الفصل الخامس
غسلته كما علمتني يا أبي.. سخنت الماء إلى الدرجة التي يحبها ويتحملها جسده، تحسستها كما كنت أتحسسها وأنا أملأ البانيو لحمامه الأسبوعي بعد الحلاقة، فتأكدت أنها فاترة وكنت واثقة من طهري فلا حيض بعدد انقطاع الدورة الشهرية لوقت طويل.
أحضرت الماء الدافئ، لينت أطرافه، مسدتها، استخدمت ليفته. بدأت برأسه ثم وجهه ويديه ثم جنبه الأيمن ثم الأيسر وقدميه: اليمنى فاليسرى، ثم غسلت الجسد كله بالماء، ولم أنس أن أضغط على بطنه، لكن “فؤاد” كان قد عاف الطعام قبل وفاته، أردد وأنا أغسل الذراع اليمنى، اللهم أعطه كتابه بيمينه وحاسبه حسابا يسيرا، عند غسل اليسرى، اللهم يسر ولا تعسر، اللهم حرم شعره وجسده كله على النار، اللهم ثبت قدميه على صراطك المستقيم.
كم من الوقت مضى قبل أن يخلع ملابسه أمامي؟
يدخل الحمام بملابسه كاملة، لا يخلع سوى الروب، يضعه على الكرسي المجاور لباب الحمام.. وجود حمام في نفس غرفة النوم كان أول ما أثار انتباهي في البيت الكبير، البنت التي أعرفها تقضي حاجتها في الخلاء، بيوت المتيسرين هي التي تحوي الكنيف، والماء القليل يجعل له رائحته الخاصة، وهي رائحة بكل الأحوال لا تغري بوجود الحمام في البيت، فما بالك بحجرة النوم. لكن حمام السرايا معطر دائما، وما ورد في ذهن البنت التي أعرفها حين دخلته للمرة الأولي: إنه أحسن من حجرة الضيوف عند العمدة.
يأخذ حمامه من الدش، يراقبني وأنا أحاول النفاذ إليه والاقتراب مما تحت الجلد. مرات كثيرة ولا يكتمل اكتشافي له، المرة الوحيدة عندما غسلته. جسده مستسلم لدفء أصابعي أملأ كفي بزيت الورد، يتلألأ الزيت الذهبي بابتسامات عشرات العذارى، من أجلك يجمعن الورد الهندي والدمشقي والجوري، قبل شروق الشمس، تنقع البتلات وتقدمه لي الصبايا، ادهن به جسمك.
أجهز ثوبك الأخير، أعطره بكل العطور التي تحب وبنفس ترتيب استخدامك لها طوال اليوم.
القميص الأول رداء طويل من الكتان، ليست به أية تفصيلات، يناسبه عطر يحتوي على الياسمين كي يكون صباحك منتعشا ونشطا.
يليه الدرج الأول من قماش أبيض يشبه الشاش، عطر” سيمار” يعطيك الإحساس بالأمان في رحلتك الطويلة .
ثم الدرج الثاني من قماش الدبلان الأبيض. وسط النهار، بعد الظهر تستخدم عادة عطر “الأورنجا”
أضيف الدرج الثالث: القطنية. عطر”كوول واتر” للحظات الصفا والسكينة. والدرج الرابع والأخير من الكشمير.ما ستواجه به الآخرين، دائما ما كنت تبدو لي شامخا، عظيما، مسيطرا وستؤكد ذلك مع عطرك المفضل “يانجان”.
وسأكتفي أنا بزهرة التمر حنة في يدي.
من بين ملابسي، أخرج قماشة بيضاء، بها حبيبات ناعمة ملساء، لونها أحمر داكن، أشعلها، فيحترق المسك الذي ادخرته لهذا اليوم، وتتصاعد رائحة نفاذة مع لهب أبيض، يظل يتراقص أمام عيني، وتنفذ رائحته إلى خياشيمي وتسكن هناك، أستدعيها كي تعيد أمني وتهدهد روحي. في المبخرة تتفحم قطعة المسك، ما تبقى منها في يدي حبات فحم إسفنجي وملمسه الرملي يتفتت بين أصابعي ويتلاشى كما تلاشت روحك، دون أمل في استرجاعها..هل لي أن أحاول ؟..أتمدد على جسدك، دافئا كما كنت دائما، أضغط عليك بجسدي، أستحث خلاياك أن تتحرر من أغلالها الدائرية، أرتفع قليلا قليلا، أعود مرة أخرى أضغط ثانية، أتوسل أن تحطم روحك قيود الموت وتهرب من سلاسله، أرتفع قليلا قليلا، أعود ثالثة أبتهل أن تعود روحك من خلالي، وتصحو من نومك، لكنه يراوغني.. يقترب موعد صلاة الجمعة، ينهض من سريره، يجلس بين يدي الحلاق. أتأمل صورته التي أعطاها لي حديثا ووضعتها في إطار فضي على الكومودينو المجاور لناحيتي من السرير.. صورة التقطتها عدسة المصور فور تخرجه من كلية الحقوق، ثبتت هذه الصورة في ذهني، أنظر إليها فأشعر أنها لابن ذاهب إلى “الجهادية” وسوف يعود. نادرا ما أتذكر صورته الأخيرة وشعره الأشيب يجلل رأسه، شعره الذي لم ينحسر عن جبهته سنتيمترا واحدا، شعره التام الكامل يبعث الثقة وسوالفه التي ستتغير ظهورا واختفاءً بناءً على نصيحة الأسطى على الحلاق الذي يزوره كل جمعة قبل الصلاة.
سينادي الآن بصوته الآمر:
- الحمام جاهز يا فاطمة؟
لا. لقد تغيرت الصيغة ونبرة الصوت. فعامان كاملان يكفيان لأصبح ماهرة في التقاط حركة شفتيه وهو يهمس برقة أثيرية ومحبة: الحمام جاهز.
يجدني على رأس السلم فور انتهاء الحلاقة وهو ممسك بالكرة الحديدية التي تزين مقدمة الدرابزين الخشبي وإحدى ساقيه على أول السلمة والثانية لم ترفع بعد، وبمرح يجعلني أتمنى تأخير صلاة الجمعة للأبد. فأهز رأسي:
- طبعا.
وأخطو في الممر الطويل المؤدي إلى غرفة النوم، وقبل أن أفتح باب حجرتنا يكون قد لحق بي، فيضمني من الخلف، وألتفت إليه لأقبل رقبته، تصعد شفتي إلى ذقنه ثم أحك خدي بخده:
- إيه أخبار الحلاقة؟
- حرير.
ويفك لي حزام الروب الساتان …
بعدها بسنوات طويلة قالت لي ابنتي:
- لا يجوز. بمجرد موته أصبح غريبا.
أشتاق إليك فلماذا لا تأتيني, أحمم حصانك, أتشمم ملابسك، أرتديها, أنام في جلبابك فما الذي يبعدك عني. لدىَّ إحساس دائم أنني لم أعرفك، وأنت أيضا لم تعرفني.
ما الذي ينقصنا لتكتمل علاقتنا ؟ شيء مراوغ يفلت من يدي، ينزلق ولا يتبقى سوى طيفه ربما تولد في تلك الصباحات البعيدة، في الساعة التي أجلس فيها لأشرب فنجاناً من الشاي، وفي داخلي أمان وانتظار، عندما انطلق البيان الأول في العاشرة والربع من إذاعة البرنامج العام اتصلت به في المكتب وكان رده مقتضبا: عرفت.
على مدى اليوم لا أمل الاتصال به – فؤاد أسقطنا 22 طائرة، أسقطنا 42 طائرة، لدينا أسير 6,4,2,…..
يتململ صوته: سمعت.
في المساء صفعني على وجهي:
- 86 طائرة !! ليه بيصطادوا حمام! إنت عبيطه؟
عبيطة. هل هذه صورتي لديه؟ بلهاء يمكنها أن تصدق أي شيء، حبه، حمايته إخلاصه. تصدقه وتجلس أمامه في الفصل وهو يكتب عنوان الدرس “ماذا تفعل في الغارة”، تحفظه.. يشير لها، تسمع.. إذا كنت من سكان الأدوار العليا فانزل إلى بدروم المنزل أو الطابق الأول.. ابتعد عن بئر السلم فقد ثبت بالتجربة أنه أكثر الأماكن في المنزل تعرضا للانهيار.. الزم الهدوء التام حتى تسمع صفارة الأمان، إنها تعطي صفيرا متصلا لمدة 45 ثانية.. تأكد من أنك أطفأت جميع أنوار منزلك وساعد رجال الدفاع المدني في إرشاد جيرانك لإطفاء أنوار مساكنهم.. تأكد قبل تركك المسكن إلى المخبأ أو بدروم منزلك أنك أغلقت جميع محابس المياه والغاز…
هل سيتذكر “حياة” ويوصي بإنزالها إلى الدور الأرضي؟ مع كل مرة يفتح فيها فمه، أنتظر أن يقولها:
- حُسنه! اطلبي من الشغالين تجهيز أوضه في الدور التاني لحياة.
لكنه نسيها فنامت كل هواجسي واستمر الدرس.. مدفعية عادية ومدفعية مضادة للطائرات ومعدات ثقيلة وجنود القوات المسلحة المصرية في مطار عمان الحربي، العراق تنضم لاتفاقية الدفاع المشترك، إننا ننتظر المعركة على أحر من الجمر، قواتنا تتوغل داخل إسرائيل، التقدم العربي الجبار، الجزائر، السعودية، العراق، الكويت، الأردن، السودان، سوريا معنا في قلب المعركة .
أصم الدرس، أردده، والنتيجة؟
– 86 طائرة!! ليه بيصطادوا حمام! إنت عبيطه؟
طفلة غريرة، يسخر منها، هذه هي صورتي لديه، عيناه تراني هكذا، وبكل حمق الأطفال أوزع الشربات، وأصب ماء الورد لكل من يمر أمام السرايا , وفي اليوم الثالث عندما سألتني فاطمة:
- يا ستي أبل الشربات؟
نظرتُ للخريطة كانت كما هي، نفس الخريطة لا تتغير، البحر الأحمر، خليج العقبة، فلسطين المحتلة، الجمهورية العربية المتحدة. الخريطة ثابتة وفي نفس المكان وكأنه ليس هناك جديد.
نظرتَ لي باشمئزاز “إنت عبيطه” وأشرت إلي كلمة “لكن” تحت عنوان الجبهة المصرية وعلقت في رقبتها ناقوس
“ولكننا واجهناهم بشجاعة وعناد.. قواتنا المسلحة تدافع وترد الهجمات على مواقعنا في العريش والقسيمة وأبو عجيلة وتكبد العدوان خسائر في العتاد البري والطيران”
قلت لها: استني شويه.
لكنها انتظرت طويلا. وعندما أعلنوا في يوم وأنا أتابع تجهيز طعام الإفطار أننا عبرنا القناة، قررت مقاطعة الراديو، وختم القرآن الكريم فمن يتحمل الخيانة مرتين.
انتهي الدرس ودق الجرس.. بيتك.. بيتك.
كيف أمكن لك أن تتصورني بهذا الشكل؟ ساذجة وعبيطة وغبية وأنا التي صدقتك في كل ما قلت… وللمرة الأولى أرى عينيك التي تحدثوا عنها كثيرا, حزينة والدموع معلقة فيها وقررت الانسحاب وتخليت عني…
بعدها تجنبت الأحاديث والأراء والفرح والضحك مخافة أن تظهر لي الدموع التي تملأ عينيك الواسعتين وتزيد لمعتهما مرة أخرى… تنحدر الدمعة على خده تتلألأ في ظلمة موقعه النائي، حيث يجلس على طرف الصف الطويل للمعزين بعيدا، حيث لا يصل ضوء الكشافات التي تتمركز حول رأس المقرئ المتسلطن على مقعده العالي. تستقر التنهيدة التي أخرجها الأب في صدر البنت الصغيرة التي جاءت تستدعيه لأن صرخات أمها أصبحت تعلو في انتظار مولودها، تسمرت البنت أمام الدمعة المعلقة، التي تجذبها الأرض بطيئا، وتعوق مجراها كبرياء رجل طالما انتشى بكلمات الإعجاب لترتيله، تحسس الرجل حنجرته التي أصابها التهاب لينزل من كرسي المقرئ وآهات المعجبين بكلام الله إلى مجرد فقي يلحد الموتى، ومقرئ له راتب في كل بيت، يمر على البيوت من السابعة حتى أذان الظهر.
تفر عينا الرجل بعيدا عن الكرسي الذي يصدح “وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة…”
البنت التي حرقتها دموع أبيها لا يمكن لها أن تنسى الوجه المنتفخ المتعالي المتسلطن السارق لمقعد أبيها.. لكنك بقيت في مقعدك.. سأبقى كما أمرني الشعب.
علمت ببقائه عندما وصلتني دقات الكنائس من المنصورة والأذان الذي ارتفع في غير موعده، لكني كنت قد أعطيته ظهري للأبد حتى أنه عندما مات وغلبتني دموعي، لم أسمح لها أن تظهر سوى أمام مرآتي في الحمام وألا يكون لها أثر سوى طرف الكم الأيمن لجلبابي الموهير الذي انتظر به الشتاء.
ماتوا جميعا وبقيت “إنت عبيطه”.. سري الصغير، هاجسي الذي أرق أيامي. الإجابة الجاهزة لكل ما تمنيته ولم يتحقق. لم يطلب من مسيو عدنان أن يرسم لك بورتريه ويزين بصورتك مدخل الصالون. “لأنك عبيطه”.
أحقا كنت تطمعين في ذلك يا ابنة الفقي.. فتلتفتين الآن في انتظارك للمرآة، وتتخيلين كيف يكون بورتريهك، وبأية زاوية ستكونين. تعيشين أمام المرآة تختالين بنفسك كلما ارتديت جديدا، وتقولين غدا..وغدا لا يأتي, كم اخترت من أوضاع ؟ ولم تتحقق؟ وبقيت منعكسة على صفحة مرآتك، حية في ذاكرتك تخرج لسانها لك: يا عبيطه.
مع طول عشرتنا لم أكشف لكَ سري.. تماهيت فيك حتى أخذت كل صفاتك، وتعلمت منك صمتك الذي لا يبين عما تخفي دواخلك، روحك وسراديبك ظلت غير مأهولة,
وسأظل أندم طوال أيامي أني لم أسألك صراحة، كنت أردد سأعرفك غدا، وفجأة مت، وتنبهت أن الفرصة مضت ولن تعود وأنني لن أعرفك, ولن تعرفني, رغم جسدك العاري المسجي أمامي، وجراحك التي مازالت مفتوحة، أحاول تطهيرها. سهري بجوارك, لمسات أصابعي على جسدك، ضغطي على يدك وأنت تتألم، ارتعاشات روحك التي شعرت بها. رغم لهفتك، ثقتك، مؤازرتك لي, عبارتك الحاسمة للأولاد.
- ماما هي اللي تختار.
تقولها أنت والابتسامة تملأ وجهك، فتعود الضجة التي جئت من المطبخ على أثرها: سينما التحرير الصيفي يا ماما.. طبعا “السباق العجيب”, بلاش الأفلام العربي.. مفيش أحسن من “ناتالي وود” و”جاك ليمون”.. لا. “هارب من الزواج” يا ماما.. “سلطان”, وحش الشاشة يا ماما..
آخذ منهم الجريدة وأفكر. أنظر إليك.
- يلا يا ماما.
أتوجه إلى التليفون أطلب الرقم 3219
– ألو سينما عدن؟
- ……..
من فضلك احجز لنا بنوار لحفلة سته.
– …..
– فؤاد بيه الكاتب وعائلته.
وألتفت لعشاق “نتالي وود”: فيه ممثله جديدة اسمها “نادية لطفي”، مجلة الكواكب نشرت صورتها ونفسي أشوفها.
كنت أحتاج إلى إجابة واضحة مثل الشمس أعلقها على صدري.
لكني لم أسأله، كل شيء كان جيدا بل كنت محسودة حتى من نفسي، وهي تردد أمامي كلما حدثتها “أتحفيني بخرافات أيامك الأخيرة، امرأة تافهة تبحث في شقاءات الآخرين وتريد أن تبكي على نفسها”.
في أيامك الأخيرة لا أحد يرضى عنك..
تعيد “فاطمة” الطبق لي:
- يا ستي “الرز بلبن” حلو قوي، إنت اللي بقك بقى دلع.
يفيض الأمر بالمسكينة، بعد مرات عديدة، وأنا أضع طبق المهلبية جانبا, وأنزوي على نفسي في غضب.
عبارتها الحادة، وصوتها الذي نفد صبره, لا يعني أن أصدقها.. وليس عليك أنت أيضا أن تصدقها. ماذا يعني أن تمتلك لسانا ناعم الملمس، وخدودا تجهدك عند مضغ قطعة لحم, بلعوما يتكاسل عن استقبال لقمتك, تتعرض للإمساك بين الحين والأخر..عليك بالإقلال من أكل الموز, وشرب القليل من الخل الذائب في الماء, ستشعر فورا بالراحة.
