Monday, July 23, 2007

عن السيرة الذاتية لمفكر أمين



بقلم محمد البرغوثي المصري اليوم : ٢٣/٧/٢٠٠٧
«ستة أشخاص ملأوا حياتي بالبهجة»
لم أندهش وأنا أقرأ هذه الجملة في مقدمة كتاب «ماذا علمتني الحياة؟» للدكتور جلال أمين، أستاذ الاقتصاد المرموق والكاتب الكبير، الذي يمتلك قدرة فائقة علي تناول أعقد الموضوعات السياسية والاقتصادية والفكرية بأسلوب شديد البساطة.
«ماذا علمتني الحياة؟».. كتاب عن السيرة الذاتية لمفكر مصري، عاش حياة طويلة حافلة بالأحداث العامة والخاصة، بدأ في تدوين فصوله قبل عشرين عاماً، ثم أصدره مؤخراً عن دار الشروق في مجلد يقع في حوالي ٤٠٠ صفحة من القطع الكبير، لا يمكنك - كقارئ - أن تملك نفسك من اللهاث عبر سطوره وصفحاته وفصوله، وأنت تتابع تطور حياة المصريين، من خلال حياة أسرة تعد نموذجاً مثالياً للطبقة المتوسطة المصرية، بكل ضعفها وقوتها، ومن خلال راصد موهوب،
امتلك ثقافة رفيعة، وعقلاً راجحاً، وشخصية قوية، منحته ميزة أن يتحدث أو يكتب، فإذا بما يقوله أو يكتبه، هو ذاته الذي كنت تشعر به أو تتمني أن تعبر عنه بهذه البساطة المذهلة، وإذا الذي كان مستعصياً علي الإدراك، يصبح في متناول فهم وإدراك أقل الناس ثقافة.
يبدأ الدكتور جلال أمين سيرته الرائعة بحكايتين، تحمل كل منهما مغزي عظيماً، الحكاية الأولي أنه قرأ مرة قولاً منسوباً لنحات مشهور، مؤداه أنه كان يفرح فرحاً عظيماً، عندما يصادف كتلة كبيرة من الحجر، «إذ كان بمجرد أن يراها يتصور التمثال الذي يمكن أن يستخرجه منها.. كان يتصور قطعة الحجر، وكأنها تحتوي في أحشائها علي هذا التمثال الكامن في خياله، وأن كل المطلوب منه أن يقتطع بمعوله قطعة صغيرة من الحجر، بعد أخري ويلقي بها جانباً، لكي يخرج هذا التمثال الرائع الكامن في جوفها».
ثم يقول جلال أمين: لو كان هذا التصور يعبر عن الحقيقة، لكان معناه أن النحات لا يصنع شيئاً في الحقيقة.. بل هو فقط يستبعد بعض الأشياء.. يستغني عن غير الضروري منها، ويستبقي فقط ما يستحق البقاء. ويخرج جلال أمين من هذه الحكاية بأن تمثالاً جميلاً يكمن في حياة كل منا، والمطلوب فقط هو الكشف عنه.
الحكاية الثانية أنه شاهد منذ سنوات كثيرة فيلماً بولندياً صامتاً، لا يزيد طوله علي عشر دقائق، وظلت قصته تعاوده من وقت لآخر، والفيلم يبدأ بمنظر بحر واسع، يخرج منه رجلان بكامل ملابسهما، ويحملان معاً دولاباً عتيقاً ضخماً، ويسير الرجلان في اتجاه الشاطئ، يحملان هذا الدولاب بمشقة كبيرة، حتي يصلا إلي البر في حالة إعياء شديد، ثم يبدآن في التجول في أنحاء المدينة، فإذا أرادا ركوب الترام حاولا صعود السلم بالدولاب،
وسط زحام الركاب وصيحات الاحتجاج، ولا يحتوي الفيلم بعد ذلك إلا علي محاولات مستميتة للاستمرار في الحياة، وهما يحملان هذا الدولاب الثقيل، إلي أن ينتهي بهما الأمر بالعودة إلي البحر، ومعهما أيضاً هذا الدولاب الضخم.
ويقول جلال أمين، مستخلصاً الحكمة من هذا الفيلم، إنه يتصور أن حاله وحال من يعرف، «وكأن كلا منا يحمل دولابه الثقيل، يأتي معه إلي الدنيا ويقضي حياته حاملاً إياه، دون أن تكون لديه أي فرصة للتخلص منه، ثم يموت وهو يحمله».
وهكذا، دون أدني ادعاد يؤكد مفكر مرموق، بحجم وموهبة وثقافة جلال أمين: إن هذا الدولاب هو قدر كل منا المحتوم، الذي يحكم تصرفاتنا ومشاعرنا واختياراتنا أو ما نظن أنها اختياراتنا. فأنا لم أختر أبي وأمي أو نوع العائلة التي نشأت بها أو عدد إخوتي وموقعي بينهم،
ولم أختر طولي أو قصري ولا درجة وسامتي أو دمامتي، أو مواطن القوة والضعف في جسمي وعقلي. كل هذا علي أن أحمله أينما ذهبت، وليس لدي أي أمل في التخلص منه.
ورغم هذه «الحتمية» التي يوحي جلال أمين لقارئ سيرته، أنها خلاصة ما تعلمه من الحياة، فإن القارئ سيصادف في كتابه، أرفع ما يمكن لإنسان أن يفعله بكتلة حجر تصادف أنها حياته، لكي يكشف عن جمال التمثال الكامن بداخلها، كما سيصادف إمكانية العودة إلي الرحم الذي جاء منه، دون أن يراكم في دولابه الثقيل شيئاً من الادعاء، أو شيئاً من العظمة الزائفة، وهذا بالضبط هو سر الاحترام والمهابة اللذين يتمتع بهما جلال أمين كإنسان ومفكر.

1 comment:

جسر الى الحياة said...

كتاباتك عن قراءاتك يا ابراهيم عاملة زى شباك على دنيا مختلفة الاستاذ جلال امين ده عمرى ما فكرت اقرا له حاجة بس تصدق قراءة السير الذاتية من الاشياء المفضلة عندى وساضيفه الى قراءاتى المستقبلية ان شاء الله شكرا يا هيما على الاضافة