جائزة نازك الملائكة!
بقلم : أحمد عبدالمعطي حجازي
أهرام الأربعاء 27 / 6
أشعر بالحزن والألم لأننا لم نحتفل بنازك الملائكة يوم دخلت مصر منذ أكثر من عشرة أعوام في غفلة عنالتقضي فيها بقية أيامها, ولأننا لم نودع نازك الملائكة حين رحلت قبل أيام عن دنيانا, لأنها آثرت أن تعيش أيامها الأخيرة في عزلة عن العالم لا يصلها به إلا ولدها البار الذي لم نكن نراه إلا حين يصدر لها كتاب يحمل لنا نسخة منه ثم يغيب فلا نستطيع أن نتصل بها أو نتابع أخبارها.ولقد كانت مصر لنازك الملائكة وطنا روحيا ارتبطت به منذ فتحت عينيها علي الدنيا, فرأت بلدا عربيا يضج بحياة جديدة كانت بالنسبة للبلاد الأخري حلما من الأحلام.ومع أن الشعر كان دائما فنا حيا في العراق, فقد وجدت نازك الملائكة نفسها أكثر في شعر الرومانتيكيين المصريين, الذين عاصرت بداياتهم كقارئة, إذ ولدت في أوائل العشرينيات من القرن الماضي في عائلة بغدادية مثقفة, ومعني هذا أنها كانت قادرة علي قراءة الشعر وتذوقه في أواسط الثلاثينيات, أي في السنوات التي تشكلت فيها جماعة أبوللو في مصر, وظهرت مجلتها التي استطاعت في عمرها القصير أن تمنح الشعر العربي حياة جديدة بما قدمته علي صفحاتها من أشعار وأفكار جديدة, وبقدرتها علي تحقيق التواصل بين الشعراء العرب بعضهم وبعض, وبين هؤلاء وقرائهم, كانت تنشر لمطران وأبي شادي وناجي والهمشري ومحمود حسن إسماعيل وسواهم من المصريين, كما تنشر لإيليا أبي ماضي وأبي القاسم الشابي ومحمد مهدي الجواهري والتيجاني يوسف بشير وسواهم من شعراء الأقطار الأخري, وفي شعر نازك أثر قوي من شعر المهجريين اللبنانيين والرومانتيكيين المصريين, خاصة علي محمود طه الذي ظهر ديوانه الأول الملاح التائه ونازك في نحو الثانية عشرة من عمرها.من الطبيعي إذن أن تكون القصيدة الأولي التي قدمت بها نازك نفسها لقراء الشعر وللحركة الشعرية العربية عامة, هي قصيدتها الكوليرا التي عبرت فيها عن حزنها العميق لما أصاب مصر من شرور هذا الوباء الذي داهمها عام1947, فراح ضحيته آلاف المصريين:يا شبح الهيضة ما أبقيتلا شئ سوي أحزان الموتالموت! الموت! الموت!يا مصر شعوري مزقه ما فعل الموت!لو كانت لدينا حركة نقدية يقظة مسئولة مؤهلة لجعلت هذا العام ـ الذي تحل فيه الذكري الستون لظهور قصيدة الكوليرا وهي القصيدة التي تعتبرها نازك الملائكة بداية لحركة الشعر الحر ـ عام مراجعة وتقويم وتأصيل لما قدمه رواد التجديد من العراقيين وغير العراقيين وخاصة نازك الملائكة وبدر شاكر السياب, الذي صدر ديوانه الأول كذلك أزهار ذابلة في العام الذي ظهرت فيه قصيدة نازك, لكن معظم المتهمين اليوم بالنقد ليسوا نقادا, خاصة حين يكون عليهم أن يقفوا أمام الشعر وقفة صادقة ينفذون فيه الي داخله, ويفسرون أبنيته المعنوية والايقاعية, ويكشفون عن الروابط الظاهرة والخفية التي تشد هذه الأبنية بعضها الي بعض في قصيدة واحدة.النقاد الحقيقيون لا مكان لهم في حياتنا الأدبية, والمتهمون بالنقد مشغولون بغير النقد, وغير الأدب!وعواطف نازك تجاه مصر ليست عواطفها وحدها, بل هي عواطف بغداد كلها كما تقول في قصيدتها عن الوحدة العربية:واستفاقت بغداد نشوي تغنيوهي تسقي ورود أجمل فجرخفقت في سمائها راية الوحدة,يا للحلم الجميل النضرقلبها, قلبها المشوق إلي مصر طويلا,قد ضم تربة مصرلكن مصر في شعر نازك ليست مجرد موضوع, وليست مجرد مناسبة, وإنما هي وطن روحي كما قلت, أو بالأحري ثقافة ولغة, لغة تتواصل بها نازك مع واقع تحلم به ولا تدرك منه شيئا, واقع يفلت من يدها ويفر لأنها هي التي تصنعه بأحلامها التي لا تتحقق, انه يوتوبيا الضائعة كما تقول في قصيدتها التي تحمل هذا الاسم, أو هو الغد الذي تبحث عنه في قصيدة أخري.يداك للمس النجومونسج الغيوميداك لجمع الظلالوتشييد يوتوبيا في الرمال!ونحن نقرأ أشعار نازك الأولي, التي نظمتها في أواسط الأربعينيات ونشرتها متأخرة في أوائل الستينيات, ومنها المطولة التي سمتها مأساة الحياة والمطولة الأخري التي سمتها أغنية للإنسان, نجد فيها من لغة الشعراء الرومانتيكيين المصريين أكثر بكثير مما نجد من لغة الشعراء العراقيين, الذين لم يشاركوا إلا قليلا في الحركة الرومانتيكية. المعجم, والأوزان والموضوعات مستلهمة كلها من شعراء أبوللو. والمساحة لا تتسع لمقارنات في المفردات المستعملة, لكن الموضوع الذي تدور حوله قصائد نازك الأولي هو الموضوع الذي تدور حوله بصورة أو بأخري قصائد المصريين, خاصة علي محمود طه ومحمد عبدالمعطي الهمشري, وهو أن الحياة التي نعيشها مأساة نهرب منها الي الحلم, أو الي الطبيعة, أو الي النشوة الحسية أو الروحية, والوزن الذي استخدمته نازك في قصائدها الأولي وظلت تحن إليه في قصائدها التالية هو وزن الخفيف الذي نظم فيه شاعر الجندول عددا كبيرا من قصائده, ونظم فيه الهمشري ملحمته شاطئ الأعراف, ويكفي أن نقارن بين قصيدة علي محمود طه غرفة الشاعر وقصيدة نازك مأساة الشاعر, لنري أثر الأولي في هذه الأخيرة.غير أن نازك التي قرأت الرومانتيكيين المصريين والمهجريين, قرأت الرومانتيكيين الانجليز وخرجت من هؤلاء جميعا بلغة جديدة هي لغة نازك الملائكة, التي نظمت بها معظم قصائدها ولعبت بها دورها الرائد في حركة التجديد.فماذا صنعنا نحن لنازك؟لقد تصرفنا معها كأننا لا نعرفها, وفي مؤتمر الشعر الذي عقدناه في فبراير الماضي تمنيت أن تكون نازك أول من يفوز بجائزة المؤتمر, وعبرت عن هذا الرأي بالقدر الذي كان متاحا, لكن الذين انفردوا بتشكيل لجنة التحكيم وجهوا اللجنة ووجهوا الجائزة وجهة أخري.ومع هذا فقد حصلت نازك علي جائزتها الكبري, حصلت عليها يوم كتبت أول قصيدة, ويوم كتبت آخر قصيدة, ويوم دعت الي الشعر الجديد, فاستجاب الناس للدعوة, وظهر جيل جديد من الشعراء, وحل الشعر الجديد محل الشعر القديم!
No comments:
Post a Comment