Tuesday, August 28, 2007

التحديق في الموت

التحديق في الموت - 3
جابر عصفور الحياة - 29/08/07//
لا غرابة في أن يقترن حلم الانبعاث بنقيضه، في دورة الفصول، أو ثنائية الحياة التي تنتصر على الموت، في سياق جدارية محمود درويش التي يؤدي فيها التحديق في الموت، على المستوى الرمزي، إلى الحضور المتكرر لأسطورة البعث، ويحدث ذلك حين يبرز جلجامش، أولاً، قريناً لانتصار الحياة على الموت، حيث التوازي الدال بين عبوره ماء الموت سالماً، والإبداع الذي ينتصر على الموت، في مدى المشابهة التي لا تدنس بطرفيها إلى حال من الاتحاد، لكن التي لا تمنع تجاوب الدلالة بين ولادة القصيدة وانبعاث آلهة الولادة الجديدة، خصوصاً حين ينحل لغز الموت بواسطة إبداع الأنا التي تغدو شبيهة أوديب الذي قهر الوحش بحل اللغز، وشبيهة إنكيدو الذي صار أكثر حزناً لأنه صار أكثر معرفة، وكان ذلك بعد أن أدرك أن «قمة الإنسان الهاوية»، وأن الهاوية بداية الصعود.
هكذا، يتحول سقوط الوحش في إنكيدو، بفعل غواية شمخت، إلى قيامة للإنسان، فيزداد حزن الأنا الشاعرة التي تتقمص جلجامش، وتنطق باسمه، لأنها لم تفهم إنكيدو الكامن وراء الوحش، فتتوجّه بالخطاب إليه:
ظلمتُك حينما قاومت فيكَ الوحشَ
بامرأةٍ سقتكَ حليبَها، فأنِسْتَ
واستسلمتَ للبشريّ. إنكيدو، ترفّق
بي، وعُدْ من حيث مُتَّ، لعلّنا
نجد الجوابَ، فمن أنا وحدي؟
وعندئذ تنطبق صورة إنكيدو على جلجامش الذي اتحد مع صديقه الذي فقده، فصار إياه، مؤكداً ذلك بقوله:
كلما ازداد علمي
تعاظم هَمِّي.
هكذا، نصل إلى إلهة الخصب «عناة» (Anate) الإلهة الأثيرة في جدارية محمود درويش الشاعر، والأقرب إلى قلبه. فهي الحضور المتكرر، في الأساطير الأوغاريتية، لكل من الإلهة «إنانا» السومرية، و «عشتار» البابلية، و «إيزيس» الفرعونية، و «أفروديت» اليونانية، فهي المخلّصة من الموت، في الشعيرة الطقسية التي يتحد فيها صاحب الجدارية بالإله «بعل»، خصوصاً حين تقوم حبيبته «عناة» برده من الموت إلى الحياة التي يعيد إليها، بدوره، الخصب والنماء، فينهمر المطر، وتتجدد الطبيعة التي تصبح خضراء بلون القصيدة. وهو الطقس الذي يجعل من «عناة» الرمز المقترن بقوة الحب (الذي ينطوي عليه الإبداع بالضرورة) التي تُحرِّر عابر نهر الموت من قبضة الموت الممتدة، وتعيده إلى شاطئ الحياة، والحضور الخلاّق المفعم بعافية الصحة والإبداع، ولذلك يتوجه الصوت الماثل في الجدارية إلى ربّته الأثيرة «عناة» بالابتهالة التالية:
فغنِّي يا إلهتي الأثيرة، يا عناةُ
قصيدتي الأولى عن التكوين ثانية
فقد يجد الرواة شهادة الميلاد
للصفصاف في حجر خريفي، وقد يجدُ
الرعاةُ البئر في أعماق أغنية، وقد
تأتي الحياةُ فجاءةً للعازفين عن
المعاني من جناح فراشة علقت
بقافية، فغنِّي يا إلهتي الأثيرة
يا عناة، أنا الطير والسهام.
ويمكن أن نُعقِّب على هذه الأسطر بأن «عناة» تتحد مع قوة الإبداع ومعجزته، فكما نجحت «عناة» في تحرير «بعل» من إله الموت، وأعادته إلى الحياة، يغدو حضورها الموازي الشعائري للقصيدة الخضراء التي تعيد بسر إبداعها (المجسِّد لإبداع الفنون جميعها) الشاعر من منتصف نهر الموت، حاملاً شهادة الميلاد الجديدة للأشياء والكائنات، وأهم من ذلك قصيدته الأولى في التكوين ثانية التي يطلق عليها اسم «جدارية محمود درويش» التي يؤبّد بها وفيها المعركة الأزلية بين الإبداع والموت، في جدلية الحضور والغياب، أقصد إلى الجدلية التي لا تكتفي فيها الجدارية بأمثال العنقاء وجلجامش وإنكيدو، بل تضيف إليهم - في مدى تجاوب علاقات حضور الدوال وغيابها - أوزيريس الذي يرتبط اكتمال عودته، بواسطة إيزيس، بعودة الخصب والنماء، مع فيضان النيل، في المدى الذي يتجاوب فيه أوزيريس مع الأنا الشاعرة:
قال طيف هامشيّ: «كان أوزيريس
مثلك، كان مثلي. وابن مريم
كان مثلك، كان مثلي. بيد أن
الجرح في الوقت المناسب يوجع
العدم المريض، ويرفع الموت المؤقتَ
فكرةً...».
والجمع بين أوزيريس والمسيح، في هذا السياق، يؤدي إلى تجاوب الدلالة المكررة لعودة الخصب بعد الجدب مع أوزيريس، أو إمكان إعادة الموتى، كما فعل المسيح مع إليعازر الذي أعاده إلى الحياة، ليس بالدلالة السلبية التي انطوت عليها قصيدة خليل حاوي «لعازر 1962» وإنما بالدلالة الإيجابية التي تتجاوب فيها قيامة إليعازر وبعث أوزيريس، بعد أن جمعت إيزيس أشلاءه وردَّته إلى الحياة؛ وذلك في سياق نوعي، يغدو فيه الإله الأسطوري كالنبي في الإشارة إلى التجليات المتعددة لسحر العودة إلى الحياة، حيث ترتوي الأرض بالمطر، وتزهر شقائق النعمان وغيرها من أنواع الزهر، ويفيض النيل، لكن أوزيريس والمسيح، فضلاً عن جلجامش وإنكيدو وعشتار وإيزيس، لا يتكررون مثلما تتكرر الربة الأثيرة، عناة، خصوصاً حين نقرأ:
كلما يمَّمت وجهي شطر آلهتي
هنالك، في بلاد الأرجوان أضاءني
قمر تُطوِّقهُ، عناةُ، عناةُ سِّيدَةُ
الكناية في الحكاية، لم تكن تبكي على
أحد، ولكن من مفاتنها بكت:
«هل كل هذا السحر لي وحدي
أما من شاعر عندي
يقاسمني فراغ التخْتِ في مجدي
ويقطف من سياج أنوثتي
ما فاض من وردي؟!».
وكلام عناة أغنية مغوية، شبيهة، في جانب منها، بغناء حوريات البحر أو السيرينيّات (Sirans) اللائي كان سحر صوتهن يقود البحارة إلى موت محتوم. فأعانت سيرسيه أوديسيوس على النجاة منهن بسد أذنيه بالشمع الذي حال بينه وسماع صوتهن الساحر الذي يفضي بسامعه إلى حتفه، وهي أشبه - في جانبها الموازي - بصوت كالبيسو التي أغوت أوديسيوس بالعيش معها على جزيرة تحطمت عندها سفينته، فبقي عندها لسبع سنوات، ولذلك يجمع صوت عناة، في تجاوب دواله، ما بين سحر صوت السيرينيات والجمال الآسر الذي احتجز أوديسيوس وبحارته لسبع سنوات، قبل أن يرحل عائداً إلى إيثاكا، حيث بنيلوبي التي ظلت تنتظره، كأنه الأمل الذي تحقق للمرأة التي تصفها الجدارية بأنها:
... مَنْ غزلت قميص الصوف
وانتظرت أمام الباب.
والسطران يتجاوبان مع بقية الأغنية المغوية لعناة التي تمضي في أغنيتها التي لا يحول بين الشاعر وسماعها حاجز شمعي، إذ تتكسر الحواجز، وترهف الأذن السمع إلى بقية سحر الأغنية:
«أما من شاعر يغوي
حليب الليل في نهدي؟
أنا الأولى
أنا الأُخرى
وحدِّي زاد عن حدِّي
وبعدي تركض الغزلان في الكلمات
لا قبلي... ولا بعدي».
ولا تشير الأسطر الأخيرة إلى الطاقة الإبداعية التي يولِّدها حضور عناة فحسب، بل تشير إلى الليل الذي لا تفارق رمزيته ولادة الإبداع، شأنه شأن حليب النهد الذي يرتبط بالخصوبة التي يتدفق معها الإبداع في الكلمات التي تركض في الغزلان، أو العكس.
وأتصور أن الإشارة إلى أوديسيوس، على نحو غير مباشر في هذا السياق، هي التي قادت إلى ذكر «هوميروس» الشاعر الذي يتعلم منه الصوت الناطق، في الجدارية، التوجه بالابتهال إلى ربة الشعر، كي تعلِّمه الشعر، وتسمح له بالتجوال في أنحاء الملحمة القديمة في حيلة من حيل المجاز المرسل، كي يستعيد ملامح عكا «أقدم المدن القديمة»، التي تقف أبيّة وبهيّة في وجه الزمن:
حجرية يتحرك الأحياء والأموات
في صلصالها كخلية النحل السجين.
في المدى الذي يزوّج ظبياً شارداً لغزالة (حيث نسترجع دلالة الغزلان الراكضة في الكلمات) ويفتح أبواب الكنيسة للحمام (كي نستعيد جناحي الحمامة البيضاء اللذين ارتحلا بالوعي المخدّر إلى الغياب في مطلع الجدارية) حيث ينفجر في الأنا نبع الشعر الذي يعود بها إلى درب المسيح ثانية، لكن المسيح ابن الإنسان، هذه المرة، وليس ابن الإله:
ومثلما سار المسيح على البحيرة
سرتُ في رؤياي. لكنني نزلت عن
الصليب لأنني أخشى العُلُوَّ ولا
أبشّر بالقيامة. لم أغيّر غير إيقاعي
لأسمع صوت قلبي واضحاً.
ويقترن نفي النبوة، في هذا السياق، أولاً، بتأكيد الانقطاع عن المراحل السابقة التي كان صوت الشاعر يتحد فيها بصوت النبي، في الدرب الذي راده بدر شاكر السياب في قصيدة «المسيح بعد الصلب». وهي القصيدة التي تبدو الجدارية في جانب منها، كما لو كانت تعارضها، ويحدث ذلك عندما تولّي القصيدة الجديدة وجهها عن المسيح الذي يتحد فيه اللاهوت بالناسوت، مؤكدة حضور الإنسان الذي يمتلك حريته، معلناً بأوضح بيان:
لست أنا النبي لأدّعي وحياً
وأعلن أن هاويتي صعودي.
ولا يتعارض وصف الشاعر بالغريب، في هذا السياق، مع الرؤيا التي تتداخل فيها العوامل والعناصر والأزمنة، ويتبادل الماضي والحاضر والمستقبل الوضع والمكانة في مدى رؤيا الشاعر في لحظة الغياب:
... حيث تنحلّ العناصر والمشاعر. لا
أرى جسدي هناك، ولا أحس
بعنفوان الموت، أو بحياتي الأولى
ولا غرابة، عبر هذا المدى، أن يرى الشاعر قرينه الشاعر الفرنسي «رينيه شار» جالساً مع فيلسوف الظواهر هايدغر على بعد مترين منه، يشربان النبيذ ولا يبحثان عن الشعر، تأكيدا للمفارقة، أو يرى المعرِّي يطرد نقَّاده من قصيدته، صارخاً:
لست أعمى
لأبصر ما تبصرون
فإن البصيرة نورٌ يؤدي إلى
عدم أو جنون.
ولا غرابة، أخيراً، في ألاّ تفارق غربة الأنا المبدعة، في الجدارية، صفات الإنسان الممزق بين الأضداد، قرين الضعف حيناً، والحيرة حيناً ثانياً، والتخبط في الأسئلة التي تظل بلا أجوبة أخيراً، لكنه، على رغم ذلك كله، مُصّر على حريته، ماضٍ في عزيمته التي تصنع بإرادته الحرة قصيدته التي تتجسد بها هذه الإرادة، مقاومة لا تكف عن مصارعة العدم وترويض الزمن، حتى في مدى توحدها الذي هو تجسيد لرغبتها في الصعود إلى التل، حيث نسمة الحياة العفية، المتأبّية على الموت، كي تمضي الأنا إلى ما وراء التل، حيث ينبوع الإبداع الذي تتوجه إليه القصيدة بحصانها الشموس:
فاصمد يا حصاني. لم نعد في الريح مختلفين
أنت فتوتي. وأنا خيالك فانتصب
ألفاً، وصكَّ البرق. حُكَّ بحافر
الشهوات أوعية الصدى. واصعد
تَجدَّدْ. وانتصب ألفاً، ولا تسقط عن
السفح الأخير كراية مهجورة في
الأبجدية. لم نعد في الريح مختلفين
أنت تعلّتي وأنا مجازك خارج الركب
المروَّض كالمصائر. فاندفع واحفر زماني
في مكاني يا حصاني. فالمكان هو
الطريق، ولا طريق على الطريق سواك.

No comments: