هوامش للكتابة - تغريدة البجعة -1
جابر عصفور الحياة - 27/02/08//
يقال إن البجعة إذا شعرت بدنو أجلها، وانتهاء الوهج الذي يربطها بالحياة، تباعدت واعتزلت القطيع الذي تنتسب إليه، ورحلت بعيداً كي تكون وحيدة تماماً، وأطلقت صوتاً شجياً، يبعث الحزن والأسى، كما لو كانت ترثي نفسها قبل موتها الذي تستهله بهذا النواح الحزين الرجع وقد تحولت «تغريدة البجعة» إلى مجاز أو كناية تستخدم في المواقف الإنسانية المشابهة، ولعل أبرز من استخدم هذا المجاز وأكده في الكتابة العربية حديثاً، هو المفكر زكي نجيب محمود الذي كتب مقالاً مهماً عن «السيرة الذاتية» أطلق عليه عنوان «تغريدة البجعة» وكان يقصد من اختياره العنوان أن السيرة الذاتية هي العمل الإبداعي أو الكتابي الذي يلجأ إليه المبدع أو المفكر، عندما يشعر أن حياته أوشكت على النهاية، وأنه يقف على شاطئ نهر الموت، منتظراً أن يعبره إلى عالم آخر، وحيداً مع الواحد المطلق، وهي لحظة تتشابه دلالتها مع دلالة تغريدة البجعة، خصوصاً حين تشعر «أنا» الكاتب أن عليها استرجاع شريط حياتها بأكمله، على سبيل العزاء، أو التأمل في ما جرى، كما لو كانت «الذات» تنقسم على نفسها، فتغدو فاعل التأمل ومفعوله، في مدى الفعل المعرفي المتعاقب للتذكر أو الاسترجاع وتبدو الذات، على هذا النحو، أشبه بالناظر في المرآة التي هي إياها، قبل أن تنطوي الصفحة الأخيرة، أو المشهد الأخير من حياتها أو حضورها وقد فعل سعيد، بطل مسرحية صلاح عبدالصبور الشعرية، «ليلى والمجنون»، ما يشبه ذلك، حين أسلمته الأحداث المأسوية التي عاناها إلى الجنون الذي أفقده الصلة بالعالم الخارجي الذي ناوشته فيه سهام القمع والخيانة والوحشية من كل جانب، فكانت نهاية سعيد الدمار النفسي الذي دفع به، قبل أن تنطبق عليه تماماً زنزانة الجنون التام الذي يعني الموت المعنوي، إلى كتابة آخر قصيدة له، وكانت مرثية لجيله الذي مات قبل الموت، وانهزم من دون أن يكمل المعركة للنهاية.
وينطبق الأمر على «أيام» طه حسين، قبل صلاح عبدالصبور بجيلين على الأقل، حين قامت الأعاصير التي لم تهدأ، إلى اليوم، حول كتابه «في الشعر الجاهلي» (1926) وانهال عليه التكفير والتهديد من كل جانب، وانتهى به الأمر للمثول أمام النائب العام، فكان الموقف شبيهاً بنهاية حَدِّية لمرحلة هذا الشعور بالنهاية، حتى لو كان ما بعدها بداية مغايرة، هو ما دفع طه حسين إلى نوع مواز من تغريدة البجعة في كتابه «الأيام» الذي كان استرجاعاً للماضي الذي عاناه طه حسين إلى أن وصل إلى النقطة الحاسمة، مفترق الطرق الذي يفضي إما إلى سكة الندامة أو سكة السلامة أو سكة «اللي يروح ما يرجعش».
وسواء كانت «الأيام» تغريدة للبجعة كلياً أو جزئياً، فهي تنطوي على الدلالة المجازية التي ينطوي عليها المجاز نفسه تغريدة البجعة ويمكن أن نضم إلى هذه الدلالة ما يتجانس وإياها من روايات السيرة الذاتية، أو رواية الأجيال، أو الجيل الذي وصل إلى النهاية التي تشبه شاطئ نهر الحياة الذي ليس بعده سوى الموت، فتغدو الرواية شبه مرثية لهذا الجيل الذي ناوشته أعاصير دمار خارجي، ناتج من شروط موضوعية في واقع الضرورة، ومن جرثومة عطب داخلي، انطوى عليها هذا الجيل، تجاوبت عواملها مع العوامل الخارجية إلى أن أوصلت هذا الجيل إلى عمق إحساسه بالهاوية، ووصوله إلى قرارة القرار من المأساة التي توازيها تغريدة البجعة، رمزياً، أو إبداعياً، في نوع الرواية التي تنبني على عمق الإحساس المأسوي بالنهاية التي ليس بعدها بداية.
ولأسباب عدة، فإن هذا الإحساس المأسوي يتجسد في الرواية بالدرجة الأولى، ولا يخلو منه المسرح الذي تعد نماذجه الموازية لتغريدة البجعة أقل من الرواية، أولاً لأن الرواية أكثر قدرة على احتمال التفاصيل الكلية والجزئية التي يستكمل بها مشهد «التغريد» ملامحه وموازياته الرمزية، فضلاً عن تمثيلاته أو لوازمه الواقعية، وثانياً لأن الرواية تنبني بالضرورة على التصوير الحسي الملموس بعيني الخيال للأسباب الداخلية والخارجية التي أدت إلى عمق الإحساس المأسوي بنهاية عالم الأبطال الواقعين تحت مطارق القمع الخارجي، ونقطة الضعف في التكوين الذاتي وثالثاً ربما لأن الرواية وأؤكد ربما تزدهر في الفترات الرمادية من التاريخ، حيث تفضي مرحلة مهزومة إلى أخرى لاحقة، تنطوي على معنى من معاني التيه الذي لا يبين له مخرج، وذلـــك في اللحظة التي يسقط فيها الوعي الروائي ما بين نهاية وبداية، الأولى مدمرة، والثانية لا تحمل بشارة واضحة من ضوء ولا يخلو الأدب الروائي في تعاقب تيارات عصوره الحديثة من هذا النوع من الروايات اتي تتعدد تياراتها الإبداعية وتتنوع أبنيتها الجمالية ولكن بما لا يمنع وأؤكد ما لا يمنع وجود نماذج مماثلة في فن المسرحية التي لا تنبسط أفقياً أو رأسياً، في النهاية، إلى المدى الأكثر اتساعاً وتجاوباً، بين الخارج والداخل، كما يحدث في فن الرواية.
ولم يكن من قبيل المصادفة أن يكتب القاص المصري مكاوي سعيد، في هذا السياق، روايته التي وصل بها إلى درجة لافتة من التميز، أعني رواية «تغريدة البجعة» التي أصدرتها «الدار للنشر والتوزيع» في القاهرة في كانون الثاني (يناير) 2006 التي جاءت بعد رواية «فئران السفينة» المنشورة عن «دار ميريت» القاهرية عام 2004، وبعد ثلاث مجموعات قصصية «الركض وراء الضوء» الصادرة عن «دار النديم» 1981 و «حالة رومانسية» 1991 المنشورة على نفقة الكاتب وبعدها «راكب المقعد الخلفي» عام 2000، وكلها أعمال تؤكد تمرس مكاوي سعيد بكتابة الفن القصصي، كما تمرس في إعداد الأفلام التسجيلية، والروائية المأخوذة عن بعض أعمال نجيب محفوظ تحديداً. وقد تصادف أنه كتب روايته «تغريدة البجعة» في الوقت الذي كان يعد فيلماً تسجيلياً وثائقياً عن أبطال الشوارع، وهو إعداد جعل عدسته الروائية تبدأ من الواقع القاسي الذي ينتج هذه الظاهرة التي تغدو علامة على نهاية مأسوية لأحلام وطن وجيل، يصحو على نهاية مأسوية، كاشفة عن سقوط الأحلام التي خايلته، والأماني التي عاشها عن وطن حر وشعب سعيد. وقد كان هذا، في تقديري، هو الجانب الدافعي الذي انطلقت منه «تغريدة البجعة» تجسيداً لحال من الوعي بالسقوط في مأساة وطن وجيل.
ولعل هذا السبب هو الذي جعل الرواية، بعد اكتمالها ونشرها، تلمس العصب العاري من وعي مجموعات قرائية عدة، خصوصاً من المهتمين بالرواية، فتستقبل الرواية استقبالاً دالاً في حماسته، إلى الدرجة التي دفعت دار النشر التي أصدرتها إلى إصدار طبعة ثانية لها بعد أقل من عام واحد، وصدرت الطبعة الثانية في أيلول (سبتمبر) 2007 ولا يزال الإقبال الحماسي على قراءة الرواية مستمراً، فتقوم لجنة التحكيم لجائزة «بوكر» الــعربية مــهما كان الرأي في بعــض أعضائها، أو اختياراتهــم باخــتيار الرواية ضــمن القــائمة القــصيرة التي تســتحق رواياتها الفوز بالجائزة، فتجاور «تغريدة البجعة» رواية «واحة الغروب» لبهاء طاهر.
وأحسب أن سبب هذه الحماسة المتزايدة للرواية يرجع إلى أنها استفزت، ولا تزال وعي الرفض المتوتر لأجيال متقاربة، ترجع جذورها إلى شرائح الطبقة الوسطى التي أدت التحولات التاريخية إلى تهديدها وتآكلها، ومن ثم وصولها إلى الدرجة التي دفعت رمزي زكي إلى كتابة كتابه المهم «وداعاً للطبقة الوسطى»، وأتصور أن أكثر الأجيال انفعالاً بهذه الرواية، وحضوراً فيها، الجيل الذي ولد في أعقاب ثورة تموز (يوليو) 1952، وتخرج أبناؤه وبناته في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي، وهو الجيل الذي ينتسب إليه مكاوي سعيد المولود عام 1956 الذي تخرج في كلية التجارة عام 1979، أعني الجيل الذي وصل إلى مرحلة النضج والممارسة السياسية خلال سنوات مراحل الدراسة الجامعية في السبعينات التي كانت قد توهجت فيها طليعة هذا الجيل الذي توزعه تياران، أولهما التيار الناصري، وثانيهما التيار الماركسي بفصائله المختلفة التي جمعت ما بين «الأخوة الأعداء» من التروتسكيين والتيار الثوري وحزب العمال والحزب الشيوعي، و8 كانون الثاني وغيرهم... وكان يجمع بين أطياف الناصرية واليسار رفض تراجع السادات، تدريجاً، عن الخط الناصري، والارتماء في أحضان الولايات المتحدة، في موازاة تفاقم حدة الأزمة الاقتصادية الملازمة للتزايد المتصاعد في الهوة بين الطبقات، وصعود طبقة جديدة، طفيلية، مخرِّبة لكل قيم الماضي الإيجابية، فضلاً عن تزايد صور الفساد الحكومي، والإفساد غير الحكومي المدعوم من النظام الجديد للحكم المتحالف معه على نحو أو آخر، وكان ذلك في الفترة التي أخذ فيها السادات يعمل على دعم المجموعات الإسلامية التي صاغها على عينه، لتكون عوناً له في القضاء على المجموعات الناصرية القومية واليسارية الاشتراكية والشيوعية، خصوصاً من أبناء هذا الجيل الذي بدأ نشاطه السياسي بمعارضة السادات، حالماً بتغيير سياساته إلى ما يحقق العدل الاجتماعي، والاستقلال السياسي، وإكمال مهمة إزالة آثار كارثة العام السابع والستين، أقصد هذا الجيل الذي سرعان ما انهالت عليه مطارق الأجهزة القمعية للدولة الساداتية، في موازاة حراب مجموعات الإسلام السياسي في صعودها وتزايد هيمنتها التي لم تتوقف، وهو الجيل الذي تدور حوله رواية مكاوي سعيد التي هي ملحمة جيل السبعينات في انزلاقه من الحلم إلى الكابوس، وسقوطه من أفق الثورة التي انطوى عليها إلى وهاد الضرورة التي انتهى إليها، ماضياً في طريقه المحتوم إلى الكارثة الفردية والجمعية للهزيمة التي دفعت بطليعة هذا الجيل إلى النهاية المأسوية التي انقلب فيها كل شيء رأساً على عقب، وذلك في السياق الذي شهد اغتيال أمثال فرج فودة ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ، كما شهد الإحباط المتزايد الذي التف على مشاعر هذا الجيل ووعيه كالمدارات المغلقة، اليائسة، المقهورة التي تنتهي إلى الجنون والانتحار والموت المبكر كمداً، والأمثلة متاحة في انتحار أمثال أروى صالح وانقصاف أعمار أمثال أحمد عبدالله، ورضوان الكاشف، وإكرام خليل... إلخ، فضلاً عن التغيرات العنيفة التي قلبت بعض هذا الجيل من النقيض إلى النقيض، خالعين عنهم أثواب المقاومة والنضال، استسلاماً ويأساً وعجزاً، أو تبريراً للسقوط، حتى من قبل أن يغتال السادات حلفاؤه من جماعات الإسلام السياسي.
ولكن رواية «تغريدة البجعة» لا تتناول بداية أو نهاية جيل السبعينات الذي تنتسب إليه مع نهاية الحقبة الساداتية فحسب، وإنما تمضي إلى ما بعدها، وتصل إلى السنوات الأخيرة التي تصل ما بين نهايات القرن الماضي وبدايات سنوات القرن الحالي، فنقرأ في فصولها الافتتاحية عن تبلور «حركة كفاية» مع عام 2005 التي آزرت القضاة في مواقفهم المحتجة على النظام القائم، وحركة «شايفنكو» الموازية التي أخذ صوتها يعلو مع عام 2006، وتصل قبل ذلك إلى شهر أيلول عام 2005 الذي احترق فيه عدد من أبناء هذا الجيل المهتمين بالمسرح، نقاداً ومبدعين ومتذوقين، في كارثة مسرح قصر ثقافة بني سويف الشهيرة التي كانت، ولا تزال، تجسيداً موجعاً للكوابيس التي يعانيها هذا الجيل، ونعانيه معه نحن الذين ننتسب إلى الجيلين السابق واللاحق.
وظني أن التقاط عدسة «تغريدة البجعة» مشهد احتراق بعض طليعة هذا الجيل، في مسرح قصر ثقافة بني سويف، المشؤوم، كان تركيزاً على الدلالة التي اقترنت بالنهاية المأسوية لأشباه الأبطال الذين تصور هذه الرواية مسيرتهم المحبطة المحاصرة بالقمع بكل ألوانه منذ البداية، أعني النهاية المأسوية لأبطال «تغريدة البجعة» الذين تصورهم الرواية كما لو كان مقدوراً عليهم السقوط منذ البداية ولا أدل على ذلك من نهايات الأبطال والأجيال سواء في علاقات حبهم المحكوم عليها بالدمار سلفاً، أو في علاقتهم بالواقع الذي يغتالهم بتحوله الكلي عنهم مثل يوسف حلمي أو مطاردتهم بقمعه الوحشي، الذي ينقلب بهم من النقيض إلى النقيض، فيتحول أحمد الحلو، المناضل الشيوعي تحولاً جذرياً، مع حبيبته شاهيناز المتطرفة في أصوليتها الماركسية التي تنتهي وحبيبها الزعيم إلى اتجاه إسلامي متطرف، كما لو كانت الأصولية الشيوعية لا تنقلب إلا إلى أصولية موازية في القوة، ومناقضة في الاتجاه وينتهي مصير البطل مصطفى وأقرانه إلى الجنون أو الدمار أو الهجرة التي تبدو كالخلاص من اليأس، إلى آخر ما نراه من الفضاء الروائي الذي لا نرى فيه سوى ما يؤدي إلى السقوط في قاع اليأس الذي يلازم حال «تغريدة البجعة»، ويؤدي إلى تأكد مغزى هذا الحال ضياع قيم التحرر الوطني، واستكمال سيطرته على أرضه، واستقلال حريته، فلم تعد مصر للمصريين، بل لغير أبنائها ولا أدل على ذلك من شعور البطل مصطفى أن الوطن الذي كان ينادي بتحريره من الاستعمار الإسرائيلي، قد تحول إلى وطن للغزاة الأجانب من كل حدب وصوب، في زمن الاستعمار الجديد والعولمة، وذلك إلى الدرجة التي تدفع البطل، مصطفى، إلى القول:
«في الأيام الأخيرة بالذات بدأت أشعر بهم يحيطون بي في كل مكان وبدأت أحلم بهم أسير في شوارع وسط البلد التي أحفظها جيداً وفي منطقة الهرم التي ولدت بها وفي حي الحسين الذي أعشقه، فلا أجد أحداً أمامي غير الأجانب، أذني تلتقط لغات مختلفة ليست اللغة العربية من بينها دائماً، يقابلونني وجهاً لوجه بجواري لا أحد، وخلفي لا أحد وهم صفوف كثيفة على مرمى البصر».
هذه الصــورة الدالة للحضور الطاغي المهيمن للأجانب الذين انتزعوا وســـط البلد، أو قلبها من المصـــريين، هي نموذج تمثيلي لإحساس البطل بالمكان الذي ينتمي إليه، وهي صـــورة تـــوازي إحساسه بالزمان الذي يعيشه على هذا المكان، حيث يشعر أن كل ساعة ممكنة من الساعات الجـــميلة هي ســـاعة منتزعة مسروقة من الزمن الغادر الذي يعيشه، ساعة لا يمكن إلا أن تذكــره بأن ما يأتي بعدها هو الساعات التي تقترب به من يوم الـــدينونة الذي ينتهي فيه كل ما حلم به، بل الحياة نفسها، فلا يبقى له سوى تغريدة البجعة.
No comments:
Post a Comment