استقالة ملك الموت
صـفــاء النَّــجــــــــار
الفصل الأول
مازلت أترقب وصولها، وأستمهل الموت الذي يرفرف بجناحيه خارج نافذتي.. أرهف سمعي لخطواتها، أتشمم رائحتها، وعيناي محدقتان نحو الباب، ومع كل طرفة أختلس النظر إليه.
لم أره منذ زمن، فكأنه قادم من سفر بعيد، على معطفه الأسود بعض قشات عالقة، ورائحة مطر مبكر تشبع الهواء، ويبدو أن جدوله اليوم لم يكن مثقلاً بالأعمال بما يسمح له بالتريث.. لكن من يستضيف الموت أو يقدم له كوب شاي؟!
لا أجد ما أعبر به عن امتناني له سوى أن تزيح ابنتي الستائر أكثر، وأن تفتح النافذة كي أخبره أن انتظاره لن يطول فهي الآن قادمة عبر الحديقة، وواثقة أنا أنها حين تطل بوجهها، وأتنفس هواءها سيبتعد عن إطار النافذة ويتركنا دون رقيب.
آه أيها الموت كم أنت رقيق.
ليست المرة الأولى التي تنتظرني فيها.. في الأيام البعيدة، كنت تعبر بي الشارع، تمسك بيدي، لا أشعر بملمس جلدك، لكن إحساسا بالأمان يسري في عروقي.
عادة ما كنت أنجو من خطر قادم يراه ولا أراه.
يدفعني بيدين قويتين، أقع بجوار حائط وقبل أن أبكي أراه قد طار ومعه طفل آخر، تتجمع النسوة، تتقدم واحدة من الطفل الملقى على الأرض، تتفحصه، في رأسه جرح من حافر الثور الهائج، تتحسس وجهه الأزرق، تناديه، تهزه، لكنه مضى بعيدا، يرتفع الصراخ، تشق أمه جلبابها ويظهر قميصها ولحمها الأبيض.
كان الرجال منشغلين بتقليع البطاطس، وحده الرجل الذي فرَّت بقرته وأبناؤه يقفون بعيدا على حافة المشهد.
ينتبهون لي، تهزني جارة: ماذا حدث؟! أبتلع صوتي وأشير بيدي، بينما ذهولي يخنقني، أنفض ثوبي وأسوي ضفيرتي وأنظر إلى الولد الذي كان يشاكسنا ونحن نستحم في النيل، يأخذ ملابسنا ويصعد بها إلى شجرة الصفصاف، أو يخلع ملابسه متباهيا بعورته، فتخرج البنات مسرعات ولا نتمتع بالسباحة.
يجتمع أهل البلدة وينادون على أبي فيأتي رجل يرتدي ملابس نظيفة، رائحته حلوة وشاله الأبيض لا يفارق كتفه أيا كان لون الجلباب الذي يرتدي، وجهه مستدير وعيناه زرقاوان كلون البحر الذي رأيته فيما بعد وأصبحت لي عشة على شاطئه. يشتري أبي الكفن مع عم الميت وبعد المغرب تقود أمي بكاء النساء. أمي تعرف مواطن الدمع جيدا ولا تخطئ مرة في دربها، تذهب وتغيب على جناح عدودات طويلة:
“يا أرض سَمِي له ساعة ما وقع ..
كَبش الحَصَي بيمينه.
يا أرض سمي عليه ساعة ما وقع..
كَبش الحصي بإيديه”.
ثم تعود ومعها مخزون بئر من الدموع المالحة يحفر مجراه على خدود النساء، فيزداد العويل ويرتفع حماسها:
“لما انتِ عارفه يامه إنك تِعُوزيني..
كنتِ اقفلي الباب وحُوشيني..
لما انتِ عارفه يامه آنا المنعاز…
كنتِ وقَّفيلي على كل باب حراس..”
وبعد العشاء تضع كل واحدة من المعزيات ما تجود به في منديلها، وقبل أن تغادر تقذفه إلى أمي، فتأخذ النقود دون أن تنظر فيها، وترد المنديل إلى صاحبته.
نفس البكائيات كتب عليك أن تردديها بعد ثلاثين عاماً.. في تلك اللحظة كنت في مركز الضوء، وصورة “منير” لا تفارق عينيك، غابت البنت المنزوية التي تنتظر أن تنهي أمها مهمتها، وأصبحت السيدة التي صادقت الموت طويلا حتى تعودت عليه..
جاءني ذات ضحى، الشمس ملتهبة وحارقة، ملابسه متسخة كأنما سقط في بركة أسنة، جلس إلى جواري وحكى لي عن يومه:
- وقع الولد محمد في البركة، مددت له يدي، لكنه جذبني إليه، ظللت أصارعه وهو يعافر، إلى أن أخرجته أمه من الماء.
ساعتها هل تبينت حقيقته؟ هل خفت منه؟ لا.
وجهه الباهت صار قرمزيا وسالت دموعه دافئة وهو يردد:
- سأتوقف عن العمل، أينما ذهبت يغلقون الباب في وجهي، ويستعيذون مني، مللت الحياة، سأرحل وأترك هذه البلدة الخربة.
ربَّت على كتفه وقلت له:
- ما تزعلش.
أحضرت له كوب ماء بسكر ووضعته إلى جانبه.
- إعمل اللي انت عايزه، وأنا هلعب معاك.
اصطحبُ معي أخي “يحيى”.. نستحم في النهر نصطاد الفراشات، نجري في الحقول..أستريح تحت ظل شجرة الجميز، أتحسس جذعها الضخم أحيطها بيدي فلا تكتمل الحلقة حولها، أتطلع إلى فروعها التي تشاكس ضوء الشمس. يسألني:
– هل تودين الصعود؟
أبتسم.
– ماأقدرش.
يمسك بيدي، يتسلقها بمهارة، أصعد خلفه، تمتد فروعها، تتكاثف، تتشابك، وكلما أوغلنا في الصعود تتحور أوراقها، وتتفتح براعمها ثمارا مختلفة: توتا، تينا، رمانا، برتقالا، تفاحا أحمر. يتدلى عنقود عنب كبير، حباته بلورية شفافة، تخرج من كل حبة حورية، يرفرفن حولي، تمسك واحدة بيدي، تكتمل الدائرة، نرقص في ضوء الشمس فيتحول شعرهن الأبيض للون الذهبي، وأتحول إلى فراشة، أرفرف عاليا أحاول الوصول للشمس، تجذبني أكثرهن حكمة، و تقص أجملهن خصلة من شعرها، تعطيها لي، بمجرد لمسي لها تتحول في يدي إلى غزل البنات، أنشغل به، أقربه من فمي فيذوب حلاوة على طرف لساني. ينقضي الوقت وتقترب الشمس من المغيب. تعود الحوريات إلى عنقودهن، أسرع بالهبوط. في طريقي أقطف تفاحةً حمراء أخفيها في جيبي، عندما ننزل تختفي التفاحة ويمتلئ كفي بحبات الجميز. أعود ليحيى الذي يجلس تحت الشجرة، يلعب بالطين يصنع منه عروسة تشبهني، أطلب منه أن يصنع دمية لصديقي، يصدمني بقوله:
– ولد صغير!! قصدك مين؟!
لماذا يتجاهله، ويبتعد عنه، كأنه لا يراه.
… يوم، اثنان، أسبوع، شهر، ثلاثة، سنة.. لم يرتفع صوت، لم يتحرك أبي من مكانه، يهش الذباب عن وجهه، يتشاجر مع أمي: “قل الخزين من القمح وكيزان الذرة والقوالح”. هل الموت هو السبب ؟ أفكر.. عليه أن يكف عن اللعب، ذهبت إليه وقبل أن أتكلم، بادرني:
– لقد مللت هذا اللعب.
وعادت رائحة الطبيخ للبيت.
وبقيت أنا أترقب وصول حفيدتي العائدة من سفر طويل، وقبل أن أكون أنا ما أنا كنت أنتظرها. كم مرَّ من الوقت؟ وأنا أردد ستأتي الساعة التي أتخلص فيها من حساباتي، ومساوماتي، وتجميعي للدقائق والساعات، كي تصنع يوما مناسبا، والتقاطي للحظات الصفاء ووضعها في واجهة أيامي، بضاعة جيدة تخفي ما بداخل القفص من أيام ممجوجة. أجلس تحت شجرة، أسند ظهري لجذعها، أتأمل السحب الصيفية البيضاء التي تتسابق وتتداخل أشكالها.. جبالها، غزلانها، مراعيها وأرانبها الفارة من صياديها، تشد الشمس الغطاء على وجهها، طرحة من الدانتيلا الممتدة، طرفها العلوي فم مفتوح أهتم لعجوز مثلي يستند إلى عكازه ولحيته الشعثة تحمل في طرفها غزالا هاربا، يعترض طريقه جبل، ينطحه بقرونه والجبل يقهقه، وصدى ضحكته تهزني وتخرج من مكامني كل غيلاني وأشباحي وكلابي المسعورة، وتبخ شرورها في وجهي، وتعبث بي قدر ما تستطيع، يدفعني الرعب للجري بأكبر من طاقتي، فأعود أجري وما لي سوى حضن “عائشة”، وحين يستقر وجهي اللاهث بين ثدييها الطيبين، تنتبه الشمس وتتعاطف مع غزالي، فتخترق أشعتها قلب الجبل الصلد وتبدد غيماته، لكن أشعة الشمس التي لا تعرف التمييز، تبدد جسم الغزال أيضا، وتفرق أجزاءه، ترقد رأسه أمام عكاز العجوز الذي يبقي نائيا ووحيدا كما النجوم.
هذا العجوز تُراه أي رفيق من رفاق اللعب عند الساقية؟ ففي ليالي رمضان يتاح للبنت الصغيرة أن تسهر خارج البيت، ويَعِدُ رفاقها “عائشة” أنهم سيعودون بها بعد انتهاء اللعب
_ ما تخافيش يا خاله. مش هنسيب حَسنه ترجع لوحدها.
وبعد إلحاح يقترب من البكاء توافق الأم. في تلك الأيام لم يكن رمضان يأتي إلا صيفا والجرن مليء بالقمح، والبراح لا يحده سوى الغيلان والخوف من الجنيات التي تخرج من النهر لتغوي الرجال، فينسون زوجاتهم وأبناءهم الصغار، ويهيمون على وجوههم بملابسهم المقطعة، ويصبحون مثل “جاد المبروك” الذي يقرص بنات البلد دون أن يجرؤ أحد على أذيته خوفا من “صباح” الجنية التي تخاويه.
نلعب الاستغماية ونتفنن في الاختباء.
في هذه الليلة قررت “حُسنة” أن تختبئ في مكان من فرط قربه لا يتخيله أحد، فاختبأت خلف الساقية المهجورة.
كنت قريبة من الأولاد حتى أن أحدهم لو دقق النظر للمح ألوان جلبابي القطني، كتمت أنفاسي وأنا أضحك من غفلتهم، ولم أظهر حتى وهم يعلنون عجزهم:
- خلاص غلب حمارنا، اظهري بقى.
لكني تماديت وخشيت أن يعرفوا سر مخبئي، وفي حيرتهم اقترح “محمد” ابن عم إسماعيل: يمكن روحت!
– تعالوا نشوفها.
دفعني القلق والخوف من أمي إلى الخروج من مكاني، فما أن أداروا ظهورهم لي حتى صحت وأنا في منتصف الجرن:
– أنا هنا، غلبتكم.
حاولوا معرفة مكان اختبائي، حاولوا معرفة سري، ولكنه بقى طويلا في داخلي، وما دفعني شيء للتخلي عنه، حتى الملل من تكرار نفس الصيحة التي فقدت طزاجتها في فمي: أنا هنا، غلبتكم.
أنتظرها.. يهدهدني كرسيّ الهزاز، الكرسي الذي طالما تمنيته وحلمت به قبل أن أراه. كان الكرسي صغيرا بمقدار جسدي الذي تراكمت عليه السنون، وابتعدت عنه الشحوم، فظل الكرسي مجلسي الأبدي انتظر فيه كل الغائبين.. نتيجة الثانوية العامة لعاطف، خطابات منير من البلاد التي يسافر إليها. فيه أقرأ أول تحقيق صحفي لمنير عن مصيف رأس البر:”..مع الصيف تستيقظ المدينة من سباتها الشتوي وتدب الحياة في آلاف العشش والفيلات والفنادق، وتطوف مواكب الزهور في المدينة التي أطلق عليها العرب جزيرة دمياط. حتى عمَّرها مشايخ الطرق الصوفية احتفالا بمولد الشيخ الجربي..”
اسمه أسفل الريبورتاج بالبنط الصغير وعندما يعود أسأله متى سيكون اسمك بهذا البنط العريض مثل أنيس منصور، أو أحمد بهاء الدين؟
– بعد عشر سنين يا ماما.
تأتي السنوات العشر لكن اسمك مازال كما هو صغيرا منمنما بريئا. أحزاني هي التي تزداد مساحتها، والكرسي مازال يهدهدني، وأنا ملتصقة به، تحيط بي خمسة أعمدة من الخشب الزان يتوجها مسند مقوس لونه بني فاتح. ربما يكون قطعة الأثاث الوحيدة التي نقلتها من مكانها في الصالة الكبيرة إلى حجرة نومي. لكن هل امتلكت هذه الجرأة؟ أن أبدل وأغير في ترتيب السرايا الكبيرة. ما الذي كنت أفكر فيه وأنا أخطو خطواتي الأولي في عالم كل ما فيه فخم وغامق وثقيل ؟ لا شيء سوى تحسس موضع قدمي.. لعلي اشتريت هذا الكرسي من محل للأثاث بشارع “شريف” بالقاهرة في أول زيارة لها مع “فؤاد”.. لا أستطيع التذكر وللـتأكد، الأمر بسيط، أنزل للصالة وأرى إذا كان هناك كرسي آخر أم لا؟! هل أسأل ابنتي “راوية”..؟ لن تجيبني. بل ستصرخ في وجهي: إنت السبب، إنت اللي شجعتيها، فاكرة؟
نعم. ليلة فرح أول أحفادي، العريس عائد من “النمسا” والعروس بيضاء مثل ثلج كروت المعايدة، اللمبات النيون تنير المكان، لأول مرة منذ عاد منير صامتا، تهزني ألحان المزمار. العريس يشبه عمه المسجى دائما في صندوقه، عاد لي يرقص مع عروسه، وأصحابه يحملونه فوق أعناقهم والزفة الدمياطي تشيع البهجة وأنا في وسطهم، يهتز جسدي، أعيش الفرح الذي لن يقام أبداً، أهتز مع إيقاعاتي الداخلية، يتحرك جسدي في مدى أوسع من حدوده، يحيط بي عوض وعاطف، تصفق الأيدي، وتستعجب العيون، تستنكر، الست الكبيرة ماذا جرى لها؟!
وحدها عيناها كانت مشجعة لي ومتعاطفة معي، وارتعاشات خفيفة تسري في ابتسامتها وهي تصفق وتشجعني: الله يا ستو.
تزداد اهتزازات الورود البيضاء على فستانها الأحمر وأنت تقرصينها غيظا وتبتسمين للنساء.
– اثبتي يا حبيبه عيب.
تطير اليمامة من قفصها وتتسرب من يدك إلى وسط الدائرة، وتشتعل حواف الدائرة بالتصفيق، يبتعد أبوها وخالها، ولا يبقى في مركز الكون غير نضارة ابنتك، وترتوي الروح من بهجتها، وتسيل دموعي المكبوتة، تتحرر ابنتك، وتنزوي أحزاني، حتى تكشيرتك المعقودة تغافلك، وتنفك رويدا رويدا، لماذا لا تعترفين بذلك، لو أنك اقتربت من الحفيدة والجدة وانضممت إلينا. لكنك احتفظت دائما بمسافة بيني وبينك، لم اكتشف وجودها إلا متأخرا، بعد أن فقدت القدرة على قفز الحواجز و الأسوار، وبعد أن تعودتِ على التقوقع داخل أسوارك.
