Sunday, January 21, 2007

شيكاغو وما يطلبه المستمعون



د.أيمن محمد الجندي : المصـريـون بتاريخ 14 - 1 - 2007

هذه الرواية صدرت حديثا للكاتب البارع علاء الأسواني تحت اسم "شيكاغو" وتدور حول مجتمع المصريين المبعوثين هناك ..الرواية مشوقة جدا ولكني لا أعرف سر مشكلة أبطالها مع الدين .. تقول ببساطة أن ما ينتشر في مصر ليس تدينا حقيقيا ولكنه اكتئاب نفسي مصحوب بأعراض دينية . هذا قول يشاركه الكثيرون في الاعتقاد بصحته ، فالمظاهر الدينية في مصر لم يقابلها تحسن مماثل في سلوكيات الشارع المصري ، ولكن هذا لا يبرر سقوط كل المتدينين في الرواية على هذا النحو الصارخ الملفت للنظر فكل المتدينين هنا إما عملاء وصوليون أو سلبيون أو متفسخون نفسيا تسيطر عليهم باستمرار هواجس الجنس ..خذ عندك مثلا المبعوثة المصرية إلى شيكاجو لنيل الدكتوراه شيماء محمدي الفتاة المتدينة شبه الريفية التي لا تضع مساحيق وترتدي الثوب الفضفاض والخمار الذي يغطي صدرها تمارس العادة السرية ولا يمنعها الندم بعدها من المعاودة.. ثم هي ترتبط بعلاقة حب مع طارق حسيب وتمنحه جسدها على أمل الزواج به ..ولقد جعلته يردد صيغة اخترعتها بنفسها " تزوجتك يا شيماء على سنة الله ورسوله وسوف اعقد عليك فور وصولنا مصر " وبذلك اطمأنت نفسها ، تلك الطمأنينة التي لم تدم طويلا حينما اكتشفت أنها حامل ليتخلى طارق عنها فتضطر للإجهاض . وهناك تحاول الطبيبة التي تقوم بالإجهاض إقناعها بالمنطق التالي " هل من العدل أن تحرم المرأة من ممارسة مشاعرها مع من تحب ؟ وهل من العدل أن تتحمل المرأة وحدها مسئولية الحمل غير المرغوب فيه ؟ وهل من العدل أن تأتي إلى العالم بطفل لا يرغب فيه احد فنقضي عليه بحياة بائسة قبل أن تبدأ ؟ " أما طارق حسيب شريكها في الفراش فهو يشاهد الأفلام الإباحية وبعد أن يفرغ لذته يصلي بعدها ويستلقي على الفراش على جانبه الأيمن ( !! ) مرددا الدعاء الذي حرص المؤلف على ذكره كاملا " اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك ، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك ..آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت ."....................أما أحمد دنانة ابن قرية الشهدا فحكايته حكاية .. اعتاد مضاجعة الفلاحات الأجيرات ثم إرهاقهن بالفصال بعد أن يقضي وطره ، وهو أيضا طالب فاشل لكنه عميل لمباحث أمن الدولة التي مارست ضغوطا عنيفة على أساتذته لمنحه درجات مرتفعة حتى تم تعيينه معيدا وإرساله للبعثة في أمريكا ليصبح بعدها رئيسا لاتحاد الدارسين المصريين في أمريكا ..يهين زملاءه ويضغط عليهم مستغلا خوفهم منه إذ يكفي تقرير واحد منه لإنهاء بعثة أي طالب.. هذا الوغد دائم الاستشهاد بالقرآن الكريم والأحاديث النبوية .. يبدأ حديثه بذكر الله والصلاة على الرسول ويبرر كل أفعاله المشينة بالإسلام . وحينما يبتز زوجته الغنية فلأن الادخار فضيلة كبيرة حضنا عليها اشرف الخلق المصطفى عليه الصلاة والسلام ( هكذا يقول) . وحينما يضربها فلأن الشرع أباح ذلك..منافق من رأسه حتى قدميه وحجته طبعا أن الفقهاء أجمعوا على وجوب طاعة المسلمين للحاكم حتى لو ظلمهم ما دام ينطق بالشهادتين ويؤدي الصلاة في أوقاتها لان الفتنة المترتبة على مقاومة الحاكم اضر على الأمة بكثير من تحمل الظلم .يزور نتائج البحث العلمي وحينما يكتشف أستاذه ذلك ويحيله لمجلس تأديب يتهمه بالتعصب ضد الإسلام ..ويلجأ متوسلا لمسئول المخابرات لينقذه ولا يتردد في مقابل ذلك أن يسلم زوجته إليه .وأخيرا وليس آخرا الدكتور عبد الفتاح بلبع رئيس قسم الجراحة في عين شمس الرجل المتدين الملتحي الذي لا تفارق السبحة الكهرمان يده يضطهد تلميذه كرم دوس ويتسبب في رسوبه لأنه قبطي ويحرمه من أمله المشروع في أن يكون جراحا حتى يضطره إلى الهجرة من البلاد والسفر لأمريكا حيث يصبح هناك جراح قلب مشهور ...........................وفي المقابل فكل الشخصيات الإيجابية في الرواية غير متدينة ولا تمارس أي شعائر للدين الإسلامي ( وكأنها معجزة أن تجد رجلا شريفا يصلي !!) .. ناجي الشاعر اليساري صاحب المواقف الشجاعة الذي لا يكف عن الدفاع عن سماحة الإسلام وهو يشرب الخمر ( بحجه أنه غير متزمت ولأن فقهاء الدولة العباسية أباحوا الخمر !! ) أو يضاجع يهودية (لأن الصراع العربي الإسرائيلي سياسي وليس دينيا !!) ..وحينما يعلم بزيارة الرئيس أمريكا والتقاؤه بالمبعوثين المصريين يصمم على إصدار بيان يدين الاستبداد ويطالب بإلغاء حالة الطوارئ واستقالة الرئيس وإغلاق ملف التوريث . يرفض المبعوثين المتدينين ( لا بد من الإشارة لذلك) التوقيع على البيان ويهدده مسئول المخابرات باغتصاب أخته لكنه لا يتراجع . أسطورة بقى !!.دكتور كرم دوس القبطي المضطهد يتفاجئ بأستاذه الدكتور بلبع يتوسل إليه لإجراء عملية تغيير شرايين القلب ، هذا الرجل الذي قال له يوما أنت لا تصلح للجراحة يلجأ إليه .. يهم بالرفض ويكتب خطاب الاعتذار لولا أنه نهض فجأة وكأنه تذكر شيئا وركع أمام الصليب مرتلا " أبانا الذي في السموات ، ليس كمشيئتي بل كمشيئتك " وغير الخطاب مرحبا بقدومه بل ومتنازلا عن أجره تقديرا لأستاذه ( نحن نصدق هذا النبل في جيراننا أقباط مصر ولكن أليست لدينا بطولات مماثلة ؟ ) .كرم دوس برغم نجاحه غير المحدود وشهرته العالمية يعرض على جامعة عين شمس إجراء عمليات القلب مجانا شهرا كل عام لمساعدة المرضى الفقراء ونقل التقنيات الحديثة لأطباء مصر ، بل وإنشاء وحدة جراحة حديثة مجانا بالمساعدات الدولية ( عن طريق علاقاته الواسعة ) ولكنهم رفضوا وقالوا أن الفكرة غير قابلة للتنفيذ في الوقت الحالي !!..وبرغم إحباطه فإنه يتبنى مع ناجي فكرة إصدار بيان يحرج الرئيس أثناء زيارته لأمريكا ويبذل في سبيل ذلك قصارى جهده رغم انشغاله الدائم .زينب المناضلة الوطنية التي دفعها حبها للوطن إلى ترك حبيبها المهاجر لأمريكا يسارية النزعة بامتياز تردد أغاني الشيخ إمام ..وفخورة بأنها الوحيدة غير المحجبة وسط خمسين موظفة في وزارة التخطيط كلهن محجبات!!.. وما دامت حاسرة الرأس فهي بالضرورة متنورة ، أليس كذلك؟ أما أفضل شخصية في الرواية بلا منازع فهو جراهام اليساري الأمريكي الذي يرفض العنصرية ويكره الرأسمالية الأمريكية ويقنع بحياة الكفاف من أجل مبادئه ..يحب الأطفال ويعطف على الآخرين ولا يؤمن بالدين الذي هو في - رأيه -اختراع إنساني صنعه الخوف من الطبيعة !!..........................والسؤال المحير هو ألم يشاهد المؤلف أبدا رجلا مسلما متدينا وشريفا أم أن اجتماعهما معجزة ؟ . أنا لا أنكر موهبته وعنايته بالتفاصيل الدقيقة التي هي سمة أدبه ( أنوي كتابة مقال منفصل عن خصائص أسلوبه) ..وأعرف أنه رجل لا يبيع قلمه وغالبا ما تنسجم مواقفه السياسية مع شرفاء هذا الوطن ..ولكن هذا شيء وتلك الصورة غير العادلة التي يقدمها للمتدينين شيء آخر ..هذه السلبيات موجودة ولا ننكر حقه – بل واجبه - في انتقادها ..ولكن أين باقي الصورة ؟ ..أين شرفاء المحروسة ؟ أين الشعب الطيب المتدين بالفطرة من هذه الدراما ؟ .ما أخشاه هو أن الأسواني يقدم للغرب ( الذي احتفى بعمارة يعقوبيان ) ما يريد أن يقرؤه عن الإسلام بالضبط ..لا أتكلم هنا عن مؤامرة أو عمالة ولكن عن شيء آخر دقيق كل الدقة يمكن أن ينساق إليه أي إنسان بدون وعي ..باختصار ما يطلبه المستمعون ..هذا ليس تفتيشا على الضمائر ( وهو أكثر شيء أكرهه ) ولكنه نصيحة محب لا يرضى للكاتب الكبير خسارة مجتمعه العريض من أجل مثقفين جالسين في الحديقة الخلفية لأتيلييه القاهرة يحملون نفس عقلية بعض المتطرفين الإسلاميين ويمارسون نفس الفعل : الاهتمام بالشكل دون الجوهر فكما أن التدين ليس شكلا فالفكر المستنير ليس بدوره الشكل المضاد ، والوسيلة لتنوير المجتمع ليست في نزع الحجاب وإنما ملء الرؤوس بكل ما هو مفيد .وفي كل الأحوال إذا لم تكن ظروفه قد أتاحت له رؤية هؤلاء الشرفاء المتدينين الذين أتكلم عنه فالأمر بسيط وها أنا ذا أقدم له دعوة مفتوحة لتقديم الكثيرين إليه ( هممت أن أكتب أسماءهم علنا !!) لا يفوتون فرضا ولكنهم – ويا للعجب – شرفاء في الوقت نفسه.. أساتذة جامعة في السبعين من عمرهم يعودون من معاملهم في التاسعة مساء لأن وراءهم عملا يجب القيام به ، وقضاة من أولياء الله الصالحين وأطباء يتبرعون بدمائهم ويتنازلون عن أجورهم للفقراء ويعطونهم أيضا من جيبهم الخاص ، وممرضات يستيقظن في السادسة صباحا لإعداد الإفطار لأطفالهن واللحاق بعملهن في مقابل أجر زهيد ، وآباء يقنعون بالكفاف من أجل سلامة أسرهم ..هؤلاء كلهم لم يمنعهم إقامة شعائر الدين من التعامل بوضوح وشرف . صحيح أنهم يخطئون ولكنهم يصححون أخطاءهم باستمرار ويطمحون إلى الأفضل دائما ..تلك هي مصر الحقيقية التي نتمنى أن يكتب عنها كاتبنا الكبير دكتور علاء الأسواني عمله القادم...............................

No comments: