Wednesday, July 14, 2010

استقالة ملك الموت

صـفــاء النَّــجــــــــار


الفصل الأول

مازلت أترقب وصولها، وأستمهل الموت الذي يرفرف بجناحيه خارج نافذتي.. أرهف سمعي لخطواتها، أتشمم رائحتها، وعيناي محدقتان نحو الباب، ومع كل طرفة أختلس النظر إليه.
لم أره منذ زمن، فكأنه قادم من سفر بعيد، على معطفه الأسود بعض قشات عالقة، ورائحة مطر مبكر تشبع الهواء، ويبدو أن جدوله اليوم لم يكن مثقلاً بالأعمال بما يسمح له بالتريث.. لكن من يستضيف الموت أو يقدم له كوب شاي؟!
لا أجد ما أعبر به عن امتناني له سوى أن تزيح ابنتي الستائر أكثر، وأن تفتح النافذة كي أخبره أن انتظاره لن يطول فهي الآن قادمة عبر الحديقة، وواثقة أنا أنها حين تطل بوجهها، وأتنفس هواءها سيبتعد عن إطار النافذة ويتركنا دون رقيب.
آه أيها الموت كم أنت رقيق.

ليست المرة الأولى التي تنتظرني فيها.. في الأيام البعيدة، كنت تعبر بي الشارع، تمسك بيدي، لا أشعر بملمس جلدك، لكن إحساسا بالأمان يسري في عروقي.
عادة ما كنت أنجو من خطر قادم يراه ولا أراه.
يدفعني بيدين قويتين، أقع بجوار حائط وقبل أن أبكي أراه قد طار ومعه طفل آخر، تتجمع النسوة، تتقدم واحدة من الطفل الملقى على الأرض، تتفحصه، في رأسه جرح من حافر الثور الهائج، تتحسس وجهه الأزرق، تناديه، تهزه، لكنه مضى بعيدا، يرتفع الصراخ، تشق أمه جلبابها ويظهر قميصها ولحمها الأبيض.
كان الرجال منشغلين بتقليع البطاطس، وحده الرجل الذي فرَّت بقرته وأبناؤه يقفون بعيدا على حافة المشهد.
ينتبهون لي، تهزني جارة: ماذا حدث؟! أبتلع صوتي وأشير بيدي، بينما ذهولي يخنقني، أنفض ثوبي وأسوي ضفيرتي وأنظر إلى الولد الذي كان يشاكسنا ونحن نستحم في النيل، يأخذ ملابسنا ويصعد بها إلى شجرة الصفصاف، أو يخلع ملابسه متباهيا بعورته، فتخرج البنات مسرعات ولا نتمتع بالسباحة.
يجتمع أهل البلدة وينادون على أبي فيأتي رجل يرتدي ملابس نظيفة، رائحته حلوة وشاله الأبيض لا يفارق كتفه أيا كان لون الجلباب الذي يرتدي، وجهه مستدير وعيناه زرقاوان كلون البحر الذي رأيته فيما بعد وأصبحت لي عشة على شاطئه. يشتري أبي الكفن مع عم الميت وبعد المغرب تقود أمي بكاء النساء. أمي تعرف مواطن الدمع جيدا ولا تخطئ مرة في دربها، تذهب وتغيب على جناح عدودات طويلة:
“يا أرض سَمِي له ساعة ما وقع ..
كَبش الحَصَي بيمينه.
يا أرض سمي عليه ساعة ما وقع..
كَبش الحصي بإيديه”.
ثم تعود ومعها مخزون بئر من الدموع المالحة يحفر مجراه على خدود النساء، فيزداد العويل ويرتفع حماسها:
“لما انتِ عارفه يامه إنك تِعُوزيني..
كنتِ اقفلي الباب وحُوشيني..
لما انتِ عارفه يامه آنا المنعاز…
كنتِ وقَّفيلي على كل باب حراس..”
وبعد العشاء تضع كل واحدة من المعزيات ما تجود به في منديلها، وقبل أن تغادر تقذفه إلى أمي، فتأخذ النقود دون أن تنظر فيها، وترد المنديل إلى صاحبته.

نفس البكائيات كتب عليك أن تردديها بعد ثلاثين عاماً.. في تلك اللحظة كنت في مركز الضوء، وصورة “منير” لا تفارق عينيك، غابت البنت المنزوية التي تنتظر أن تنهي أمها مهمتها، وأصبحت السيدة التي صادقت الموت طويلا حتى تعودت عليه..

جاءني ذات ضحى، الشمس ملتهبة وحارقة، ملابسه متسخة كأنما سقط في بركة أسنة، جلس إلى جواري وحكى لي عن يومه:
- وقع الولد محمد في البركة، مددت له يدي، لكنه جذبني إليه، ظللت أصارعه وهو يعافر، إلى أن أخرجته أمه من الماء.
ساعتها هل تبينت حقيقته؟ هل خفت منه؟ لا.
وجهه الباهت صار قرمزيا وسالت دموعه دافئة وهو يردد:
- سأتوقف عن العمل، أينما ذهبت يغلقون الباب في وجهي، ويستعيذون مني، مللت الحياة، سأرحل وأترك هذه البلدة الخربة.
ربَّت على كتفه وقلت له:
- ما تزعلش.
أحضرت له كوب ماء بسكر ووضعته إلى جانبه.
- إعمل اللي انت عايزه، وأنا هلعب معاك.
اصطحبُ معي أخي “يحيى”.. نستحم في النهر نصطاد الفراشات، نجري في الحقول..أستريح تحت ظل شجرة الجميز، أتحسس جذعها الضخم أحيطها بيدي فلا تكتمل الحلقة حولها، أتطلع إلى فروعها التي تشاكس ضوء الشمس. يسألني:
– هل تودين الصعود؟
أبتسم.
– ماأقدرش.
يمسك بيدي، يتسلقها بمهارة، أصعد خلفه، تمتد فروعها، تتكاثف، تتشابك، وكلما أوغلنا في الصعود تتحور أوراقها، وتتفتح براعمها ثمارا مختلفة: توتا، تينا، رمانا، برتقالا، تفاحا أحمر. يتدلى عنقود عنب كبير، حباته بلورية شفافة، تخرج من كل حبة حورية، يرفرفن حولي، تمسك واحدة بيدي، تكتمل الدائرة، نرقص في ضوء الشمس فيتحول شعرهن الأبيض للون الذهبي، وأتحول إلى فراشة، أرفرف عاليا أحاول الوصول للشمس، تجذبني أكثرهن حكمة، و تقص أجملهن خصلة من شعرها، تعطيها لي، بمجرد لمسي لها تتحول في يدي إلى غزل البنات، أنشغل به، أقربه من فمي فيذوب حلاوة على طرف لساني. ينقضي الوقت وتقترب الشمس من المغيب. تعود الحوريات إلى عنقودهن، أسرع بالهبوط. في طريقي أقطف تفاحةً حمراء أخفيها في جيبي، عندما ننزل تختفي التفاحة ويمتلئ كفي بحبات الجميز. أعود ليحيى الذي يجلس تحت الشجرة، يلعب بالطين يصنع منه عروسة تشبهني، أطلب منه أن يصنع دمية لصديقي، يصدمني بقوله:
– ولد صغير!! قصدك مين؟!
لماذا يتجاهله، ويبتعد عنه، كأنه لا يراه.
… يوم، اثنان، أسبوع، شهر، ثلاثة، سنة.. لم يرتفع صوت، لم يتحرك أبي من مكانه، يهش الذباب عن وجهه، يتشاجر مع أمي: “قل الخزين من القمح وكيزان الذرة والقوالح”. هل الموت هو السبب ؟ أفكر.. عليه أن يكف عن اللعب، ذهبت إليه وقبل أن أتكلم، بادرني:
– لقد مللت هذا اللعب.
وعادت رائحة الطبيخ للبيت.
وبقيت أنا أترقب وصول حفيدتي العائدة من سفر طويل، وقبل أن أكون أنا ما أنا كنت أنتظرها. كم مرَّ من الوقت؟ وأنا أردد ستأتي الساعة التي أتخلص فيها من حساباتي، ومساوماتي، وتجميعي للدقائق والساعات، كي تصنع يوما مناسبا، والتقاطي للحظات الصفاء ووضعها في واجهة أيامي، بضاعة جيدة تخفي ما بداخل القفص من أيام ممجوجة. أجلس تحت شجرة، أسند ظهري لجذعها، أتأمل السحب الصيفية البيضاء التي تتسابق وتتداخل أشكالها.. جبالها، غزلانها، مراعيها وأرانبها الفارة من صياديها، تشد الشمس الغطاء على وجهها، طرحة من الدانتيلا الممتدة، طرفها العلوي فم مفتوح أهتم لعجوز مثلي