وفي الصباح أعلنتيها:
– حبيبة هتروح مدرسة الراهبات الفرنسيسكان بالقاهرة.
مسافة طويلة بين “القاهرة” وبلدتنا القابعة على حدود “المنصورة”.. أبعدتها عني، كما أبعدتني يوم مولدها، وأنا أحاول أن أقرب المسافة السحيقة بيننا وأنتظر يوم وضعك، أمسك يدك وأنت تصرخين: ساعديني يا ماما وأجفف عرقك وأضمك إلى صدري، ادفعي يا راوية، نفس عميق، مرة أخرى، شدي حيلك يا حبيبتي هانِت.
دفعتيني بعيدا عن باب حجرتك وأنت تناولين السائق حقيبتك.
– الولادة قيصرية، الدكتوره معايا، مفيش داعي للزحمه في المستشفى.
ودون سبوع ودقات الهون .. “اسمعي كلام أمك، ما تسمعيش كلام أبوك، اسمعي كلام ستو…” والسبع حبات فول وعدس و”حلقاتك برجلاتك، حلقه دهب في ودناتك”، ورجرجة الغربال الجديد وحرق البخور والشبة، الشرب من قلة العروسة المزركشة بألوان وأوراق زاهية، البيضة المسلوقة الموضوعة فوقها، لأطول الحاضرات عمراً “عقبال الحبايب”، وتوزيع أكياس الملبس وشيكولاته سيما وكوفرتينا، لن أشتري شيكولاته “داللو” فالحظ بها يسد النفس ولن يفرح العيال الذين تجمعوا حولي ..”ما خدتش يا ست، خد يا حبيبي، إدي أخوك”. زغاريد وضحكات وصخب يبتهج له المكان.. بينما يختنق الدور السفلي بتلاوة سعودية، مستعجلة، باكية، قارئ يبدو في بكائه أشبه بالمعددة.
بعيدة أنا عنك، تحيط بك نساء غربان في سوادهن، يقبلنك.
ـ بارك الله فيك يا أختي، بارك الله فيما رزق.
أية سبعينيات قميئة تلك التي أتت بالغربان إلى بيتي.
لكني سأقيم “السبوع” الذي أحب، وأبقي لها كيسين وكروتا..”شيلوني بحنيه، ماما تعبانه فيا”.. “يا سعدك يا هناك يا لي شايل اسمي معاك”.. “ست البنات السكره في اللفه منوره”..
فتفرح بي وتقول: مش هتأخر ياجدتي.
ولو تأخرت، كم ساعة سأنتظر؟ وماذا تعني الساعات أو حتى الأعوام وقد أصبحتُ عجوزا ..أرقد معظم الوقت في سريري، ألتف بشالي الصوفي فوق جلباب من الكتان، مطرز بوردات منمنمة من نفس النسيج، لكنها تلمع أكثر وفي قدمي “مانتوفلي” وردي لا يتناسب مع جو الخريف الذي أتنفسه. أراقب الشجرة التي تتساقط أوراقها. وحيدة بقيت، تتخلص من زينتها وبهرجها. تلتف حول نفسها وتفتح بابها الداخلي وتبحث في جذورها حيث تتخلق الحياة هناك بعيدا في رحمها، تنعش بويضاتها وتبذل ماء حياتها لنبت جديد. تتخلص الأشجار الصغيرة في سنواتها السبع الأولي من لحاها عاما بعد عام وعند تمام النضج تتدثر السيدة العجوز بكل ما لديها، وتراكم حكمة أعوامها وعندما يأتي من يقطعها يمكنه أن يعد حلقاتها ولفاتها ليعرف عمرها.
فهل تبحثين عن تدويرات ولفات أيامك؟
ماذا يفيد؟ وفي المساء حين يتخفف المرء من أعبائه ويصير كما ريشة، كما روح، أجلس وبجواري يجري نهر أيامي، أراقبه وقد تساوت عندي البدايات والنهايات، وصارت كلها تيارا واحدا متجانسا، أغرف منه ما يملأ كفي، فتتساوى مذاقاته، سعادة، وشقاء، وتتناغم قطراته مع صلوات روحي.
لكن، أحقا لم تعودي تهتمين؟!
كنتِ دائما عند حسن ظن الآخرين وتتصرفين بما يتلاءم مع توقعاتهم، ما الذي يملأ الست حُسنة التي صرت إليها بالندم وهي تطل من شرفتها على النهر الساري فترى كل من ضايقها أو أغضبها يأخذهم التيار بعيدا، تنادي عليهم، لا يردون، عيونهم شاخصة إليها، ويمنعها المتبقي من العمر أن تقفز خلفهم وتنضم لركبهم، حتى الأجساد التي لا تعرفها تركن أمام شرفتها، تستريح قليلا في رحلتها، فتأمرين بإخراجها ودفنها في المقبرة التي بنيتها خصيصا لهذا الغرض. ويعودون إليك.
من أجلهم عندما تقدم لي فاطمة طبق تفاح آكل واحدة وأضع الباقي في “الكومودينو” كي أضايفهم رغم أنهم لا يهتمون بالطعام، بل يتكلمون كثيرا، وأحيانا أخلط بين كلامهم فأمد لهم يدي بقطعة حلوي أو حبة برتقال. “راوية” لا تصدقني.. خزعبلات، تخاريف، كوابيس.. اقرئي المعوذتين قبل النوم. لن تريهم ثانية.
أريد أن أراهم؟ لكن لو أنهم يوضحون ماذا يريدون؟
ماذا تريد البنت التي لا تفارقني ليلا، وهي تجري بخطوات أسرع من دقات قلبها، ولا تجرؤ على النظر خلفها، ومع كل خطوة تشعر بأنفاس الكلب على جلدها المترب، تستجمع قواها، وتتقمص روح أحد الأشباح الذين يملؤون المكان، وتمر من جواره دون أن يلمسها نابه، وتسترد روحها عند عتبة البيت.
نجت البنت، لكن مازالت آثار أنيابه تظهر على ساقك.. تصيحين في “حامد” البواب:
– الكلاب، لابد من التخلص منها …
فيرد عليك الرجل الذي عمره من عمرك وربما أكبر قليلا، دون أن يرفع نظره عن الأرض
– ست حُسنه! سلامتك. الكلاب بعناها من زمان.
رغم ذلك مازلت واقفة تنتظرين من يعبر بك الطريق، والكلب مازال قابعا بنابيه وجلده الأسود اللامع كلون المنضدة التي اصطدمت بها عند دخولك السرايا للمرة الأولى. سألت زوجك “فؤاد” عن نوع هذا الخشب البراق أجاب: أبنوس.
ابتسمت ساخرة: شفته قبل كده.
فهل حكيت له الحكاية، وأنت تستيقظين من نومك بجواره فزعة، قبل أن يغرس الكلب نابه في لحمك؟
ربما لم يكن لدينا وقت لهذا الحكي، عن الكلاب التي تظهر للبنات اللاتي يذهبن لشراء الجاز لأمهاتهن، وعندما يعدن يجدنه في انتظارهن لامعا كالأبنوس على الحدود، ولا يعرفن هل يعدن؟ أم يبقين وينتظرن أن يمر أحدهم وينقذهن.
تمر الدقائق والرعب يملؤهن، فيجف ريقهن ويتعلمن معاني جديدة عن الحياة. وفي اللحظة الحاسمة يخاطرن، ويقبضن على زجاجة الجاز، ويعبرن مغمضات العين.
وربما لم أحك له لأن هذا لم يكن يحدث لكل البنات، فقط بنت واحدة يمكن أن تعيش تلك اللحظات، حيث بيتها هو البيت الوحيد البعيد عن العمران والمطل على المقابر.هذه البنت لا يمكن إلا أن تكون أنا “حُسنة الفقي”.
يتبع…