لكن فاطمة أو أية خادمة غيرها لا يمكنها أن تنكر حالة أسناني الكاملة، أغسلها كل صباح ومساء حتى لا يتهمني “فؤاد” بأنني فلاحة.
- ياستي “الرز بلبن” حلو قوي إنت اللي بقك بقى دلع.
جيد أن يكون فمي دلعا وليس مُرَّا..عالمي كما هو لم يتغير, والبيوت التي ترتفع دورين أو ثلاثة مازالت كلها بعيدة, لا تقترب من السرايا المغلقة أبوابها. حتى عندما دخل عليك الرجل الذي لا يرفع عيناه في عينيك أبدا، مصطحبا صغرى بناته ليقول لك: يا ست. بنتي “نوال” عايزين لها شغل.
- ومالو ياحامد. البيت واسع، تساعد فاطمه.
- لا يا ست. نوال معها الدبلوم.
نظرت إليه. كما هو، كما عهدتيه لم يتغير, وهو يضع في حجرك حبات الجميز أو حفنة من أوراق الجوافة لأمك المصابة بالبرد, ويتلفت حوله قبل أن يخرج من “سيالته” رمانة:
- تغلي قشرها هتروق على طول.
وبمجرد أن يراك مارة أمام السرايا تسيرين بحذر خائفة من الكلاب، ينادي عليك:
– عدي ما تخافيش.
ويسألك عن يحيى:
– بيقولوا شاطر في التعليم .
ويستطرد – البيه إداني أوضه واسعه، ومبلطه، وفيها حوض وحنفيه، وإنت بس اللي هتـنوريها.
كان عريسا مناسبا، بل أكثر من مناسب. لكنك رفضتيه عندما تقدم لأبيك لأنه “فشار” وكذاب، أعطاك فردة حلق وادعى أن “أسمهان” كانت ترتديها عندما سقطت بسيارتها في الترعة وهي في طريقها لرأس البر وعندما عرض التلفزيون فيلمها الأخير “غرام وانتقام” وكان الحلق يزين أذنيها ضحكت وقلت:
- الحمار بيفوِّل علىَّ.
حجرته!! الآن ترينها حجرة ضيقة، وتتعجب السيدة التي تسكن السرايا، كيف يعيش فيها ولدان وبنتان، وتتماهين مع زوجته، وتتغاضين عن سرقاتها للبيض أو الفراخ.
- حرام هما بيعملوا بيها ايه؟! بياكلوا.
وتسأليه: عايزها تشتغل فين يا حامد؟
- في مشغل الملابس، وأنا طول عمري خدامك.
“طول عمري خدامك”! لكن ابنتي لا.
عليك أن تعترفي.. التغيير أصبح قريبا منك، استقيظت على يده:
– ميعاد الدواء يا مدام.
شابة ترتدي فستانا أبيض، وتلم شعرها بإيشارب من اللون نفسه، تسند ظهرك بمخدة، وحبيبة وراوية أمامك، تدعكان يدك: سلامتك يا ماما: إيه اللي حصل؟ ضغطك ارتفع! لكن هذا أمر طبيعي في سنك.
في سني؟ أي سن؟ الخمسون.. الستون ..السبعون ..
في الخمسين أو بعدها قليلا، تشعرين أنك تتحررين من تبعية جسدك للعالم، تتخففين من نظرات الآخرين، من حصار عيونهم. سيدة خمسينية تبعثين الهيبة والوقار. تتلفتين كما يحلو لك، دون أن تلمز حركاتك، أو تنسب للشيطان.
الآن أنضم إلي عالم الجدات، ولدت حبيبة في نفس العام الذي انقطعت فيه عني الدورة الشهرية.
لا تتصور حبيبة مقدار امتناني لها، وهي تكتب في خطاباتها عن أشياء لا أعرفها، ثقتها تدفعني لأن أبحث, ثقتها في قدرتي على تفهم الاستنساخ، البويضة, تفريغ الخلية. تعتقد أنني أستوعب كل هذه الأشياء الجديدة، تعاملني كشخص بالغ رشيد، ولست مجرد البنت التي لا ينتبه لها أحد..البنت التي تجلس على مصطبة بجوار أمها، تعدد على المتوفين، وأنا ذاهلة، بكائي دائما صامت فمن يسمع لبكاء طفلة هي ابنة المعددة وسط الصراخ والعويل؟ نمى لدىَّ شعور أن حزني دائما أقل من حزن الآخرين، فلتكن بكائياتي صامتة، ويوم ماتت أمي كان بكاء النسوة صامتا دون عويل أو نواح. لم أشعر أنها ماتت إلا حين جاءت قريبة لنا بطبق به بامية، لماذا أكره البامية ؟ كنت جائعة لكنها لم تكن بامية أمي.. قرونها الصغيرة, تسبيكتها، لم تكن بها رائحة أمي, حينها أدركت أنها فعلا رحلت فبكيت. لكنها لم تخذلني، تأتيني في مساءاتي، تشرف على تعليمي شئون البيت، ذاكرتي تستحضرها في كل الأوقات، لم يصدق أحد أن بنت السابعة تستطيع أن تطبخ وتكنس، أفعل كل ما تفعل، شيء واحد لم أقدر عليه، آخذ الرحمة من النساء أيام الخميس والأعياد.
توقظك تكبيرات العيد من ميكرفونات زاعقة تكبر وكأن الله لا يسمع. إن أنكر الأصوات لصوت الحمير قالها الشيخ “عبد الجواد” وهو يهذب صوت الولد “على”. يخنق الصوت الزاعق سكينتك، ويسلب منك فرحة العيد، وزهوة الفستان الجديد، والعيدية المتوقعة، تحاولين النوم، لكن البنت ذات الضفائر المشدودة تجذبك من سريرك، تطوف بك على البيوت المفتوحة، تقودك إلى الوسعاية المجاورة للنيل، فيصطبح وجهك بنسمة باردة، تظل ملاصقة لجلدك، تتغير الألوان، والضباب الخفيف يكسو الخضرة الأبدية الساكنة على حواف النهر، الذي يسير مطمئنا، لا نرجو منه هذا العام فيضانا غامرا, يأمن الرجال النهر بعد التعلية الأخيرة للجسر، ويملأهم فرحة التغلب وبهجة الانتصار، بعد سنوات سيصير النهر وديعا وساكنا أنهكه طول الرحلة عبر آلاف الكيلومترات. تشاهدين رحلته محفورة في خريطة، تحتل صفحة واحدة من كتاب الجغرافيا لعاطف، صفحة واحدة، ومجرد خط طويل متموج لا يستقيم. يأتي النهر في نهاية المشوار مثقلا بأيامه وأسراره، حاملا وجوه وأرواح من مر بهم، والسؤال الذي لا أعرف له إجابة، هل يختلف طعم ماء النهر عند منابعه التي شاهدتها في برنامج “عالم الحيوان” عن مصبه الذي ينتهي إلينا؟ لا أحد يعرف الإجابة، وأحيانا تنقلب الإجابة إلى سؤال لا أفهم مقصده: “من يملك كفا لا يتسرب منه الماء أو يتبخر، فيحمل حفنة من هنا إلى هناك ليقارن على حق”. هكذا تردد ستي آمنة التي يكتمل طعم العيد بزيارتها، بابها دائما مفتوح ندلف إليه في أي وقت، تمنحنا وجها بشوشا وريقا حلوا وسخاء ينبسط أمامنا، أدخل مع الأولاد، نسلم عليها، نقبل يدها المعروقة، أرفع رأسي وأقبل وجهها، جلدها الطري الندي، تقبلني وتسألني كما عادتها مع الجميع من؟ نظرها الضعيف لا يحدد من نحن، أو ربما هو غبشة الصباح والضوء الخافت، والأكثر احتمالا أنها ملامحنا، التي تتغير من عيد إلى عيد.
- حَسنة بنت حسين الفقي.
تقبلني وتخرج من سيالتها “نكله”، وتمد يدها بالطبق الصاج المملوء بالتوفي والفول السوداني، الطبق من الصاج الأبيض، غويط، في أسفله خرم صغير لا يسقط ما بالطبق لكن الطلاء يتآكل، وعلى الراكية تدفئ الخبز وتمنح كل واحد رغيفا وقطعة جبن، تصنع شايا وتصبه في أكواب تعاملنا كما لو كنا كبارا، أتدفأ بطعم الشاي وأحلم هل سأكون يوما مثلها؟ لكن التجاعيد لما جاءتني، وجاءني الشال الأبيض لم يعد هناك أولاد يسيرون مسافة طويلة، ويخترقون ممر الحديقة. وربما كانت البوابة مغلقة، لا يستطيع أحد اقتحامها و”راوية” تصيح:
- هتلمي العيال عندنا؟ حَسنتهم ياخدوها في الجامع.
فتنكمش البنت ذات الضفائر المشدودة، ويلتسع لسانها مع الرشفة الأولى من كوب الشاي، ويزعق خطيب المسجد الجديد بوصاياه العشر، وأنت تغالبين تحنانك إلى الجرجير والفجل وقطعة خيار طازجة، تمسحينها في جلبابك، وتفركين طينها الندي في يدك، ويختم الشيخ وصاياه بالوصية الأهم: أيها النساء أنتن معظم أهل النار لا لأنكن تكفرن بالله ولكن لأنكن تكفرن بالعشير قالوا :وما العشير يا مولانا قال: الزوج.
وقبل أن تنهضي وتقبلي يد السيدة مرة ثانية، تمد يدها لك بلفة، تطبطب على كتفك – سلمي لي على أمك.
تعرفين جيدا ما باللفة, تحملينها، تتدلي بها يدك بالقرب من فخذك، لطخة تفسد فستان عيدك، يسرع الأولاد، تتباطئين، وعند أقرب حائط تلقينها من يدك, تنفك الورقة وتظهر وحدات الكعك، تفرين منها لكنها ستظل تطاردك…
بأي عمر نفتدي عقدنا الصغيرة؟
كعك العيد من ضمن أشياء كثيرة لم تكن ببيتنا, كل عائلة ترسل طبقا أو اثنين فتتجمع لدينا أشكال وأنواع عديدة، فهل يمكن للبنت التي كانت أهم سماتها أنها متفهمة، أن تطلب من أمها كعكا له نكهتهم ودقيقهم وسمنهم ونقوشهم ورائحة أمها؟ لم يكن لها أن تتذمر، وهي تعرف أن تكاليفه يمكن أن توفر لأبيها ثمن “كيلة” قمح أو أكثر. وجاء اليوم الذي أصبح لها كعكها, أول عيد يمر بعد زواجها, اشترت كل أنواع النقوش, ولسنوات طويلة تتفنن في عمله وتحشيه بالملبن والعجمية, كانت أول من قرأت عن “المعمول”، وقدمته لضيفاتها والمهنئات بالعيد، وكل واحدة تسألها عن الوصفة.
تجتمع حولها الشغالات، تتأكد من نظافة ملابسهن, وربطة الرأس البيضاء التي تلم الشعر. تبس العجين بيدها، تشرف على النقوش، ومع السنين تشكل حصانين وأقواسا وأهلة لمنير وعاطف، وعروسة ونجوما لراوية وحبيبة، وحينما يخرج أول صاج من الفرن، متوهجا ومتفتحا، ورائحة السمن البلدي تغلف المكان، وتخبر عن جودته, تطلب من “أم علي” تذوقه، تراقب وجهها:
– بيدوب في البق ياست حسنه. تسلم إيدك.
تهجم البنات على الصاج ….
تجهز طبق الكعك، ترشه بالسكر البودرة، ترفعه إلى فؤاد بينما يرتدي ملابسه استعدادا لقضاء السهرة الرمضانية, تمسك واحدة وتقربها من فمه، فيقبل يدها ويقول: “تسلم يدك”. تلاحقه بكعكة ثانية: “علشان خاطري”. فيقضم نصفها، وبعد أن ينزل، ويغلق الباب تعطي الطبق لإحدى البنات دون أن تتذوقه.
الحقيقة إنني لم أحب الكعك ولن أحبه.. هل تستريحون إذا قلت لكم إن الكعك عقدة طفولتي وحرماني؟ لا بأس، استريحوا، لكني لن أترككم لهذه الابتسامة الشامتة وسخريتكم… طبعا شبع من بعد جوع. فأنا أمتلك شجاعة الاعتراف بعقدي القديمة وأستطيع أن أحصيها:
1- الكعك.
2- الكلاب السوداء.
3- عيدان الذرة.
فهل تملكون أنتم ذلك؟ سأترك لكم جزءا أبيض، سودوه بعقدكم القديمة هيا:
1-
2-
3-
No comments:
Post a Comment