يستند إلى عكازه ولحيته الشعثة تحمل في طرفها غزالا هاربا، يعترض طريقه جبل، ينطحه بقرونه والجبل يقهقه، وصدى ضحكته تهزني وتخرج من مكامني كل غيلاني وأشباحي وكلابي المسعورة، وتبخ شرورها في وجهي، وتعبث بي قدر ما تستطيع، يدفعني الرعب للجري بأكبر من طاقتي، فأعود أجري وما لي سوى حضن “عائشة”، وحين يستقر وجهي اللاهث بين ثدييها الطيبين، تنتبه الشمس وتتعاطف مع غزالي، فتخترق أشعتها قلب الجبل الصلد وتبدد غيماته، لكن أشعة الشمس التي لا تعرف التمييز، تبدد جسم الغزال أيضا، وتفرق أجزاءه، ترقد رأسه أمام عكاز العجوز الذي يبقي نائيا ووحيدا كما النجوم.
هذا العجوز تُراه أي رفيق من رفاق اللعب عند الساقية؟ ففي ليالي رمضان يتاح للبنت الصغيرة أن تسهر خارج البيت، ويَعِدُ رفاقها “عائشة” أنهم سيعودون بها بعد انتهاء اللعب
_ ما تخافيش يا خاله. مش هنسيب حَسنه ترجع لوحدها.
وبعد إلحاح يقترب من البكاء توافق الأم. في تلك الأيام لم يكن رمضان يأتي إلا صيفا والجرن مليء بالقمح، والبراح لا يحده سوى الغيلان والخوف من الجنيات التي تخرج من النهر لتغوي الرجال، فينسون زوجاتهم وأبناءهم الصغار، ويهيمون على وجوههم بملابسهم المقطعة، ويصبحون مثل “جاد المبروك” الذي يقرص بنات البلد دون أن يجرؤ أحد على أذيته خوفا من “صباح” الجنية التي تخاويه.
نلعب الاستغماية ونتفنن في الاختباء.
في هذه الليلة قررت “حُسنة” أن تختبئ في مكان من فرط قربه لا يتخيله أحد، فاختبأت خلف الساقية المهجورة.
كنت قريبة من الأولاد حتى أن أحدهم لو دقق النظر للمح ألوان جلبابي القطني، كتمت أنفاسي وأنا أضحك من غفلتهم، ولم أظهر حتى وهم يعلنون عجزهم:
- خلاص غلب حمارنا، اظهري بقى.
لكني تماديت وخشيت أن يعرفوا سر مخبئي، وفي حيرتهم اقترح “محمد” ابن عم إسماعيل: يمكن روحت!
– تعالوا نشوفها.
دفعني القلق والخوف من أمي إلى الخروج من مكاني، فما أن أداروا ظهورهم لي حتى صحت وأنا في منتصف الجرن:
– أنا هنا، غلبتكم.
حاولوا معرفة مكان اختبائي، حاولوا معرفة سري، ولكنه بقى طويلا في داخلي، وما دفعني شيء للتخلي عنه، حتى الملل من تكرار نفس الصيحة التي فقدت طزاجتها في فمي: أنا هنا، غلبتكم.
أنتظرها.. يهدهدني كرسيّ الهزاز، الكرسي الذي طالما تمنيته وحلمت به قبل أن أراه. كان الكرسي صغيرا بمقدار جسدي الذي تراكمت عليه السنون، وابتعدت عنه الشحوم، فظل الكرسي مجلسي الأبدي انتظر فيه كل الغائبين.. نتيجة الثانوية العامة لعاطف، خطابات منير من البلاد التي يسافر إليها. فيه أقرأ أول تحقيق صحفي لمنير عن مصيف رأس البر:”..مع الصيف تستيقظ المدينة من سباتها الشتوي وتدب الحياة في آلاف العشش والفيلات والفنادق، وتطوف مواكب الزهور في المدينة التي أطلق عليها العرب جزيرة دمياط. حتى عمَّرها مشايخ الطرق الصوفية احتفالا بمولد الشيخ الجربي..”
اسمه أسفل الريبورتاج بالبنط الصغير وعندما يعود أسأله متى سيكون اسمك بهذا البنط العريض مثل أنيس منصور، أو أحمد بهاء الدين؟
– بعد عشر سنين يا ماما.

