Wednesday, July 14, 2010

الفصل الرابع

الفصل الرابع

ساعة الغروب و”حُسنة” تكنس البيت وتلم الدجاجات، تصعد إلى سطح البيت، وبين ذراعيها كومة من كيزان الذرة، تتطلع من النافذة, تقف على البسطة ..المقابر أمامها مباشرة ممتدة إلى مالا نهاية واسعة سعة أعمار الذين يقطنونها وحيواتهم.

كان بيتهم البيت الوحيد الذي يطل على المقابر، يفصل بينه وبين باقي بيوت البلدة مساحة واسعة من الأرض المزروعة طوال العام بالأرز والذرة والقمح، ولا يربطهم بالبلدة سوى طريق ضيق لا يزيد عن مترين، يسير عليه من يود زيارة المقابر.

هناك في الجهة الشمالية الغربية للبلدة تقع المقابر، لا تبتعد كثيرا عن مجرى النهر، الذي يسير بمحاذاة السرايا الكبيرة. تتراص القبور بجوار بعضها البعض تاركة مسافات ضيقة متوازية للمرور بينها، وهذه الطرقات مأوى للكلاب والثعالب والذئاب ويتردد عليها من يهوى صيد هذه الحيوانات، فينصب فخاخه بجوار عين القبر، ومنهم “عوض” زوج “راوية”. تتأمل “حُسنة” قبابها الدائرية غير المكتملة وشواهدها الاسطوانية، التي تنتهي بعمة للعيون المخصصة لدفن الرجال، وبمثلث للعيون المخصصة للنساء.

لم تشعر أبدا بالرهبة من صمتها، بل كانت تراها عالماً آخراً، ولم يرسخ في ذهنها رغم محاولات أبيها المستمرة إقناعها أنهم تحولوا إلى تراب، وأن هذه المقابر فارغة إلا من عظام. بل إنها في أحيان كثيرة تقيم روابط وعلاقات بين من ماتوا، فتزوجهم ببعض، تتخيل قصص حب بينهم وكنت أصدقها، بينما يندهش أبوها من معرفتها، فعندما قالت إن جمال أبو إسماعيل لا يشعر بالراحة، وإن روحه لا تستقر في التربة التي دفن فيها، وإنها دائما ما تحوم حول مقابر عائلة البكري، نظر إليها باستغراب، ولما همت بأن تسأله، وضع يده على فمها، ونهرها بشدة أن تقول مثل هذه التخاريف، وهددها: إن من يتحدث عن الميتين يذهب إلى النار، وعندما تأكد من نوم حسنة وأخيها يحيى، همس لأمها:

- مين قال لحَسنه حكاية جمال وعايده بنت البكري؟

تنظر حُسنة إلى الأراضي الخضراء الممتدة على مرمى البصر، تفكر في الحياة الظاهرة والحياة التي تموج بها القبور، تستشعر أنفاس الراحلين، واستعدادهم للقيام بجولاتهم الليلية للاطمئنان على أقاربهم، وتستشعر القلقلة التي تسري في الهواء، في اللحظات التي تختلط فيها الأنفاس التعبة للفلاحين العائدين من حقولهم، والأنفاس المستيقظة من غفوتها النهارية.

وبينما عيناها تمسح كل الألوان والأشكال التي أمامها، يتوقف نظرها عند نقطة سوداء، ولما بدأت تتفحصها، وتدرك لمن هي، أخذت حرارة تسري في بدنها، وتنتقل إلى ذراعيها، فظنت كيزان الذرة التي تحملها أن موعد تحميصها قد آن، فأخذت تتملص من أسرها، وانفلتت على الأرض، بعضها تكسر ضلعه وآخرون تهشمت رقابهم، والقليل لم يصابوا، وتكوموا في انتظار مصير آخر، تحت قدمي “حُسنة” التي صدمتها مقدمة قطار، وظلت مصلوبة على واجهته، يتحرك بها القطار من محطة إلى أخرى دون أن ترمش… ما الذي جاء به في هذا الوقت؟ هو لا يزور المقابر، يكتفي بالشهرية التي يرسلها لأبيها كي يعتني بأرواح أقاربه، بينما يعطيهم دائما ظهره.تتأمله.. شعره هو أوضح ما فيه بلونه الأسود الذي لا تتوه لمعته في غيمة الضباب الرمادي الذي يرش نطفه الآن على الدنيا، فتتكاثر بمرور الساعات سوادا حالكا، ينيره القمر من مداراته البعيدة.

على مدار الشهر تتابع “حُسنة” القمر، ينمو ويكبر ثم يتناقص ويضمحل، تتطلع إلى وجهه فترى وجه أرنب يحمل دلوين على كتفيه كي يروي جزراته، يتربص به ثعلب ينقض عليه، ويقتلع الجزرات من منبتها، يقذفها في وجه امرأة تحمل طفلها على ظهرها، المرأة منهكة، متعبة، جائعة، تطارد رغيف خبز لا تطوله يدها.

يتردد إلى سمع حُسنة عواء ابن آوي، تدرك أنه يأتي من قلب الحقول، تستبشر وتردد: اللهم اجعله خير. يلفت انتباهها طائر يحوم حول المقابر، يحط على إحداها، يتحول إلى امرأة راحت تبكي على القبر فترة طويلة حتى غلبها النوم، وهي تنعق:

- وا ولداه، وا ولداه!

فيتملكها القلق، و لاشيء يقلقها في هذه الناحية أكثر من الليالي التي يكتمل فيها القمر، مطلا بوجهه الضاحك على هذه المقابر التي لا تدري ما الذي يفعله السيد فيها. رفع رأسه، رآها، يدها تسند ذقنها وعيناها لا تسقطان عنه, كانا وحدهما ومعهما الصمت والسكون، لتبقى هذه هي الصورة التي تراود خيال “فؤاد الكاتب”، حتى وأنا أتلقى منه روحه، وهو يسلمها لي بأريحية. تمحي هذه الصورة كثيرا من شكوكه، وتؤانسه في كل ما يتبقى له من أيام، ويظل يصف اللحظة التي رفع فيها بصره ورآها، بأنها اللحظة التي أطالت العمر وأحيت الروح، لحظة تجمع فيها الحزن والوجع فإذا بحضورها الأقوى والأعمق تأثيرا ينحت لها في روحه مكانا له عمق الأسرار واتساع الفضاء. كان “فؤاد الكاتب” رجلا رومانسيا رغم خطوط وجهه الحادة، ويمكن في مثل هذه الأجواء أن تقع له حوادث لا شك أنكم ستعجبون لها، لكنها المقابر والقمر المطل عليها وحورياته التي تنزل لتؤانس أرواح الموتى وتصوب لقلوب الأحياء سهاما من أشعة القمر. فلا تشفى من الحب أبدا . فلا تقربوها ليلا وقلبوكم في جنوبكم، وإذا لم يكن بد فسيحدث لكم ما حدث لحُسنة، إذ نزلت السلالم مسحورة, وفي يديها قلة ماء، اقتربت منه، راعها الحزن الذي يأكل وجهه, دون أن تتحدث مدت يدها، رأت قلبه في يده يحفر له بجوار الورود البلدية والصبار، مدت يدها أمسكت بالقلب كان به بقية من حياة، نبضه يُحس ولا يُسمع، وتجمعات دم متجلط في شريانه تعيق تنفسه، خلعت طرحتها الحريرية لفته بها وأخذت تربت عليه، رفعت بصرها إلى “فؤاد الكاتب”

- بتعمل ايه؟

- أدفنه.

- ليه؟

- الدم الفاسد ملاه، ومش محتاجه.

- ممكن أرجعه للحياه.

- ده فسد منذ زمن.

- وإذا نجحت؟

- احتفظي به لنفسك.

تركها ومضى وقلبه بين يدها مختنقاً، أخذت تربت على القلب الذي يذوي بين يديها، تتحسسه، وبكل حواسها تلمسه وتضغط على الكتل السوداء المتخثرة من الدم، بيدها اليمنى تعطيه من طاقتها، وتحفز فيه الحياة التي تتماوت. بعد فترة وتحت تأثير حرارة يديها، اندفعت قطعة سوداء لزجة، فبدأت تربت عليه بيدها اليسرى. بدأ نبض القلب يزداد، غسلته بالماء المعطر بالنعناع ، وظلت تحكي له حكاياتها، ليالي وهي تحكي عن هواها الذي لا تدري له مآل، والقلب يستجيب لها حتى أنه بكى بين يديها، لم يستطع القلب أن يبادلها الحكايات لكنه بادلها الدموع، وكلما انهمرت دموعه، اندفعت الكتل المتخثرة التي تميته، ومن شدة البكاء والنهنهة اندفعت أكبر كتلة من الدم الأسود، واسترد القلب عافيته، وبعد أسبوع بقيت قطعة صغيرة محشورة بين الأورطي والأذين الأيمن، ولما رأت “البيه” أمام صبارته ووردته التي سبق لها أن روتهما مرتين، مدت له يدها بقلبه، رفض:

– قلت لك مش عايزه.

حاولت إقناعه: ده قلب جديد.

تردد البيه لم يصدق أن فلاحة صغيرة يمكنها أن تتعامل مع القلوب. تحسس قلبه المعطر بالنعناع الأخضر وشكرها، وأخرج من حافظته كي يكافئها وقبل أن يقول هذه مكافأة لك، فوجئ بقلبه ينقبض، فظنه يتوجع من البرد، فأسرع ووضعه في مكانه بين الرئتين ومائلا قليلا للرئة اليسرى, ولم يلاحظ البيه أن بصمات حسنة كانت قد تركت آثارها على جدرانه الخارجية، ولما وصل قلبه إلى القصر محاطا بقفصه الصدري، تنبه القلب إلى حالة اليتم التي صار عليها، فأخذ يرفس ويحرن ويصرخ مما أفزع البيه وجعله يخرج كي يتنفس قليلا.

كل ما يحدث للبيه الآن لم يكن جزءا من حساباته، في البدء كان قلبه مريضا يؤلمه، الآن يعاني من نشاطه الزائد واضطرابه. ولأن الرجال دائما ما يفسرون الأمور على نحو خاطئ، فقد اعتقد أن هذا الاضطراب مفاده رغباته وأعضائه السفلية، فاستدعى السائق وأمره بتجهيز العربة، وسافر إلى القاهرة ليقابل إحدى صديقاته. لكن الأمر كان أسوأ مما يتصور، وفشل فشلا ذريعا، سيكون على مائة رجل من “آل الكاتب” أن يستعرضوا أطوال أعضائهم، وقدراتهم الجنسية في قلب ميدان التحرير، حتى تمحى الوصمة التي لطخت العائلة، ونشرتها مجرد مغنية دون أي درجة، لكنها خبيرة في أنواع الرجال بما يجعلها مرجعية في تقديرهم وتثمينهم في هذا المضمار، وليس هذا بالشيء النادر فدائما في كل العائلات تجد من يلطخ اسمها بشيء من العار، وهذه أشياء لا تدون سوى في التاريخ السري للعائلات الذي تحفظه المومسات والعاهرات الحاملات للخطيئة.

أراد البيه أن ينسى نكبته، فتذكر وجه الفلاحة التي طبعت بصماتها على جدران قلبه، وكان عليه لكي تدخل قلبه، أن يفتح لها البوابة لكنه كان مترددا، ولما أعيته الحيلة تذكر واجبه نحو أسلافه فاعتزم أن يزورهم، ويروي ورداته وصباراته، وعندما مد يده ليسلم عليها، وضمت يدها يده، كادت تصرخ، احتوت كفها الصغير يد دافئة حانية كرحم أم، غاصت في أعماقها وفي نسيجها، وستظل هذه الكف مأوى “حُسنة الفقي” الذي لن يطردها أبدا، سيظل سكنها وسكناها في خطوط هذا الكف، يحقق رؤاها ويفسر أحلامها، رغم أن “البيه” لم يكن ينوي ذلك، لكنها الحياة أو الرواية التي ستجعلها بعد أيام في طريقها لبيتها الجديد، تصحبها قلة من النساء، وأبوها إلى جانبها وزوجها على الجانب الآخر.. ترقب البيت الكبير معزولا في حديقته الواسعة التي تقارب الفدادين الأربعة يحاصره سور من الحديد في الخارج، وفي الداخل تحيط به أشجار الكافور والنخيل والصفصاف، كالربات تحميه من عيون الآخرين، ولا يبدو من السرايا سوى ما تظهره الأشجار التي تتباعد فروعها في بعض الأنحاء، يحمل البيت لونا طوبيا من حجارته، وبابه الكبير لونه بني وكل شبابيكه المستطيلة لها نفس اللون.

عالم جديد تقبل عليه، لكنها ترزح تحت عبء، سنوات طويلة، ومليئة بأنفاس ساكنيها منذ بناها جد “فؤاد”… يتعطل قطار الدلتا، والخديوي في طريقه إلى احتفالات افتتاح القناة، تجمع الأهالي حول أفندينا، الذي أراد أن يحرك ساقيه قليلا فنزل من القطار، ويتقدم منه شاب قوي البنيان، لا يكف عن منافسة أقرانه في السباحة في النيل، ولا ينافسه في تعلم القراءة والكتابة سوى فتى خجول، خطه جميل وأسلوبه ساحر، لكن خجله يجعله يرافق زميله كظله، تقدم الفتى الجسور من مولانا وبعد أن انحنى انحناءة خفيفة مؤدبة، فيها من التقدير والإكبار أكثر من الخضوع والخنوع، تكلم عن أحوال الفلاحين السيئة، وثقل الضرائب، وتقدم بعريضة يطالب فيها الفلاحون بنيل العطف السامي، ورفع يد الجابي عنهم، تكلم عن الجميع، بينما كان رفيقه الذي كتب العريضة، ونمقها بما يليق بالخطابات التي توجه إلى أرباب النعم، واقفا بعيدا في الخلفية.أعجب الخديوي بطلاقة الفتى الجسور، فأخذه معه إلى المحروسة، وهناك تعلم القانون وسافر إلى باريس. انقطعت أخباره لكنه عاد بعد ثورة عرابي بك كبير، وبني هذه السرايا، وبقيت حياته بين القاهرة و”الخديوية” الاسم الذي تحمله البلدة حتى الآن، وتوارث أولاده لقب “الكاتب” بينما اكتفت عائلة الصديق القديم بلقب “الفقي”.

لا تستطيع “حُسنة” أن تقول إنها فرحة، كان كل ما تبغيه أن يحبها، لا.لا. حتى هذا كثير، مجرد أن يشعر بوجودها، هل كانت تحلم وهي تجمع القطن ولا تفارقها صورته على حصانه بعيدا.. بعيدا على حدود الأرض الشرقية أن يلتفت يوما إليها؟

لا.. من كان يصدق أن البنت الصغيرة التي لا تعرف من الحياة غير أيامها المتكررة يمكن أن تحب؟ وتحب من؟ السيد النائي هناك على صهوة حصانه، أو في شرفة بيته الكبير.

كانت تلتقط رائحته قبل قدومه، فتضطرب روحها، ويتصاعد الدم إلى وجنتيها وأذنيها، ترتعش أصابعها ما إن يصهل حصانه، تتبع ظله المفروش على الأرض، المنسوج من أعصابها والمغروس في روحها، الباسط سطوته على كيانها.

هل تقول لنفسها أن تعقل، لم يكن هناك مكان للعقل.

منذ متى وهي ترقبه حتى أنها حفظت ملامحه وعرفت كدره، فرحه، سنوات وسنوات، هي نفسها لا تستطيع أن تبوح له بما كان منها دون أن يدري، الحكايات التي قصتها عليه، الضحكات التي اختزنتها له، أي سحر كان يربطها به فلا تبارحها صورته، وأي مطمع كانت تريد، لا شيء. بل إنها كانت تمعن في الابتعاد عن طريقه، فلا ترفع رأسها عن نباتات البطاطس إذا تصادف ومر من جوارها.

يا أيها السيد البعيد في عليائه لا تشعر بواحدة من رعاياك الكثر، من هي إلى جانب اللاتي يتمحكن بالوقوف إلى جواره، لعل واحدة تفوز بالعمل في البيت الكبير تنظر إليهن، جميلات وعفيات، فتهز رأسها.

وسيظل دائما لدى “حُسنة الفقي” هاجس أنها استولت على حظ امرأة أخرى، وستظل تتساءل ترى من هذه المرأة؟ ويراودها شعور بأنها أخذت كل الحظوظ الحسنة لبنات سنها، وأن الذي يوزع الحظوظ لم ير غيرها، لذا ستبقى تبتسم حينما يخبرها أحد عن شيء حسن حدث لها، أو ينقل إليها نبأ طيبا وتردد: كله على الله، ده حظ مش أكتر.

وإن كان تكرار الحظ يجعلها تتساءل ما الذي بها أعجب المرأة التي توزع الأقسام؟ لكنها تعود وتتذكر أنها مغمضة العينين. و”فؤاد” الكاتب هو الشخص المناسب، في المكان المناسب، بما يجعلك تؤمن أن ما يحدث في الحياة ليس عبثا، أو ألعاب مؤلفين يستهويهم قانون الصدفة، فالرجل كانت تستكين في نفسه هواجس عن قيمته الحقيقية، ماذا لو انه كان فقيرا هل سيحظي بكل هذا الاحترام، لا يستطيع أن ينسى جرحين بقيتا ندبتهما في الروح.. عندما سمع بأذنيه سخرية الجماعة الشيوعية التي انضم إليها لتحرير البلاد من الاستعمار أيام دراسته في كلية الحقوق.. أحلامه القديمة بالحرية والمساواة، قراءته لأباء القانون: منتسيكو، جان جاك روسو،.. إعجابه الشديد بالثورة الفرنسية ومبادئها، العدل، الإخاء، المساواة ..

لكن سخرية رفاقه أيقظته على حقيقة كونه ابن الطبقة الثرية التي تعمل جماعته ضدها، وأنهم لم ولن يصدقوه.

– لا طبعا، لا يجب أن يعرف فؤاد كل خططنا، في الأول والآخر هو منهم وليس منّا.

- لكن فؤاد مؤمن بنا ويقوم بكل المطلوب منه.

- يقوم بكل المطلوب منه شيء وأنه يبقي منا شيء ثاني، لن يكون أبدا منا، أنت تربيت في سرايا وحولك خدم؟ نقوده هي التي لنا، ونحتاجها لطباعة منشوراتنا.

لم يكن يحتاج لأكثر من هذا الحديث ليعود أدراجه إلي البلد، ليبقى فيها يراعي مصالحه، ويحاول أن يحسن في أحوال أهل بلدته بالقدر الذي لا يشعر معه أنهم يستغلونه، وكان لا ينفره أكثر من فلاح يتودد إليه لحاجة يريد قضاءها، لكن “حُسنة” التي هي منهم وتعرفهم، وتعرف مقدار انكسارهم كانت تتحين الوقت المناسب لتقول له: ما يقصدش يضايقك، ولكنهم ما يعرفوش غير الطريقة دي في الكلام. هما غلابة وطيبين، علمهم.

لم يكن لدي “فؤاد الكاتب” الوقت ولا القدرة التي تسمح له أن يعلم أحداً، فقد كان بطبعه رجلا مستقيما، بسيطا، قليل الحيلة، تعوزه الوسيلة التي يخرج بها من كل مأزق نفسي، ويفتقد المرونة التي يتلاءم بها مع المواقف المتغيرة والمتناقضة، وسيظل هاجسه الذي يتلوى في صدره، ويبخ سمومه في روحه، هو أنه بلا قيمة حقيقية، وأن ماله هو المبرر الوحيد لوجوده.

وحدها “حسنة الفقي” كانت تعرف روحه وسماحته، وتنبهه إذا ما لمحت قطرات الكدر تتجمع في جبهته، وتفرقها بتدليلها له ومحبتها، قبل أن تتكاثف السحب، وتهطل أمطارها السوداء معكرة صفو أيامها معه، وإذا غلبته شياطين هواجسه، تأمر من في البيت بالسكون وألا يقترب أحد من كبيرهم وتكون في هذه الأوقات الربان الماهر “لآل الكاتب”، حتى تسترد روح زوجها، والرجل الوحيد الذي أحبت واشتهت في هذا العالم، وكان هو يقدر لها هذا ولا يخجل من نوبات ضعفه ويطلعها عليها.

أثقلت الأيام عليه. وحين تسيطر عليه هواجسه القديمة, فيبدو كرجل يحمل دهرا كاملا لا ستين عاما لن يخجل من أن يسألها ممسكا بيدها، ودون أن يستحلفها أن تقول الصدق:

- لو مكنتش البيه الغني كنت ترضي تتجوزيني؟

فتفهم حسنة مراده وتكتم غيرتها وتواسي ندبة روحه:

- طبعا ولو مكنش حيلتك غير جلبيتك، كانت البنات تتخانق عليك وتسحر لك كمان, كفاية حنانك.

وينسى أن زوجته تغار ويفتح روحه لصديق لا تنتهي مسامراتهما

- مش كل البنات يا حُسنه.

- كل البنات يا فؤاد.

فيدير وجهه ويخنق صوته السؤال الذي ظلت تخشاه

– طب ليه واحده تختار الشلل ولا تختارني؟

ياه. بعد كل هذا العمر، يتجسد لها هاجسه الذي ظلت تغض البصر عنه، كأنه الباب الذي أوصاها أحدهم بألا تفتحه، وقبل أن تغرق في دوامتها، مد لها حبل نجاة، وقبَّل باطن يديها وهو يتمتم

– حبك داوى جروحي، لكن اغفري إن لمست ندباتي، فتذكرتها.

ولكن لأنه ليس بهذه السهولة تداوى الجراح أو يمنح الغفران. تحكي لي “حُسنة” في أيامها الأخيرة عن ابنة عمه التي تسكن غرفة في الدور الثالث من السرايا، تقابلتا مرات قليلة، في الأعياد حين تصعد إليها بصحبة فؤاد لتهنئتها بالعيد، تتبادلان كلمات مجاملة مقتضبة، وشجعها على ذلك ولم يثر غيرتها أو شكوكها لا مبالاة فؤاد بها وتعامله معها على أنها أحد مسئوليات كبير آل الكاتب. وعندما همت حياة بالنزول بكرسيها المتحرك، بمساعدة دادة وهيبة لتودع “فؤاد”، كانت “حُسنة” هناك على رأس البسطة، تبادلها نظرات وحديثا صامتا، أدركت منه “حياة الكاتب” ألا وجود لها إلى جوار المحتضر، وأن مكانها الوحيد هو حجرتها، وربما فقط سريرها أو كرسيها داخل تلك الغرفة.

هذا ما ترويه حُسنة، لكن من يصدق امرأة تصادق الموت؟

يتبع

No comments: