Tuesday, February 6, 2007

سائق التاكسي.. أو زوربا المصري


المفكر الكبير د. جلال أمين يكتب لـ «المصرى اليوم»:
٦/٢/٢٠٠٧




مهنة سائق التاكسي في مصر ليست مهنة شاقة عضليا، ولكنها مهنة شاقة جدا عصبيا ونفسيا، الشوارع مزدحمة، والضجيج شديد والهواء ملوث، والمفاجآت غير السارة لا تنتهي، سواء من السائقين الآخرين أو من المشاة من البشر أو الحيوانات، والطريق مليء بالعقبات المرئية وغير المرئية، مطبات صناعية مفاجئة، أو حفرة عميقة، أو شجرة مقطوعة، أو «لجان» منتشرة لإيقافه وفحص رخصه.. إلخ.
وسائق التاكسي ليس لديه حيلة في معظم الأحيان، في اختيار السيارة التي يقودها، بل يقود السيارة التي يستطيع الحصول عليها من صاحبها، فإذا كانت سيارته هو، فهو علي الأرجح لا يملك من فائض المدخرات ما ينفقه علي إصلاح كل ما يصيبها من عطب، بل فقط إصلاح الضروري والعاجل، وهو أيضاً نادرا ما يكون حراً في اختيار الركاب، فهو مضطر لقبول مختلف أنواع البشر،
ناهيك عن المضايقات المستمرة من رجال الأمن الذين كثيرا ما يجدون التاكسي وسيلة سهلة للركوب المجاني، بل قد يجده بعضهم وسيلة لتحصيل بعض الدخل الإضافي، مستخدمين ما يملكونه من وسائل القهر والتخويف، مجرد غرامة أو سحب الرخصة، أو مجرد تعطيل سائق التاكسي عن متابعة السير لكسب رزقه.
في مقابل هذا يتمتع سائق التاكسي في مصر بمزايا لا يستهان بها، فهو يصادف كل يوم جميع أنواع البشر: الطالب والموظف، التاجر والصنايعي والفلاح، ومن لا عمل له علي الإطلاق، ومن السيدات تركب معه السافرة والمحجبة والمنقبة، الطالبة الصغيرة التي تكاد تموت خجلاً إذا وجه إليها الكلام، والمرأة المتبجحة التي ترفض أن تدفع قرشا واحدا يزيد عما تضطر إلي دفعه.الأهم من كل ذلك، فيما يتعلق بموضوعنا أن هؤلاء الركاب جميعا يلتقون بسائق التاكسي لفترة محدودة، لا يتوقعون بعدها أن يقابلوه من جديد، فما الضرر إذن من تبادل الحديث.
والراكب إذا لم يفتح فمه بالكلام بمجرد دخوله التاكسي، بدأه السائق بالكلام، الصداقة قصيرة الأمد وسرعان ما يذهب كل منهما لحاله، وسينسي كل منهما ما قاله له الآخر، والطريق ممل والسير بطيء والجو حار، فلماذا لا نتسلي ببعض الكلام؟ وسائق التاكسي، علي أي حال، قد صادف لتوه راكبا سخيفاً أو أمين شرطة متعنتا لقي منه الأمرين فأثار غضبه، ويحتاج لمن يفرج معه هذا الغضب، الكلام إذن بين السائق والراكب ظاهرة مألوفة، بعكس الحال عادة في تاكسيات أوروبا وأمريكا، حيث يوجد حاجز زجاجي بين الراكب والسائق، وإذا لم يوجد هذا الحاجز الزجاجي يوجد حاجز آخر غير مرئي يجعل تبادل الكلام بينهما نادراً،
أضف إلي كل ذلك أن المصري بطبعه يحب الكلام من ناحية، ومجامل من ناحية أخري، فما يجعل تبادل الكلام شبه مؤكد، وما أكثر ما يحكي في سيارات التاكسي في مصر من قصص غريبة ومدهشة، قد يقف لبعضها شعر الرأس، وتثير أخري منتهي الغضب أو تؤدي إلي الانفجار بالضحك، فإذا خطر لكاتب موهوب وحساس أن يدون في كتاب ما سمعه من سائقي التاكسي من قصص وتعليقات، أفلا ينتظر أن نخرج بكتاب شيق للغاية، يلخص الحياة اليومية المصرية أحسن تلخيص،
ويثير من الأسي والتفكير في أحوال مصر من ناحية، ومن الضحك من ناحية أخري ما يجعل الكتاب من أجمل ما أخرجته المطابع المصرية عن أحوال مصر والمصريين؟ هذا هو ما فعله خالد الخميسي في هذا الكتاب الذي ظهر منذ أسابيع قليلة: «تاكسي: حواديت المشاوير، دار الشروق، ٢٠٠٦، ٢٢٠ صفحة».
الكتاب يضم ٥٨ حواراً قصيراً، لا يزيد طول الحوار في المتوسط علي أربع صفحات، وليس من بينها حوار واحد يفتقد المغزي، ولا يدفعك للتفكير فيما يعاني منه المصريون في هذه الفترة العصيبة من تاريخهم، أو في جانب أو آخر من جوانب الشخصية المصرية.
أما عن المعاناة، فأهم أسبابها بالطبع صعوبة الحصول علي لقمة العيش.. «ولقمة العيش» لا تعني فقط الطعام، بل تشمل أيضاً مصاريف المدراس وعلي الأخص الدروس الخصوصية، التي أصبح لها من الأهمية في نظر معظم محدودي الدخل من المصريين، ما للغذاء والكساء، بل إن «لقمة العيش» هذه تشمل أيضاً ما علي سائق التاكسي دفعه من رشاوي، سواء لتجديد رخصته أو لمجرد تجنب شر عساكر المرور وأبناء الشرطة، وإلا تعذر عليه الاستمرار في كسب العيش.
هذه الشكوي من صعوبة توفير «لقمة العيش»، تكاد تتكرر علي ألسنة جميع سائقي التاكسي الذين التقي بهم خالد الخميسي، وإن كان لهم في تفسيرها فلسفات مختلفة، فمنهم من يعتقد أن الحكومة «زرعت الجوع في بطن كل مصري لكي ينصرف عن السياسة»، ولكن منهم أيضاً من يعتقد أن السبب أن الحكومة «لا تفكر إلا في الأغنياء والأجانب»، ولا تعمل حسابا لغيرهم،
حتي فيما يتعلق بمشاهدة بطولات الكرة، فيقول أحد سائقي التاكسي: «في الماتش اللي فات قبل النهائي، ابني اتحايل علي أجيب له تذكرة، ماهو مجنون كورة، حاولت أتحايل أجيب تذكرة درجة ثالثة - مستحيل، وبعدين عرفنا أن فيه سواق بتاع واحد في اتحاد الكورة بيبعهم في السوق السوداء.. تصور حضرتك ثالثة بمائتي جنيه، والثانية وصلت ثلاثمائة جنيه، الأولي عدت الخمسمائة، يعني أرخص تذكرة بمرتب واحد في الشهر ما انا باقول لسعادتك، عاملين بطولة للأغنياء فقط.. وعلي فكرة دي مش بس البطولة دي.. ده كمان كأس العالم، مش حيتذاع إلا بالفلوس».
ولكن هناك تفسيراً آخر لصعوبات الحياة أبسط بكثير. وهو أن الحكومة لا تتوقف عن نهب الفقير، ويلخص أحد سائقي التاكسيات هذا التفسير بالنكتة الآتية: وهي أن فقيراً عثر في الشارع علي مصباح علاء الدين، فلما حكه بيده طلع له الجني، وقال له «شبيك لبيك، عبدك ما بين ايديك». فطلب منه الرجل مليون جنيه، فأحضر له الجني نصف مليون فقط، فلما سأله الرجل عن سبب هذا التخفيض، قال له الجني «أصل الحكومة مشاركة في المصباح فيفتي فيفتي».
وهناك من سائقي التاكسي من يفسر ارتفاع تكاليف المعيشة بانتشار قيم المجتمع الاستهلاكي، وإن كان يعبر عن ذلك بوضع المسؤولية علي «الإعلانات». «تصدق بلد زي مصر شعبها بيدفع أكتر من عشرين مليار جنيه في السنة علي التليفونات؟.. يعني لو ماتكلمناش سنتين ولا تلاتة، مصر ح تختلف؟ شعب مهووس والله.. مش لاقي ياكل وكل واحد ماشي معاه موبايل وفي بقه سيجارة والإعلانات عمالة تضغط علي الناس: اشتركوا في موبينيل.. لا اشتركوا في فودافون.. عالم مجنون.. الإعلانات لازم تتمنع.. وفي الآخر يقولوا لنا البلد مافيهاش فلوس.. بس تقول لمين، إذا كان رئيس الوزارة بتاعنا هو رئيس التليفونات؟ يعني بتاع كلام في الهوا..».
ولكن شكوي سائقي التاكسيات في مصر من الحكومة، لا تقتصر علي ما يدفعونه من رشاوي وضرائب غير مفهومة وتسمي بأسماء مختلفة، مثل «معونة الشتاء» أو «معونة الصيف» أو «صندوق زمالة» أو «طابع شرطة»، غير المخالفات التي لم تحدث، والرسوم التي تحصل بأثر رجعي ...الخ،
بل أشد من ذلك وقعاً علي نفوسهم، ما يتعرضون له من إذلال، كإجبارهم علي الوقوف عدة ساعات في الطريق في الحر الشديد، حتي يمر موكب الرئيس أو شخص آخر مهم، أو العذاب الذي يلاقونه في تجديد رخصة قيادة التاكسي والإصرار علي «شحططتهم» من دار السلام إلي مرور القاهرة في مدينة السلام، إلي التأمينات فرع البساتين، إلي النقابة في عبده باشا بالعباسبة، إلي قسم المعادي أو الخليفة للحصول علي طابع الشرطة.. لكي ينتهي هذا كله بالحصول، لا علي الرخصة المطلوبة بل علي ورقة تصريح بالسير لأن الكمبيوتر عطلان،
أو لأن الملف ضاع، مع تحذير سائق التاكسي المنهك بأنه إذا حدث ولم تعثر إدارة المرور علي ملفه، سيطلب منه تقديم صور من شهادة المؤهل وشهادة الميلاد وغيرهما مما كان من أوراق في الملف الضائع، ويسأل سائق التاكسي الراكب بعد أن حكي له قصته في تجديد الرخصة بالتفصيل: «عندك أي فكرة هم بيعملوا فينا كده ليه؟»
ولكن كتاب الخميسي ليس مجرد سجل أو وصف لمشاكل المصريين وإنما يحتوي أيضاً علي كنز يمدك بمادة لا تنتهي لفهم شخصية المصريين. يلفت نظرك مثلاً تكرار الإشارة في كلام سائقي التاكسي في مصر إلي «الزوجة والعيال»، السائق يظل طوال اليوم يلف ويدور لكي يعود إلي امرأته وعياله، وكأنهم الهدف الوحيد من كل هذا التعب، ورضاهم أو راحتهم هما المبرر الوحيد لتحمله كل هذه المشاق وهذا الإذلال، و«الرزق» الذي يحصل عليه خلال اليوم ليس رزقه وحده، بل رزق العيال وأمهم.
وكلمة «رزق» هذه، كلمة مهمة عند سائقي التاكسي، وأنا أشك في أن معناها عند سائقي التاكسي المصريين قد يكون مختلفاً جداً عنه عند الشعوب الأخري المتكلمة بالعربية، فالرزق أولاً وثيق الصلة بإرادة الله، وتحكم المرء في «رزقه» مستحيل، كما أنه من المستحيل التنبؤ به، بل إن الظن بأن من الممكن التحكم فيه أو التنبؤ به فكرة شائنة في نظر المصري، قد تصل في قبحها إلي درجة «الكفر». ولهذا السبب، فإن معظم سائقي التاكسي في مصر يكرهون بشدة أن يتفقوا علي الأجرة مقدماً، إذ إن هذا من قبيل التحكم في «الرزق» أو «قطعه»، ومن ثم الإضرار بالنفس دون مبرر، فإرادة الله ستكون دائماً أفضل في النهاية.
عندما تفكر في الأمر، تجد أن هذا الموقف، في الظروف التي يعمل فيها سائقو التاكسيات في مصر، موقف عقلاني للغاية وأن الاعتماد علي «الرزق» بعكس الاعتماد علي «العداد»، قد يؤدي إلي تعظيم الدخل، فالعداد قد يكون مجدياً أو ضرورياً في أوروبا أو أمريكا، ولكن كيف يمكن الاعتماد علي العداد في ظروف الشوارع والمرور وندع الركاب، التي يصادفها سائق التاكسي في القاهرة؟ إن سائق التاكسي إذا أراد أن يعتمد علي العداد فإنه يحتاج إلي عداد عبقري لم يخترع بعد،
إذ يجب عليه، أي العداد، أن يميز بين الطالب الفقير الذي يركب مع ثلاثة أو أربعة آخرين ليصل إلي جامعته، والتاجر الثري الذي لا يهمه مقدار ما يدفعه، كما أن عليه أن يميز بين الشوارع الواسعة والحارات الضيقة، وبين السير في يوم شديد الحرارة ويوم آخر لطيف الجو.. الخ.
ليس هناك بديل لهذا العداد الذي لم يخترع بعد إلا فكرة «الرزق» إذ إن في هذا «الرزق» من المرونة والتكيف مع الأحوال الطارئة، ما يجعل المدفوع في النهاية أقرب بكثير إلي العدل من أي رقم قد يسجله العداد.
كل هذا يفترض بالطبع شيئًا مهمًا، وهو أن يكون الراكب «عنده نظر»، ولكن من حسن الحظ أن معظم المصريين «عندهم نظر»، بمن فيهم سائق التاكسي نفسه، فهو كما أنه يتوقع من الراكب أن «يقدر»، «يقرر» هو أيضًا بمجرد النظر إلي الراكب، حجم قدرته علي الدفع، ويعامله في الغالب المعاملة التي تتماشي مع هذه القدرة.
وكما أن سائق التاكسي لا يحب الراكب «عديم النظر»، بل ويحتقره، فإنه أيضًا لا يحب الراكب «النكدي»، أي الراكب المتشائم الذي لا يري إلا الجانب القاتم من الحياة، والذي يتوقع دائمًا حدوث الأسوأ، نعم ، الحياة اليومية في مصر مليئة بالمكدرات والمنغصات ولكن عليك دائمًا أن تكف عن التفكير في ذلك في أقرب فرصة، وتبحث عن الجانب الإيجابي.
ركب خالد الخميسي مرة تاكسيا وهو معكر المزاج، ولم يكن علي استعداد للدخول في حوار كعادته مع السائق، وزاد من تعكير مزاجه أن وجد السائق يدخّن، وكان قد تنفس قبل ركوبه مقدارًا هائلاً من عادم السيارات وأتوبيسات النقل العام في شارع رمسيس، فما إن ركب السيارة حتي صاح في وجه السائق: «ارمي السيجارة دي مش كفايه الهباب اللي بنشمه؟»
فهم سائق التاكسي الحالة، كما أنه، من اللهجة الآمرة الصارمة التي صدرت من الخميسي رجح أنه ضابط شرطة يستحسن ألا يدخل معه في مشاكل، فألقي بالسيجارة من النافذة، ولكنه لم ييأس، وإذا به يحكي للخميسي بالتفصيل الشديد قصته مع التدخين، وكيف أنه ترك وظيفة سائق عند مليونير، كان مرتبها ٧٠٠ جنيه في الشهر غير الهدايا والملابس والعيديات، لكي يأخذ راحته تمامًا في التدخين.
ثم قال للخميسي، إن السيجارة التي رماها ليست سيجارة عادية بل «مارلبورو والله!» ثم حكي له كيف أنه عندما حاول أهله الضغط عليه لكي يتزوج، وعثروا له علي عروسة من أقاربه، وبعد أن قرأوا الفاتحة، قدر بحساب التكاليف أنه لا يستطيع الجمع بين الزواج والتدخين، وفضل التدخين، وختم كلامه بقوله: «أعيش حر، أدخن براحتي، ألف براحتي، ما حدش له عندي حاجة»، ثم أضاف راجيا أن يكون كل هذا الكلام قد نجح في تغيير مزاج الخميسي إلي الأفضل: «ما تأخد لك سيجارة يا باشا، دي مارلبورو.. حتي شوف العلبة أهي!!»
ركبت أنا مرة تاكسيا، وكنت في حالة نفسية خاصة جعلتني أبالغ في تحذير السائق من كل مشاكل الطريق التي أعرفها في المعادي لكي يحاول تجنبها، حتي جئنا إلي طريق مليء بالمطبات الصناعية غير المدهونة ومن ثم يصعب علي السائق تبينها، فإذا بي في كل لحظة أحذر السائق من أنه الآن سيواجه مطبًا صناعيا، ثم آخر، ثم آخر، فما كان منه إلا أن انفجر غاضبًا من كل هذه التحذيرات وقال «يا أخي فال الله ولا فالك!» وكأنه كان يفضل ألا يفكر في المطب قبل مجيئه، ويرفض الاسترسال في هذا الخوف مما يمكن أن يأتي به المستقبل.
ولأن سائق التاكسي لا يحب الاسترسال في التشاؤم، فإنه ينتهز أي فرصة لتحويل الحديث إلي مناسبة للضحك، وكأن لسان حاله يقول: «هل من المعقول، مع كل هذه المنغصات من حولنا، والتي تأتينا من حيث لا نتوقع، أن نحول اللحظة الراهنة إلي مأتم، أو إلي تبادل الشكاوي؟».
في أحد الحوارات شكا السائق للخميسي من الحكومة وظلمها المستمر للناس، اتهموه بالأمس بتهمة الكلام في الموبايل أثناء قيادته السيارة، وحلف لهم بأغلظ الأيمان أنه لم يكن يتكلم في الموبايل، وإنما كان ممسكًا به فقط، ولكن هيهات:«الداخلية تعاملنا كأننا مجرمين وطبعًا كدابين.. مافكرش لحظة واحدة إني يمكن أن أكون صادق.. صادق إزاي إذا كنا كلنا كدابين... ولازم ننضرب بالجزمة القديمة.. والله أنا حاسس إننا مش بني آدمين.. إننا جزم قديمة.. إيه رأيك يا أستاذ.. أنا بني آدم ولا جزمة؟»
ثم تمالك السائق نفسه واعتذر للخميسي من تماديه في الغضب وقال له بعد أن هدأ قليلاً:«إنت عارف إيه السبب في المصيبة دي كلها؟ الحكاية إن أنا وأنا ماشي جاءت لي رسالة علي الموبايل، بصيت لقيت نكتة فضحكت قوي وأنا داخل اللجنة، افتكروني باتكلم في الموبايل، نكتة «وديتني في داهية» فسأله الخميسي عن النكتة فقال: «نشكر كل من قال نعم في الاستفتاء، ونخص بالذكر أم نعيمة لأنها قالت نعمين!» وانفجر الاثنان معًا في الضحك.
وعلي الرغم من أن سائق التاكسي في مصر ينتهز أي فرصة لتحويل شكاواه من الحكومة إلي نكتة، فإن هذا لا يعني بالمرة أنه لا يفهم الأسباب الحقيقية التي تجعل الحكومة تتصرف علي هذا النحو، بل الأرجح أن هذا الفهم للأسباب الحقيقية، عندما يقترن يأسه من قدرته علي تقويم سلوك الحكومة، هو الذي يجعله يميل إلي تحويل الأمور، بقدر المستطاع، إلي نكتة، إن من المدهش حقًا لأي راكب تاكسي قدر الذكاء السياسي الذي يتمتع به سائق التاكسي في مصر، إلي حد استحالة وقوعه في فخ الدعاية والكلام الفارغ الذي لا تكف الحكومة عن صبه علي رأسه عن طريق التليفزيون والصحف في كل ساعة من ساعات النهار والليل،
يعلق أحد سائقي التاكسي علي حالة الإعلام في بلادنا فيقول للخميسي: «هم» ليه مصممين إن احنا متخلفين عقليا وأغبياء وبرياله ولسه ما طلعناش كلنا من الحضانة؟ أنا من ساعة ما وعيت، وكل ما تحصل مصيبة يجيبوا لنا نفس المصيبة في الدنيا كلها.. يحصل حادث قطر عندنا، فجأة نقعد كام يوم نسمع عن كل حوادث القطارات اللي حصلت في العالم.. ساعة الطيارة ما وقعت ولا انضربت، جابوا لنا حوادث الطيارات اللي في الدنيا وفي الآخرة، بما فيها حوادث طيارات الرش..
وبيني وبينك زهقنا كمان من أخبار الرئيس، كل نشرة، الرئيس قابل والرئيس اتصل بفلان، وفلان كلمه علي الموبايل.. أنا مالي هو كلم مين ولا راح افتتح إيه؟... كل واحد عايز يتمحلس شوية يتمحلس علي قفايا أنا. أنا رأيي يعملوا إذاعات فيها نشرات بجدّ، ونشرات محلسة، ويسموها كده، عشان الرئيس يسمع نشرات المحلسة، ويبقي يرقيهم، واحنا نسمع بقية النشرات..»
ويعلق سائق آخر علي انتخابات الرئاسة قائلا:«والله أنا عمري ما ضحكت زي النهارده، لما شفت الجورنال وشفت صور اللي مرشحين أنفسهم، ضحكت من قلبي.شكلهم عامل زي «علي حكشة» و«شوشو الأعرج».. جايبين ناس عُمر ما حد سمع عنهم حاجة، دي حتي تلاقي أمهم نفسها ماسمعتش عنهم حاجة!».وعرف سائق تاكسي آخر من حواره مع الخميسي أن الخميسي كان في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية فسأله:
- يعني حضرتك درست سياسة؟- أيوه..- طيب عال، فرصة عظيمة قوي.. علشان أنا من زمان كان عندي سؤال نفسي أسأله.- ...- يحصل إيه لو إحنا نيجي ونقول لأمريكا: إنت عندك سلاح نووي وعندك أسلحة دمار شامل، ولو ماتخلصتيش من كل الأسلحة دي، حانقطع علاقتنا بيك، وحانعلن كمان الحرب عليك.. وحانضطر نستخدم القوة العسكرية علشان نحمي كوبا، ودي دولة صغيرة، ولازم نخلي بالنا عليها.. طبعاً الكلام كده وكده.. أنا مش باقول إن إحنا نحاربهم، طبعاً إنت أكيد فاهمني.. إنما نقول الكلام اللي هم بيقولوه بالضبط علي دول العالم، يعني مثلا نطلب نراقب الانتخابات الأمريكية علشان إحنا مش ضامنين سلامة إجراءات الانتخابات بتاعتهم..
ما كل الناس في أمريكا وفي العالم اتكلموا إن فيه تزوير في انتخابات بوش، وإن أخوه في الولاية بتاعته زوّر الانتخابات وكسّبه.. فإحنا نقول إننا لازم ندافع عن الديمقراطية، ولازم نبعت من عندنا قضاة مصريين عشان سلامة العملية الديمقراطية.. وأهم حاجة إننا كلنا نلغي كلمة الأمريكان، ونقول أبيض بروتستانتي أيرلندي من أمريكا، أسود مسلم من أمريكا، إسباني من أمريكا، أبيض كاثوليكي من أمريكا، أسود بروتستانتي من أمريكا، زي بالضبط ما هم بيقولوا الأيام دي، مات ستة شيعة من العراق، واتنين سنّة من العراق، فجاءت لي الفكرة دي.. إن إحنا نعمل فيهم زي ما هم بيعملوا فينا..».
.طبعاً ليس كل سائقي التاكسيات في مصر بهذه الدرجة من الذكاء السياسي، ولكن الغباء نادر، سواء اعتمدت علي كتاب الخميسي أو علي تجربتك الشخصية، هناك بعض سائقي التاكسي الذين تنقصهم المروءة، ولكن هذا النقص في المروءة نادر أيضاً سواء في تجربة الخميسي أو تجربتي أنا الشخصية.. من هؤلاء السائق الذي ركبت معه بنت الخميسي، وعمرها أربعة عشر عاماً، وكانت هذه أول مرة في حياتها تركب فيها تاكسياً بمفردها، وكان السائق في نحو الأربعين من العمر، فحاول أن يستدرجها دون جدوي إلي الكلام عن أفلام الجنس، فسألها عن أي هذه الأفلام تفضّل..
وهناك سائق تاكسي آخر أبدي امتعاضاً شديداً مما فعله الخميسي مع أحد ماسحي الأحذية، فقد سأل ماسح الأحذية الخميسي عندما عرف أنه سيركب تاكسياً إلي الزمالك، عما إذا كان من الممكن أن يركب معه فقبل الخميسي، ولكن السائق عبّر عن ضيقه الشديد من أن يكون من ركّابه ماسح أحذية، وأصر علي أن يدفع كل منهما أجرة مستقلة، وبالغ في الأجرة التي يطلبها مما اضطر ماسح الأحذية، وكذلك الخميسي، إلي النزول.
في مقابل هذا النوع النادر من سائقي التاكسي، هناك نوع نادر أيضاً ولكنه بالغ الجاذبية، مثل السائق الذي قال للخميسي إن لديه حلماً كبيراً، يعيش من أجله، وهو أن يأخذ التاكسي بعد أربع سنوات، ويقوده في جنوب أفريقيا، مخترقاً دولة بعد أخري من الدول الأفريقية، ويمر علي منابع النيل ثم بحيرة فيكتوريا، وخلال الرحلة يكون نومه في السيارة، ويملأ شنطة السيارة بمعلبات الفول والتونة، ويتفرج علي الغابات والأسود والنمور والقرود والفيلة والغزلان، وعندما يصل إلي جنوب أفريقيا يقصد آخر نقطة أرض في القارة الأفريقية لكي ينظر فيري القطب الجنوبي،
كما قال له: «ح احضر كل الماتشات. ناوي أقدم طلب هنا في اتحاد الكورة، اللي هنا جنب النادي الأهلي في الزمالك.. علشان يجيبوا لي تذاكر.. وإحنا أفارقة زي بعض.. أكيد حايتوصّوا بينا..».
وهناك سائق تاكسي آخر، في الخمسين من العمر، متأنق الهندام، حليق الذقن، عطر الرائحة، صوته عميق وهادئ، يكتشف الخميسي أنه بالغ الحساسية لأي نوع من أنواع الجمال.. قال الخميسي إن كل شيء في هذه الدنيا له جماله، وأنه طوال الثلاثين عاماً الماضية قسّم اليوم إلي ثلاث ورديات، وردية لقيادة التاكسي، وأخري يجلس فيها مع زوجته وعياله، وثالثة يجلس فيها للصيد في النيل، ويصف هذه الوردية الأخيرة بقوله «وعلي صفحة النيل باقرأ كلمات ربنا.. بعد الأربع ساعات دول بابقي حاسس إني شفاف، وإن ربنا معايا وماسك إيدي عشان ما أخافش غير منه».. وقد سأله الخميسي عن اسمه وهو يغادر السيارة فعرف أن اسمه «شريف شنودة».
وسائق آخر نوبي، في الخمسينات أيضاً، اكتشف الخميسي من الكلام معه أنه يهوي الرسم، وأنه بدأ حياته رساماً، وسافر إلي إسبانيا وألمانيا وأقام في فرنسا بضع سنين حيث كان يشتغل ساعياً في مكتب مصري، وكان يذهب في أيام الأحد إلي متحف اللوفر، حيث الدخول مجاناً، وهو يسكن الآن في دور أرضي في القطامية له حديقة صغيرة، يشتغل فيها كل يوم، وزرع فيها مسك الليل ولبلاب وهبسكس بزهرة حمراء، وهو أيضاً يعشق السمك والعصافير، لديه قفص كبير فيه نحو عشرين عصفورة، وقد تشاجرت معه زوجته في اليوم السابق مباشرة لأنه اشتري عصفورين جديدين بمائتي وخمسين جنيهاً، مستوردين من البرازيل، ولكن زوجته استكثرت أن يدفع كل هذا المبلغ في «جوز عصافير».
عندما انتهيت من قراءة كتاب خالد الخميسي، قفزت إلي ذهني فجأة صورة «زوربا» اليوناني، في القصة والفيلم الشهيرين، وخطر لي أني لو «عجنت» كل سائقي التاكسي المذكورين في الكتاب وعددهم ٥٨ سائقاً، فأصبحوا كلهم شخصاً واحداً، لكان شبيهاً جداً بزوربا اليوناني، حيث يجتمع الشعور القوي بقسوة الحياة، من فرط ما مر به في حياته من معاناة، مع الاستعداد الدائم لرؤية الجانب المضحك فيما يراه أو يسمعه، والتعاطف الشديد مع كل من يجده يعاني من الألم أو الحزن، والاستعداد لبذل الجهد اللازم للتخفيف عنه، مع حساسية للشيء الجميل إذا وجد، وعدم فقدان الأمل أبداً في أن مفاجأة سارة سوف تحدث، وتعوضه عن سابق آلامه.
ولكن سائق التاكسي المصري، وإن كان به شبه كبير بزوربا، فهو مصري وليس يونانياً.. زوربا يعشق الرقص ولكن سائق التاكسي المصري يعشق النكتة الذكية، وزوربا لا يستطيع الاستغناء عن النبيذ، أما سائق التاكسي المصري فيستطيع ذلك بسهولة، وزوربا يبدّل عشيقاته كلما سنحت له الفرصة، أما سائق التاكسي المصري فيعشق الجلوس بين زوجته وعياله.
خالد الخميسي رأي كل ذلك بعين الفنان الذي يفهم بمجرد النظر، ونقل لنا الصورة كاملة بخطوط قليلة جداً ولكنها بالغة الجمال، وترك لنا مهمة التحليل، ولكني وجدت التحليل مهمة ممتعة، لأن العمل نفسه كان أيضاً ممتعاً للغاية
.

وكتب .. هيثم الحاج علي تاكسي القاهـرة وأسرارها