في رثاء المكتبة
عبده وازن الحياة - 01/12/08//
باتت معارض الكتب في العالم العربي ظاهرة لا يمكن تجاهلها ولا التغاضي عن موقعها المتقدّم في الساحة الثقافية العربية. هذه المعارض ينتظرها الناشرون مثلما ينتظرها الكتّاب والقراء بحثاً عن ضالتهم، الناشرون ليسوّقوا كتبهم والكتّاب ليلتقوا جمهورهم والقراء ليطلعوا على العناوين المتوالية سنة تلو أخرى. وبدت المعارض في الآونة الأخيرة كأنها تتنافس على «تلميع» صورها وتوسيع مساحاتها واستقطاب ما أمكن استقطابه من ندوات ولقاءات، وإن كانت بلا جمهور في أحيان كثيرة. أصبح معرض الكتاب في حسبان القراء موعداً سنوياً لشراء الكتب و «التموين» ولمواكبة حركة النشر العربية. فالمعرض يمثل الواجهة الأدبية التي طالما مثلتها المكتبات في الحياة الأدبية العامة.
إلا أن ازدهار هذه المعارض لم يعنِ يوماً ازدهاراً للكتاب ولا للقراءة. فالإحصاءات التي تُعلن مرحلة تلو أخرى، لا تُطمئن كثيراً بل هي تدفع الى حال من اليأس إزاء مستقبل الكتاب والقراءة. وقد تُمثّل ذروة هذا اليأس، ظاهرة إغلاق المكتبات التي تشهدها أخيراً عواصم طالما عرفت بكونها مدناً للمكتبات. قد يكون ازدهار المعارض السنوية المتكاثرة أثّر سلباً في واقع هذه المكتبات بعد أن سحب «البساط» من تحتها، بحسب التعبير الشعبي، وأوقعها في ما يشبه العزلة أو الهامش. لكنّ أفول نجم هذه المكتبات يدل أيضاً على فداحة التراجع الذي أصاب الكتاب وقراءه. واللافت أن كل مكتبة تغلق أبوابها يحل مكانها مطعم أو مقهى أو محل تجاري، ما يجعل «الإغلاق» هذا فعلاً لا عودة عنه أو قدراً مأسوياً.
مكتبات لا تُحصى عمدت أخيراً الى إغلاق أبوابها، واحدة تلو الأخرى، في عواصم عربية لا يمكن تصوّرها بلا مكتبات. مكتبات في الكويت وعمّان ودمشق وبيروت وفلسطين والعراق... لم تبق قادرة على الاستمرار تبعاً لمعاناتها «المادية» البالغة. وآخر هذه المكتبات «مكتبة رأس بيروت» العريقة التي تحتل إحدى زوايا شارع بلس في الحمراء. ستقفل هذه المكتبة أبوابها خلال شهر مودّعة الشارع الذي يمثل ذاكرة بيروت الستينات، بيروت المدينة – المختبر، بيروت مجلة «شعر»، بيروت «الآداب»، بيروت الحداثة... هذه المكتبة مثلها مثل الكثير من المكتبات العريقة لم تكن يوماً «دكاناً» لبيع الكتب، بل كانت أشبه بالملتقى الأدبي اليومي الذي يقصده الكتّاب والقراء ليتناقشوا ويتبادلوا الآراء. شعراء مجلة «شعر» كانوا يلتقون هناك، ورواد الحداثة العربية أيضاً شعراء وروائيين ومسرحيين... سيكون إغلاق هذه المكتبة صدمة ليس لأصدقائها فقط بل لكل من عرفها ودخلها ولو مرة واحدة. قبل أشهر أغلقت مكتبة «الربيعان» في الكويت أبوابها بعدما بلغت خسائرها المادية مبلغها، وكانت من أعرق المكتبات في الكويت والخليج على السواء، يقصدها الزائرون العرب بحثاً عن الجديد والنادر من الكتب. لكنّ الدولة التي لم يهن لها أن ترى المكتبة العريقة مغلقة مدّت لها يد العون وأنقذتها من كبوتها.
تغيب المكتبات في العالم العربي وتحتضر ويتراجع جمهورها متجهاً نحو إغراءات أخرى يحملها العصر الحديث. والظاهرة هذه لا تقتصر على العالم العربي بل تشمل العالم أيضاً. فكم من مكتبات أُغلقت في باريس على سبيل المثل. شارع سان جيرمان الباريسي العريق يفقد مكتباته واحدة تلو الأخرى، والمكتبات «الصامدة» مهددة بالإغلاق تحت سيل الإغراءات المالية. وقد تمثل «المخازن» الكبيرة للكتب التي تجذب أعداداً هائلة من الزائرين يومياً، أبلغ تهديد تتعرّض له المكتبات الصغيرة المنتشرة هنا وهناك. وتفتقر هذه «المخازن» التجارية الكبيرة الى الطابع الثقافي الحميم الذي طالما اتسمت به المكتبات تلك.
وإن كانت المكتبات العامة في أوروبا والغرب عموماً تعوّض انحسار المكتبات الصغيرة فإن المدن العربية لم ترسّخ ظاهرة المكتبات العامة، ولا عرف القراء بدورهم كيف يجعلونها من أماكنهم الأثيرة وكيف يعتادون عليها ويصبحون أعضاء في نواديها. بيروت التي طالما سمّيت مدينة الكتاب لا تزال بلا مكتبة عامة منذ العام 1975 عندما أتت نار الحرب على مكتبتها الشهيرة. هل يمكن تخيل باريس بلا مكتبتها الوطنية؟ هل يمكن تخيل لندن بلا مكتبتها البريطانية الشهيرة؟ وموسكو بلا مكتبة لينين؟ كم من مدن ارتبط اسمها بمكتباتها العامة، القمينة على الإرث الوطني وعلى الحوار والتواصل بين الكتاب والقارئ. أما المكتبات العامة القليلة أصلاً في العالم العربي، فتكاد تكون مجهولة أو شبه مجهولة، وزائروها ليسوا إلا من القلة القليلة التي ما برحت تدمن فعل القراءة.
تزدهر معارض الكتب في العالم العربي وتتنافس وكأنها في سباق محموم على «الأمجاد»، لكنّ المكتبات تنحسر مثل القراء أو تستحيل في أحسن الظروف الى محال لبيع القرطاسية والصحف والمجلات. ما أصعب أن تصبح المكتبة العربية الراهنة «دكاناً» لبيع القرطاسية.