عن الأدب ولندن والأستاذ أسامة!
لماذا لا يقرأون أدبنا؟!
كتب بـهــاء طــاهر ــ العربي الناصري 28/4:
كان لابد أن أقول كل شيء فى عشر دقائق لا أكثر! وعندما عرضت مشكلتى على صديقى العزيز الشاعر الدكتور نصار عبدالله قال أنا أفهمك تماما وحكى لى واقعة من مخزون معارفه اللانهائى: أن رئيس وزراء بريطانيا الأشهر تشيرشل أرسل برقية مطولة إلى أحد قادته العسكريين فى أثناء الحرب العالمية الثانية، وأنهاها باعتذار قال فيه لم يكن عندى وقت لكى أكتب بإيجاز!. أما أنا فكان على أن أصبح أمهر من تشيرشل نفسه وأنا أقصد بلده. فقد دعانى المجلس الثقافى البريطانى لكى أتحدث فى ندوة فى معرض لندن للكتاب فى الأسبوع الماضى عن أهمية الترجمة فى مد الجسور بين الثقافات المختلفة، وعن دور الأدب العربى المترجم فى هذا المجال، وعن تجربتى الخاصة مع الترجمة. وكنت أشارك فى هذه الندوة مع الروائية المصرية أهداف سويف التى تكتب بالإنجليزية مباشرة وتحظى بالشهرة هنا وهناك والمستعربة البريطانية وأستاذة الأدب العربى بجامعة سانت أندروز كاثرين كابام ويدير الندوة الدكتور صبرى حافظ الناقد المعروف وأستاذ الأدب العربى بجامعة لندن، على ألا يتجاوز كل منا تلك الدقائق المحددة بصرامة حديدية لنترك مجالا للنقاش والتعقيب من جمهور الندوة، وهم من الناشرين الإنجليز والدوليين. كان الموضوع يستحق العناء من وجهة نظرى. فقد ظل يدهشنى فى سنوات إقامتى فى أوروبا ما كنت ألاحظه حين أدخل المكتبات وأراجع الأرفف التى تعرض الأدب العربى المترجم. اعتدت فى كل مرة وفى كل بلد أن أجد فى تلك الأرفف أعمالا لكتاب وكاتبات لا يكاد يعرفهم أحد فى مصر، وعندما أبحث عن كتب لطه حسين أو توفيق الحكيم أو يوسف إدريس أو يحيى حقى أو غيرهم من أعلام أدبنا فإنى لا أجد شيئا. حتى نجيب محفوظ نادرا ما كنت أجد له كتابا مترجما فى المكتبات قبل حصوله على جائزة نوبل. وكنت دائما ما أتساءل عن السر فى هذه الاختيارات المنحازة للكتب المترجمة من أدبنا المصرى على قلة ما يترجمونه منه. حاولت تلمس الإجابة عن هذا السؤال وغيره من الأسئلة المطروحة بذلك الايجاز الصعب. وبما أن الصحافة ليست أكثر تسامحا من الإنجليز الذين نظموا الندوة فى مسألة اتاحة الحيز للكتاب فسأعرض هنا ما قلته هناك آملا أن تتاح الفرصة لشرح أوفى. وقد بدأت بما تعنيه الترجمة بالنسبة لى. فعندما بدأت فى مطلع الشباب قراءة الأدب الروسى الكلاسيكى العظيم كان يحيرنى ما هو الساموفار؟ وكان ذكره يتردد كثيرا فى القصص عندما يصرخ أحدهم فاريا. الساموفار! ولم يهتم المترجمون أن يفسروا لنا أنه نوع روسى من غلايات الشاى تاركين لنا أن نفهم هذا من سياق القصة. والغريب أن هذا الساموفار الغامض وكلمات روسية أخرى مثل الكفاس أو تغيير اسم الشخصية فجأة من مجرد تانيا إلى الاسم الطويل والغريب الوقع ناتيانا الكسيفنا جريجور يفيتش، كل ذلك كان يضيف إلى سحر قراءة هذا الأدب ولا ينقص منه، كان يساعدنى على أن أتأقلم دون وعى مع عالم مختلف تماما وغريب عما ألفته، وعلى محاولة فهم هذا العالم وأن أتقبل فى النهاية فكرة الاختلاف الثقافى. والحقيقة أن كل قارئ لأدب أجنبى عن ثقافته الخاصة يمر بهذه العملية من التأقلم، وهى عملية مثمرة للغاية، إذ يمكن أن تساعدنا على أن نفهم بعضنا البعض وأن نتعاطف مع إخواننا وأخواتنا فى البشرية فى كل مكان. وبالنسبة لى مثلا فإن أشخاصا مثل هاملت أو الإخوة كارامازوف أو مدام بوفارى قد أصبحوا أصدقاء أقرب إلى الحياة من كثير من البشر الذين أصادفهم، والفضل فى ذلك يرجع للمؤلفين العظام ولمن ترجموهم إلى لغتنا. فإذا ما انتقلت من ذلك إلى الأدب العربى والمصرى بالتحديد فيمكن أن أقول إن عملية التأقلم والقبول هذه فى الغرب مازالت تحبو فى بداياتها الأولى لأنه لكى يصبح أى أدب فى العالم جسرا حقيقا بين الثقافات فيجب أولا ترجمة الأعمال التى لها قيمة أدبية حقيقية فى نطاق هذا الأدب وأن تكون معبرة عن التيار الرئيسى فى ثقافة البلد، وهو ما يعنى بالضرورة أنها تعكس صورة حقيقية لهذا البلد ولأهاليه. واختيار الأعمال الممثلة للثقافة الحقيقية بهذا المعنى مسئولية يشترك فيها المترجم والناشر. ولكن لسوء الحظ فإن هذه المعايير تتم التضحية بها فى كثير جدا من الأحيان عند ترجمة أدبنا لصالح أعمال تعزز الفكرة النمطية والساذجة القائلة إن الشرق هو الشرق، والغرب هو الغرب، وإنهما لا يلتقيان أبدا. وقد ظلت معظم الأعمال المترجمة عن الأدب المصرى قبل حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل، وحتى بعد حصوله عليها، هى تلك الروايات التى تركز على محنة المرأة المصرية، ومساوئ الحكم الاستبدادى، وما يوصف بالفساد الشرقى! وكل هذه بطبيعة الحال مشاكل لا يمكن لأى كاتب جدير باسمه أن يتجاهلها، لكن الأدب الحقيقى يتناول هذه المشاكل وغيرها فى سياق أعم وبرؤية أعمق لهموم المجتمع لا تحصره فى هذه الزوايا الآحادية الجانب، ويكفى أن نقرأ كيف يتم الترويج لتلك الأعمال شبه الدعائية المترجمة لفهم ما أعنيه. فهم يعلنون عنها بعبارات من قبيل دراما جريئة!.. شابة مصرية تناضل من أجل حريتها ضد أب طاغية فى مجتمع يسيطر عليه الرجال! أو تراجيديا سياسية مذهلة فى قاهرة الستينيات التى يسيطر عليها الإرهاب! وما إلى ذلك من شعارات محفوظة وممجوجة. ومن الواضح أن تلك الإعلانات موجهة إلى جمهور ما يسمى كتب أفضل المبيعات الشعبية الخفيفة ولكى تجتذب أيضا من تستهويهم تأكيد فكرتهم عن الشرق الغرائبى المتخلف. لكن مثل هذه الإعلانات والأعمال التى تروج لها يستحيل أن تساهم بأى قدر فى مد جسر حقيقى بين الثقافات. وقد طلب إلى أيضا أن أتكلم عن تجربتى الخاصة مع الترجمة. وهى تجربة محدودة فى الترجمة إلى الإنجليزية. إذ ترجمت اثنتين من رواياتى هما خالتى صفية والدير فى الولايات المتحدة عام 1996 وهى من الروايات العربية النادرة التى عرضها بحماس الملحق الأدبى الشهير لصحيفة نيويورك تايمز مشبها إياها بالمآسى الإغريقية! أما الرواية الثانية الحب فى المنفى فقد أصدرتها دار نشر الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام 2001 وهى تتناول موضوعا اكتشف من مناقشاتى وتجربتى مع عدد من الناشرين الأجانب أنه يعتبر من المحرمات فى الترجمة والنشر وأعنى قضية فلسطين ومجزرة صابرا وشاتيلا. وقد حظيت كلتا الروايتين باستقبال طيب من الجمهور المصرى عند نشرهما بالعربية، ومازالتا تصدران فى طبعات متعاقبة بالعربية، لكن ذلك لا يحدث بالنسبة للترجمتين! ولا أستطيع أن أقول بأمانة إنهما قد ساعدتا على بناء ذلك الجسر المنشود بين الثقافتين. ويصدق هذا الحكم أيضا على أعمال أكثر الكتاب موهبة فى مصر من جيلى والجيل الذى تلاه. ولابد من وجود تفسير لذلك. أذكر أنى اشتركت فى ندوة مع عدد من الناشرين الألمان الذين زاروا القاهرة، أثيرت خلالها مسألة الأدب العربى المترجم، وحكى ناشر ألمانى عن تجربة خاصة. قال إنه أصدر ترجمة لرائعة نجيب محفوظ زقاق المدق فوزعت على مدى سنوات سبعمائة نسخة، ثم حدث بعد ذلك أن حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل فوزع فى أسبوع واحد عشرة آلاف نسخة من الترجمة نفسها، وبدا لى أن هذه القصة تدل على أن توزيع الأدب العربى الجاد وقراءته فى الغرب بحاجة إلى حدث فى ضخامة الهرم الأكبر مثل الفوز بجائزة نوبل!.. أما البديل لذلك فهو الاستجابة لتوقعات قطاع معين من الجمهور يريد أن يقرأ عن الشرق الغرائبى ليؤكد تصوراته المسبقة عن اضطهاد الحريم ووحشية الرجال.. إلخ. على أن الوقت لم يتح لى مع الأسف هناك، ولن يتاح هنا، لأتحدث عن دلالة هذه الأمور كلها. وكان أكثر ما أسعدنى فى المناقشات التى أعقبت الندوة تعليق ناشر إنجليزى هو بيل سوينسون الذى وافق على معظم ما ذهبت إليه وركز على المسئولية الأدبية للناشر فى تغيير هذا الوضع لبناء جسور حقيقية وتفاهم أصدق بين الشرق والغرب. على أن زهرة واحدة لا تصنع الربيع، وطالما استمر الوضع الراهن الذى تقتصر فيه ترجمة الأدب العربى الحقيقى على دور نشر صغيرة ومحدودة الجمهور، وتصدر فيها هذه الأعمال فلا تلقى شيئا من الاهتمام الإعلامى أو النقدى هناك للتعريف بها أو ترويجها لدى جمهور القراء الواسع، طالما استمر ذلك فسيظل مصير الأدب العربى الحقيقى مثل مصير زقاق المدق قبل نوبل محفوظ رغم كل قيمتها الأدبية فى ذاتها والتى لم تضف إليها الجائزة شيئا!. لا تقلدوا لندن! أتاحت لى هذه الندوة رغم كل شيء فرصة أن أرى لندن بعد غياب سنوات طويلة. وأدهشنى أنها مازالت جميلة وأنها تزداد جمالا! لم تمتد معاول الهدم إلى مبانيها القديمة التى تميز طابع المدينة وبصمتها. مازالت مساحات الخضرة الشاسعة فى حدائقها الجميلة باقية لم تمس، بل يضاف إليها ولا يقتطع منها. وأقترح أن نبعث للإنجليز ببعض خبرائنا لتعليمهم الطريقة المثلى لتنمية الثروة العقارية بإزالة المبانى القديمة واجتثاث الخضرة، فأنا أرى حولى الآن فى الحى الذى أسكنه عملية هدم تجرى على قدم وساق لإزالة الفيلات الصغيرة والحدائق التى كانت تحيط بها بعد أن صدر قانون عصرى يبيح ذلك الهدم. وما أكثر الأشياء التى قارنت فيها بين ما يحدث هنا وهناك. فقد لفت نظرى أن المرور فى وسط المدينة أكثر انسيابا وأقل تكدسا مما رأيته فى زيارتى السابقة. وشرح لى أولو العلم أن أزمة التكدس انتهت منذ أن صدر قانون يفرض على أصحاب السيارات الخاصة دفع رسم خاص لدخول وسط البلد فى أوقات العمل الرسمية قدره ثمانية جنيهات إسترلينية حوالى مائة جنيه مصرى فإذا تأخر الدفع يوما واحدا تتضاعف الغرامة إلى ما يتجاوز الألف جنيه، وخُصصت حصيلة هذه الرسوم لتحسين المواصلات العامة فى وسط البلد، فتضاعف عدد الأتوبيسات بحيث لم يعد أحد يشعر بالحاجة إلى استعمال سيارته الخاصة فى أوقات العمل إلا للضرورة القصوى. وتخيلت ما يمكن أن يحدث عندنا لو أخذنا بمثل هذا النظام. تخيلت الاستثناءات التى ستحدث للمواكب، ولسيارات الكبار وملحقيهم من الصغار، وتخيلت ما سيحدث لحصيلة الرسوم، فدعوت الله فى سرى ألا يصل خبر هذا التنظيم إلى أسماع المسئولين عندنا!. وكان من حظى أيضا فى هذه الزيارة القصيرة للندن أن شاهدت المسرحية الأولى التى كتبها تنيسى وليامز لعبة الحيوانات الزجاجية والتى قدمناها فى البرنامج الثانى بالإذاعة فى سالف الزمان. لعبت دور البطولة فى هذا العرض اللندنى الرائع الممثلة الأمريكية الشهيرة جيسيكا لانج، فمازالت لندن عاصمة عالمية للمسرح يقصدها عشاق هذا الفن الجميل من الجمهور والفنانين. ومن عجيب أمر الإنجليز أنهم قدموا مسرحية تنيس وليامز كما كتبها الرجل تماما، دون إعداد درامى أو رؤية دراماتورجية عصرية، لذا لزم أن ألفت نظر المسئولين عن هيئة المسرح وفنانينا المسرحيين إلى هذا الخطأ الذى يقع فيه الإنجليز باحترامهم النصوص، كما كتبها أصحابها عسى أن يوفدون من عندنا دراماتورجا لتدراكه!. لا.. يا أستاذ أسامة! لو صح ما نشرته الصحف منسوبا إلى صديقى وكاتبى المفضل الأستاذ أسامة أنور عكاشة لكان لى أن أحاوره مطولا. فقد نشرت صحيفة المصرى اليوم يوم الأربعاء الماضى على لسانه أنه قال فى ندوة بنقابة الصحفيين انسوا القومية العربية.. خلاص بح كذا!! مؤكدا أن العرب طول تاريخهم لم يتحدوا والاتحاد كان بين المسلمين فقط. وأضاف: جميع الدول العربية تكره مصر لذا علينا الحفاظ عليها والابتعاد بها عن العرب الذين أصبحوا أشد خطرا عليها من الغرب! انتهى النص ولم تنته حيرتى!. ولن أقدم الآن دفاعا عن القومية العربية على غرار ما فعله ساطع الحصرى أو جمال عبدالناصر مثلا.. تغير الزمان! لكنى أريد أن أسأل صديقى: لماذا يكون الالتزام بالقومية حلالا لكل أقوام فى الأرض وحراما على العرب وحدهم؟ هو يعرف أن نهضة أوروبا مثلا نشأت بظهور الدول القومية وأن الألمان والإيطاليين وغيرهم خاضوا حروبا لتحقيق وحدتهم القومية. لماذا؟ لأن الدول القومية أقدر على تحقيق مصالح شعوبها والدفاع عن نفسها، أمام القوميات الأخرى. ومن هنا فقد رأينا فى قرننا الحالى ألمانيا تناضل دون كلل حتى توحد شرقها مع غربها، تواصل الصين معركتها لاسترداد تايوان. وقبل ذلك كله ألم يكن كفاح تشى جيفارا منذ بدئه وحتى مماته دفاعا عن القومية اللاتينية فى أمريكا؟ هكذا قرأت على الأقل. وهل حقا يكرهنا العرب أكثر من الغرب؟ ألا تكرهنا إسرائيل أكثر مجتمعين دون تفريق؟ ألا تتعامل معنا كقومية؟. إننى أعرف عن يقين مدى وطنية الأستاذ أسامة وغيرته الصادقة على مصر، ولكنى أظن أيضا أننا ما لم نتصرف أمام هذا الخطر الداهم متحدين أو متضامنين أو متعاونين أو أيا ما شئت، فسنتحول لا قدر له إلى أوطان سليبة.. واحدا بعد الآخر، وما حرب لبنان والاحتلال المستمر للجولان عنا ببعيد.. ليتنا نتناقش!.