدلا من ذلك الشيء الثقيل الثابت في مكانه كصخرة أصبح خفيف الوزن طويل السلك وربما لاسلكيا أيضا.. ترتب طبعا على شيوع استخدامه تغير مضمون المكالمات التلفونية نفسها بما يؤيد تلك المقولة " الأداة هي نفسها الرسالة ".ثم جاء عصر المحمول فامتد إلى شرائح اجتماعية أدنى في السلم الإجتماعي وصار يستخدم لا لهدف سوى أن يكون رمزا للصعود الاجتماعي ..والمشهد المؤذي لرجل يتكلم في الطريق العام بصوت مسموع ضاحكا وموبخا صار مألوفا لا يثير استغراب أحد ...................زمان كان التعرف على طبقتك الاجتماعية من ملابسك ميسورا بمجرد نظرة واحدة ..فرجال الطبقة الدنيا يرتدون الجلباب والنساء ترتدي " المنديل أبو أوية " .رجال الطبقة الوسطى يرتدون الزي الديني الإفرنجي مع الطربوش الأحمر. ملابس النساء سوداء وحتى البنات اللاتي لم يتزوجن بعد فملابسهن محدودة الألوان بعيدة كل البعد عن الألوان الزاهية .أما ملابس الطبقة العليا فكانت تتسم بعري لم يكن يخطر على بال الطبقتين الآخريين أن تفعله ..واليوم - في عصر الجماهير الغفيرة – ومع اختفاء الخياطة وانتشار صناعة الملابس الجاهزة ، وبرغم تزايد الفوارق بين الدخول أكثر مما كانت منذ خمسين عاما ، فإن هذه الفوارق الشاسعة لم تعد تظهر في نوع ما يرتديه الناس من ملابس ..ذلك أن الملابس مهما زاد ثمنها صارت عاجزة عن تمييز طبقة اجتماعية عن أخرى وصار ضروريا الاعتماد على أشياء أخرى أغلي بكثير للقيام بهذه الوظيفة ...............يتناول الكاتب ظاهرة اعياد الميلاد التي لم يحتفل بها ابوه قط وحتى أمه لم تكن تعرف ميلادها على وجه التحديد لأن واقعة الميلاد لم تكن بالأهمية التي لها اليوم فالمواليد كثيرون وكذلك المتوفون وحتى دخول المدرسة لم يكن يتطلب شهادة ميلاد كما هو الحادث اليوم ..وكان ممكنا الانتظار حتى يحتاج الرجل للتوظف فيلجأ إلى التسنين ( الذي هو نوع من التخمين ) .ملحوظة من جانبي : هذا الشيء الذي يحدث في النصف الأول من القرن العشرين ربما يفسر لنا التواريخ المتعددة والمتضاربة لعمر السيدة عائشة وقت زواج الرسول بها ما بين التاسعة والخامسة عشر .لم تكن أسرة جلال أمين فقيرة ولكن والداه كانا يحملان قيم مجتمع لا وقت لديه لسخافات أعياد الميلاد ..يقارن ذلك بما يحدث الآن حينما يحل يوم ميلاد الطفل فتنهال التهنئات منذ الصباح وتنفق النقود بغير حساب وتتدفق الهدايا التي لا حاجة له بأكثرها..كل هذا يعكس التطور الذي لحق بنظرتنا للأطفال الذين كانوا ينجبون بكثرة لضمان بقاء أكبر عدد منهم ( الذي هو بأمر الله طبعا ) وكان هناك إيمانا راسخا بالمشيئة الإلهية فالولد يولد ومعه قدره ـ صار الأطفال اليوم يحققون لوالديهم نفس الوظيفة التي تحققها المقتنيات فذهابه لمدرسة باهظة التكاليف دليل على القدرة المالية . تحول من الإفراط في الاستسلام للقدر وفقدان الثقة في التحكم في المستقبل إلى الإفراط في الثقة بهذه القدرة وتحدي ما لا يمكن فعلا تغييره .......................كانت السياحة في الماضي مقصورة على نسبة ضئيلة من الناس .. ابن بطوطة قام بالسياحة في القرن الرابع عشر من أقصى الطرف الغربي لأفريقيا إلى أقصى شرقي آسيا فاستغرق ذلك منه ثمانية وعشرين عاما .. كان السائح يتحمل المشقة ويتزوج خلال رحلته عدة مرات لأن وسائل النقل البطيئة فرضت عليه أن يقيم شهورا في كل بلد يصل إليه قبل الانتقال .. في هذه الظروف لم يكن ليقدم على السياحة إلا رجل مدفوع بحب شديد للاستطلاع..أما اليوم – في عصرالجماهير الغفيرة- ظهرت السياحة الجماهيرية بكل ما تعنيه من شراء التذكارات والتقاط الصور وتلويث البيئة معنويا بسبب هذا الاقتحام البالغ الجرأة لثقافات وعادات أهل البلد المجبرين على الصبر في سبيل لقمة العيش ..رغم أن لقمة العيش تلك كثيرا ما تكون مشكوكا فيها بعد انتشار الشركات المتعددة الجنسيات التي تحصل على الثمن مقدما وتملك الفندق الذي ينزل فيه السائح وترتب الزيارة فلا تكسب الدولة المضيفة أكثر من ثمن التاكسي الذي حمل السائح من المطار وإليه .......واختم هذا المقال بتلك الصورة الإنسانية المؤثرة لحادث احتراق قطار الصعيد عام 2002 ..ركاب الدرجة الثالثة الذين اعتادت وسائل الإعلام المصرية أن تتجاهلهم تجاهلا تاما باستثناء هذه المرة حيث بلغ حجم الكارثة ما جعل التجاهل مستحيلا ..القطار رقم 832 الذي يغادر القاهرة في الساعة 11 ونصف ليصل أسوان بعد رحلة طولها 16 ساعة ..كان ذلك في اليوم السابق لعطلة عيد الأضحى مباشرة ..كل عربة من عربات الدرحة الثالثة تحمل مقاعد تكفي لجلوس 96 شخصا لكن الواقع أنها تحمل أضعاف مضاعفة وحتى الممرات كانت مشغولة بالركاب الجالسين قرفصاء ..ونام آخرون على الرفوف المعدة لوضع الحقائب ..هناك أيضا البلطجية الذين يجبرون ركابها من الطبقات المدقعة على شراء مشروبات لا يريدونها و طعام لا يحتاجونه في ظل تواطئ المسئولين عن القطار ..كتل بشرية مكتظة فوق بعضها البعض التصقت أجسادهم هربا من البلطجية وحماية من البرد ..ولذلك حينما وقعت الواقعة وحدث الماس الكهربائي في العربة الأخيرة من القطار تحول لحريق هائل امتد بسرعة من حقيبة ملابس لحقيبة ملابس ومن راكب إلى راكب بسرعة مذهلة بسبب تكدس هذه الأجساد ..ولأن العباقرة عندنا في هيئة السكة الحديدة سدوا النوافذ بقضبان حديدية – رغم أنهم تسلموها بشبابيك قابلة للفتح والإغلاق – لم يستطع أغلب الركاب القفز من النوافذ ..وحتى هؤلاء الذين كانوا بقرب الباب واستطاعوا كسره للقفز من هذا الهول مات أكثرهم ( بعضهم دهمه قطار مسرع بعد إصابتهم بغيبوبة أثر الارتجاج في المخ ) ..بالطبع لم يكن هناك أي وسائل اتصال بين تلك العربات المنكوبة وبين سائق القطار الذي لم يدرك أن القطار مشتعل إلا بعد مسافة 18 كيلو عندما مر القطار بمنحنى فاستطاع مساعدة رؤية العربات الخلفية ..وكانت النهاية محتومة : تحول ركاب الدرجة الثالثة إلى كتلة بشرية واحدة لا فرق بين فرد وفرد..تحولت الجثث إلى أشلاء دون علامات مميزة ..وكان هناك مصيبة أكبر : هؤلاء المهمشون يعولون أسرا كثيرة العدد معدمة تماما ..ولذلك فالفاجعة لم تكن فقط عاطفية – إن كان ثمة ترف يسمح بهذا !!- بل كارثة مالية ..والتعويضات الهزيلة لا يمكن صرفها إلا تحرير شهادة الوفاة ..وشهادة الوفاة تحتاج للتعرف على الموتى الخاليين كلية من أي علامة مميزة ..والدولة متشككة كعادتها ، ضنينة على الفقراء كدأبها ..ربما قفز من الباب ونجا ..ربما لم يسافر أصلا ..اثبت – إذا استطعت – أنه كان من الهالكين !!.القاهرة – التي استحقت هذا الاسم بامتياز- لم تقدم لهؤلاء المهمشين – بعد الحرق - سوى الدفن الجماعي أما بالنسبة لأهل الميت فقد صارت الوفاة أرحم من محاولة اثباتها ..والشيء الوحيد الجدير بالذكر هنا أن الذي جعلهم يتحملون كل هذا الهول أنهم لم يتلقوا أبدا معاملة أفضل في سنين حياتهم الماضية !!. .........................ه
أستاذنا الفاضل جلال أمين .. ليس عندي في النهاية سوى أن أقول لك : امتعتنا واتعبتنا وشكرا لك في الحالتين