تأتي السنوات العشر لكن اسمك مازال كما هو صغيرا منمنما بريئا. أحزاني هي التي تزداد مساحتها، والكرسي مازال يهدهدني، وأنا ملتصقة به، تحيط بي خمسة أعمدة من الخشب الزان يتوجها مسند مقوس لونه بني فاتح. ربما يكون قطعة الأثاث الوحيدة التي نقلتها من مكانها في الصالة الكبيرة إلى حجرة نومي. لكن هل امتلكت هذه الجرأة؟ أن أبدل وأغير في ترتيب السرايا الكبيرة. ما الذي كنت أفكر فيه وأنا أخطو خطواتي الأولي في عالم كل ما فيه فخم وغامق وثقيل ؟ لا شيء سوى تحسس موضع قدمي.. لعلي اشتريت هذا الكرسي من محل للأثاث بشارع “شريف” بالقاهرة في أول زيارة لها مع “فؤاد”.. لا أستطيع التذكر وللـتأكد، الأمر بسيط، أنزل للصالة وأرى إذا كان هناك كرسي آخر أم لا؟! هل أسأل ابنتي “راوية”..؟ لن تجيبني. بل ستصرخ في وجهي: إنت السبب، إنت اللي شجعتيها، فاكرة؟
نعم. ليلة فرح أول أحفادي، العريس عائد من “النمسا” والعروس بيضاء مثل ثلج كروت المعايدة، اللمبات النيون تنير المكان، لأول مرة منذ عاد منير صامتا، تهزني ألحان المزمار. العريس يشبه عمه المسجى دائما في صندوقه، عاد لي يرقص مع عروسه، وأصحابه يحملونه فوق أعناقهم والزفة الدمياطي تشيع البهجة وأنا في وسطهم، يهتز جسدي، أعيش الفرح الذي لن يقام أبداً، أهتز مع إيقاعاتي الداخلية، يتحرك جسدي في مدى أوسع من حدوده، يحيط بي عوض وعاطف، تصفق الأيدي، وتستعجب العيون، تستنكر، الست الكبيرة ماذا جرى لها؟!
وحدها عيناها كانت مشجعة لي ومتعاطفة معي، وارتعاشات خفيفة تسري في ابتسامتها وهي تصفق وتشجعني: الله يا ستو.
تزداد اهتزازات الورود البيضاء على فستانها الأحمر وأنت تقرصينها غيظا وتبتسمين للنساء.
– اثبتي يا حبيبه عيب.
تطير اليمامة من قفصها وتتسرب من يدك إلى وسط الدائرة، وتشتعل حواف الدائرة بالتصفيق، يبتعد أبوها وخالها، ولا يبقى في مركز الكون غير نضارة ابنتك، وترتوي الروح من بهجتها، وتسيل دموعي المكبوتة، تتحرر ابنتك، وتنزوي أحزاني، حتى تكشيرتك المعقودة تغافلك، وتنفك رويدا رويدا، لماذا لا تعترفين بذلك، لو أنك اقتربت من الحفيدة والجدة وانضممت إلينا. لكنك احتفظت دائما بمسافة بيني وبينك، لم اكتشف وجودها إلا متأخرا، بعد أن فقدت القدرة على قفز الحواجز و الأسوار، وبعد أن تعودتِ على التقوقع داخل أسوارك.
وفي الصباح أعلنتيها:
– حبيبة هتروح مدرسة الراهبات الفرنسيسكان بالقاهرة.
مسافة طويلة بين “القاهرة” وبلدتنا القابعة على حدود “المنصورة”.. أبعدتها عني، كما أبعدتني يوم مولدها، وأنا أحاول أن أقرب المسافة السحيقة بيننا وأنتظر يوم وضعك، أمسك يدك وأنت تصرخين: ساعديني يا ماما وأجفف عرقك وأضمك إلى صدري، ادفعي يا راوية، نفس عميق، مرة أخرى، شدي حيلك يا حبيبتي هانِت.
دفعتيني بعيدا عن باب حجرتك وأنت تناولين السائق حقيبتك.
– الولادة قيصرية، الدكتوره معايا، مفيش داعي للزحمه في المستشفى.
ودون سبوع ودقات الهون .. “اسمعي كلام أمك، ما تسمعيش كلام أبوك، اسمعي كلام ستو…” والسبع حبات فول وعدس و”حلقاتك برجلاتك، حلقه دهب في ودناتك”، ورجرجة الغربال الجديد وحرق البخور والشبة، الشرب من قلة العروسة المزركشة بألوان وأوراق زاهية، البيضة المسلوقة الموضوعة فوقها، لأطول الحاضرات عمراً “عقبال الحبايب”، وتوزيع أكياس الملبس وشيكولاته سيما وكوفرتينا، لن أشتري شيكولاته “داللو” فالحظ بها يسد النفس ولن يفرح العيال الذين تجمعوا حولي ..”ما خدتش يا ست، خد يا حبيبي، إدي أخوك”. زغاريد وضحكات وصخب يبتهج له المكان.. بينما يختنق الدور السفلي بتلاوة سعودية، مستعجلة، باكية، قارئ يبدو في بكائه أشبه بالمعددة.
بعيدة أنا عنك، تحيط بك نساء غربان في سوادهن، يقبلنك.
ـ بارك الله فيك يا أختي، بارك الله فيما رزق.
أية سبعينيات قميئة تلك التي أتت بالغربان إلى بيتي.
لكني سأقيم “السبوع” الذي أحب، وأبقي لها كيسين وكروتا..”شيلوني بحنيه، ماما تعبانه فيا”.. “يا سعدك يا هناك يا لي شايل اسمي معاك”.. “ست البنات السكره في اللفه منوره”..
فتفرح بي وتقول: مش هتأخر ياجدتي.
ولو تأخرت، كم ساعة سأنتظر؟ وماذا تعني الساعات أو حتى الأعوام وقد أصبحتُ عجوزا ..أرقد معظم الوقت في سريري، ألتف بشالي الصوفي فوق جلباب من الكتان، مطرز بوردات منمنمة من نفس النسيج، لكنها تلمع أكثر وفي قدمي “مانتوفلي” وردي لا يتناسب مع جو الخريف الذي أتنفسه. أراقب الشجرة التي تتساقط أوراقها. وحيدة بقيت، تتخلص من زينتها وبهرجها. تلتف حول نفسها وتفتح بابها الداخلي وتبحث في جذورها حيث تتخلق الحياة هناك بعيدا في رحمها، تنعش بويضاتها وتبذل ماء حياتها لنبت جديد. تتخلص الأشجار الصغيرة في سنواتها السبع الأولي من لحاها عاما بعد عام وعند تمام النضج تتدثر السيدة العجوز بكل ما لديها، وتراكم حكمة أعوامها وعندما يأتي من يقطعها يمكنه أن يعد حلقاتها ولفاتها ليعرف عمرها.
فهل تبحثين عن تدويرات ولفات أيامك؟

ماذا يفيد؟ وفي المساء حين يتخفف المرء من أعبائه ويصير كما ريشة، كما روح، أجلس وبجواري يجري نهر أيامي، أراقبه وقد تساوت عندي البدايات والنهايات، وصارت كلها تيارا واحدا متجانسا، أغرف منه ما يملأ كفي، فتتساوى مذاقاته، سعادة، وشقاء، وتتناغم قطراته مع صلوات روحي.
لكن، أحقا لم تعودي تهتمين؟!
كنتِ دائما عند حسن ظن الآخرين وتتصرفين بما يتلاءم مع توقعاتهم، ما الذي يملأ الست حُسنة التي صرت إليها بالندم وهي تطل من شرفتها على النهر الساري فترى كل من ضايقها أو أغضبها يأخذهم التيار بعيدا، تنادي عليهم، لا يردون، عيونهم شاخصة إليها، ويمنعها المتبقي من العمر أن تقفز خلفهم وتنضم لركبهم، حتى الأجساد التي لا تعرفها تركن أمام شرفتها، تستريح قليلا في رحلتها، فتأمرين بإخراجها ودفنها في المقبرة التي بنيتها خصيصا لهذا الغرض. ويعودون إليك.

من أجلهم عندما تقدم لي فاطمة طبق تفاح آكل واحدة وأضع الباقي في “الكومودينو” كي أضايفهم رغم أنهم لا يهتمون بالطعام، بل يتكلمون كثيرا، وأحيانا أخلط بين كلامهم فأمد لهم يدي بقطعة حلوي أو حبة برتقال. “راوية” لا تصدقني.. خزعبلات، تخاريف، كوابيس.. اقرئي المعوذتين قبل النوم. لن تريهم ثانية.
أريد أن أراهم؟ لكن لو أنهم يوضحون ماذا يريدون؟
ماذا تريد البنت التي لا تفارقني ليلا، وهي تجري بخطوات أسرع من دقات قلبها، ولا تجرؤ على النظر خلفها، ومع كل خطوة تشعر بأنفاس الكلب على جلدها المترب، تستجمع قواها، وتتقمص روح أحد الأشباح الذين يملؤون المكان، وتمر من جواره دون أن يلمسها نابه، وتسترد روحها عند عتبة البيت.
نجت البنت، لكن مازالت آثار أنيابه تظهر على ساقك.. تصيحين في “حامد” البواب:
– الكلاب، لابد من التخلص منها …
فيرد عليك الرجل الذي عمره من عمرك وربما أكبر قليلا، دون أن يرفع نظره عن الأرض
– ست حُسنه! سلامتك. الكلاب بعناها من زمان.
رغم ذلك مازلت واقفة تنتظرين من يعبر بك الطريق، والكلب مازال قابعا بنابيه وجلده الأسود اللامع كلون المنضدة التي اصطدمت بها عند دخولك السرايا للمرة الأولى. سألت زوجك “فؤاد” عن نوع هذا الخشب البراق أجاب: أبنوس.
ابتسمت ساخرة: شفته قبل كده.
فهل حكيت له الحكاية، وأنت تستيقظين من نومك بجواره فزعة، قبل أن يغرس الكلب نابه في لحمك؟
ربما لم يكن لدينا وقت لهذا الحكي، عن الكلاب التي تظهر للبنات اللاتي يذهبن لشراء الجاز لأمهاتهن، وعندما يعدن يجدنه في انتظارهن لامعا كالأبنوس على الحدود، ولا يعرفن هل يعدن؟ أم يبقين وينتظرن أن يمر أحدهم وينقذهن.
تمر الدقائق والرعب يملؤهن، فيجف ريقهن ويتعلمن معاني جديدة عن الحياة. وفي اللحظة الحاسمة يخاطرن، ويقبضن على زجاجة الجاز، ويعبرن مغمضات العين.
وربما لم أحك له لأن هذا لم يكن يحدث لكل البنات، فقط بنت واحدة يمكن أن تعيش تلك اللحظات، حيث بيتها هو البيت الوحيد البعيد عن العمران والمطل على المقابر.هذه البنت لا يمكن إلا أن تكون أنا “حُسنة الفقي”.

يتبع…

الفصل الثاني

الفصل الثاني

وحدي أستمع إلى الحقائق المقبورة في الصدور، حين يتحلل المرء من نظرات اللوم، ويعطي ظهره لأيامه بنفس السخرية التي أعطته بها ظهرها، فخابت مساعيه حينا، وانكب على الطريق مرات عديدة.
في حضرتي لا تكون أنت كما عرفت نفسك، حريص على سمعتك وشرفك، حرصك الوحيد سيكون أن تخلع كل الأردية التي أخفت عفنك وكتمت رائحته.
في حضرتي تستيقظ الحواس يقظتها الأخيرة، فترى العين ما تغاضت عنه سنوات، وتسمع الأذن كل الهمس الذي تجاهلته، وتشم روائح القرب والبعد، وتلمس الشوق والوجد، وتشعر بطعم الحب والكراهية فتسأل نفسك ما الذي كان يملأ فمي.

في حضرتي ستتيقن أن الله يُعبد بكل اللغات، لأن حواسك ستكون قادرة على ترجمة كل ما يقع في محيطها، ما هو أبعد من اهتزاز أعواد الذرة، وسنابل القمح، ورفرافات اليمام فوق شجر السرو. ورغم قربي، وتجلياتي في الأشياء، تدعون أنكم لم تقابلوني، فمن قابل الموت وعاد ليروي عنه؟!

في ليلة النصف من شعبان أدق الأبواب ولا أطلب أكثر من رغيف خبز وحفنة ملح فدية لآل البيت. في الآونة الأخيرة لم يعد كثيرون يهتمون بدقاتي، ويصرون على غلق الباب في وجهي، فمعذرة إذا تسربت إليكم من عقب الباب.

هل يبدو أنني غاضب؟ لا مطلقا، غير أنه يبدو لي أحيانا، أنني لا أفهم البشر، وأفعالهم التي تجافي المنطق، فالإنسان وحده القادر على كسر القانون الذي تسير به الأشياء ومع ذلك لا تتوقف الحياة، ولكن في أي طريق تسير؟ كما أنه يترك ما بيده يتسرب منه، من أجل ملئها بما هو قصيّ، ثم يعود ويتذكر يده الفارغة ويطبق عليها. فحُسنة الفقي عندما صارت فتاة رزينة وعاقلة، أصبحت تدّعي أنها لا تراني، وربما حاولت مرات كثيرة أن تتوهم أن ما بيننا ليس سوى خيالات طفولة. ليس هذا فحسب بل تحتفظ بمجلة علي غلافها المهترئ صورة رجل عجوز، ممصوص الوجه والروح، ميت من قبل أن أراه، ويلتف حول عنقه ذراع وجمجمة، تعلوه بخط الثلث عبارة: “الموت يعانقه ولكنه لا يشعر ولا يحس”. ما أجهلهم حين يصورونني بهذا الشكل المخيف، ما لي أنا والتوعية ضد المخدرات، اللعنة على الرسام الذي يشوهني، وقسما بربي لأذهبن إليه حين يأتي اسمه في الكشف على نفس الهيئة التي رسمني بها، وسوف يرى نتيجة ما رسمت يداه.

لست غاضبا، لكني مستاء، فكيف لحسنة أن تنسى وتنكرني..

كنت أحوم حول البيت الوحيد المجاور للمقابر، وكلما اقتربت، تغمض أمها عينيها كي لا تراني، وتغيب عن الوعي فتصرخ النسوة ويدعكن صدرها ويديها بالخل، يحاولن إفاقتها، وبعد جهد تفتح عينيها الملتهبتين من حمى النفاس وتصرخ وتردد اسم زوجها، والنساء يرقبنها، و لم يلاحظن أن الصغيرة كانت دائما مبتسمة ولم يكن اقترابي منها وإغفاءات أمها تهز ابتسامتها، إحساس راسخ بالأمان ينير وجهها ذا الأيام السبعة، وكان الأمر قد صدر لي، لكن أصابعها التي لمست جلدي جعلتني أرتعش، شعرت بأشياء لم أكن أدرك وجودها تتحرك في داخلي، تسربت لي منها أحاسيس آدمية، وملأت روحي بالشفقة، تشتت ذراتي، تغيرت ملامح خلاياي وفقدت السيطرة على عيني، فانهمرت دموعي وأنا أصعد إلى السماء في أشواطي السبعة، كنت أبكم فتحرك لساني الصامت ولهج بالدعاء والتوسل، ابتسامة الرضيعة، ترحيبها الهادئ قالا لي: موعدك ليس الآن.

أخذت أصعد إلي السماء، وفي كل مرة أتأكد من أمر الرب، فأعود لأداء مهمتي، ولكن ابتسامتها تجعلني أصعد ثانية، ست مرات، وفي المرة السابعة تبسم وجه الرب، وانتعشت روح أمها، وبدأت تشرب مرقة الدجاج من يد قريبتها، وذهبت إلى مواعيدي الأخرى.

لا يمكن أن أصف “حُسنة” بأنها ناكرة للجميل، كما لا يمكن أن أصفها بأنها جميلة، شعرها مثلا متوسط الطول، ظلت تحلم دائما بالشعر الطويل، ورغم أنها رمت خصلة من شعرها في النيل أيام الفيضان لكن شعرها كان نموه بطيئا، فلم تعد إلى قص أية خصلة منه، وفيما بعد تحولت كثافة شعرها إلى نعمة حمته من التقصف الذي تحدثه مكواة الأسطى سيد الكوافير كل أسبوع. لم يكن في حسنة الصغيرة ما يميزها لكن ملامحها العادية هذه ستتغير مع السنين، وتتغير معها أشياء كثيرة في حياتها، حتى ليبدو أنها تخلع بين حين وآخر صفاتها، وتكتسب صفات جديدة.

وما يثير الدهشة أن الصفات القديمة والجديدة هي جزء لا يتجزأ منها، بما لا يجعل أحداً يلاحظ هذه التطورات، فقدرتها على التكيف والمواءمة تجعلها في كل الأوقات السيدة الأجمل دائما، وبمرور الوقت ستكتسب نوعا من الجمال يُطلق عليه خبراء الإعلام جمال الشهرة، وتُسمِّيه “حُسنة” جمال النعمة.

تتكرر هذه الأشياء كثيرا في حياة “حسنة الفقي”، فبعد أسبوع من ميلادها تنبه أبوها “حسين الفقي”، وهو يقبل كفها الأيمن، إلى وجود “حَسنة” ذات لون بني فاتح في وسط كفها. وسيقرر على الفور أن يسميها “حَسنة”، وسيعتبرها نعمة من الله، لكن هذا الاسم لن يظل ملاصقا لحُسنة الفقي، فعندما يجلس “فؤاد الكاتب” على يمين الشيخ “حمودة” مأذون “الزرقا” و يده في يد “حسين الفقي” والشيخ “حمودة” يطلب منه: “ردد خلفي زوجني ابنتك حَسنة الفقي البكر الرشيد”، فيردد فؤاد: “زوجني ابنتك حُسنة الفقي البكر الرشيد”

ويجيب الأب مُقِّلدا البيه وضاما الحرف الأول من اسم حسنة ” زوجتك ابنتي حُسنة الفقي البكر الرشيد”

وكما يتغير نطق الاسم، تزيد حروفه حرفين آخرين في مقدمته ليصبح “ست حُسنة”. لكن علاقتي الوطيدة بها، وألعابنا التي لم تنقطع ستعفيني من أي حروف زائدة، وتبقى بالنسبة لي ولكم فقط حُسنة الفقي، إلا إذا مر بها أحدكم ورآها في شرفتها وعلى كتفها شالها الأسود شتاء أو الأبيض صيفا، تتطلع إلى النهر، وتراقب أيامها التي كانت والأيام القادمة، وأراد أن يسمع صوتها الباسم، فالتحية التي تحبها: سا الخير يا ست حُسنة.

تقبلت تغيير نطق اسمها، بنفس قدرتها على التواؤم مع كل جديد وغريب، ويمكننا أن نخمن بأن هذا ما جعلها تتأقلم مع البيت الكبير فلم ترفض يوماً فكرة أو كلمة جديدة، بل وتداري في أحيان كثيرة عدم فهمها، وقلة استيعابها وتردد بينها وبين نفسها بأن غدا سيأتي وستفهم أكثر، ولم يكن هذا الغد يتأخر كثيرا عليها، بل يبدو لي أنها كانت تتعثر دائما في طريقها بهذا الغد، بنفس المهارة التي يتعثر بها أطفال بلدتها في حجارة الطريق.

في كل خميس تذهب “حُسنة” إلي السوق الكبير في بلدة “ميت زهرة”. يقولون إن بنات ميت زهرة جميلات، ويلمزون إلى استقرار جنود الحملة الفرنسية فيها، وأنا لا أوافق على هذا الرأي مطلقا، فهن لا يمتلكن سوى بياض فاقع، وبعض الألوان الفاتحة تتوزع على العيون، كما أن وجوههن المستطيلة العظام تنفي عنهن أي مسحة رقة أو جمال، وإصرارهن على أن الرشاقة عار، وأن الجميز هو أفضل الأشجار، يجعلني لا أستطيع أن أخبركم عن الثقل الذي أعانيه حتى يتخدر ذراعي، وأنا أصعد بأرواحهن إلى السماء.

تحمل “حُسنة” وهي في طريقها إلى السوق بعض الطيور.. بطة أو دجاجة، عددا من البيضات، تكمل بثمنها ما تحتاجه من طلبات للبيت، وأحيانا تشتري لنفسها قطعة قماش أو حلاوة طحينية لأخيها “يحيى”، ولم يكن عليها لكي تصل إلى “ميت زهرة” سوى أن تخترق الشارع الرئيسي في بلدتها الذي ينتهي بالطريق المسفلت والسرايا الكبيرة والنيل مباشرة، وتسير على الطريق المسفلت خصيصا لعربة البيه “الباكار” موديل 1933. والموازي للنيل وتقطع مسافة كيلومتر حتى تصل إلى “ميت زهرة” وعند مدخل البلدة، وقبل أن تصل إلى “الوسعاية” التي ينصب فيها السوق، كان هناك بيت مكون من دورين يحلو لها التطلع إليه، وكان من عادة الفلاحات أن يطرقن على باب بعض الدور المجاورة للوسعاية طلبا لشربة ماء، والدعاء بالصحة والعافية، لكن هذا البيت لم يكن يكتفي بذلك، بل كانت هناك ثلاثة أزيار كبيرة ممتلئة بالماء دائما.
بعد أن انتهت حسنة من بيع “دكر البط” وشراء رطلا من اللحم، دون أن تنسى الكمون والملح اللازمين للعشوة الحلوة، والأهم حصان الحلاوة، وخمسة أقراص حمصية، وقرصين سمسمية، وربع كيلو حمص، وحفنة من نبوت الغفير وخرطة ملبن، احتفالا بالمولد النبوي.

اقتربت من البيت المكون من دورين وحديقة صغيرة، كان الزير قد اقترب على الانتهاء وهي لا تحب شرب الماء المتعكر والمتبقي المليء بالشوائب، وبينما هي تهم برفع شيلتها نادتها سيدة شابة شقراء، كانت “حُسنة” تلمحها وهي تستمع إلى الراديو في الفراندة، نادتها السيدة التي تعاني من الوحدة ومن غرابة اسمها “الياصابات” والذي تتنوع الطريقة التي ينطقها بها الفلاحون الذين يأتون لزوجها الدكتور “ناجي” طلبا للعلاج، البعض يسميها اللية لبياض جسمها الشديد وامتلاء مِؤخرتها، والبعض الآخر يسميها الصُباتة لحمرة وجهها.

بالطبع لم تكن السيدة “الياصابات” التي تلقت تعليما في مدرسة “نوتردام” في طنطا تعرف هذه الدعابات وحتى إن عرفت فإن خفة روحها ستجعلها تسخر هي الأخرى وتضيف لنفسها لقبا جديدا.

دعت اليصابات “حُسنة” لكي تشرب، وسألتها عن اسمها وبلدتها وقدمت لها طبق عاشورة، وكانت المرة الأولى التي تسمع فيها عن هذه الأكلة، وستحاول حُسنه ألا تنسى السؤال عن اسم هذا الطبق وكيفية صنعه.

وعند الياصابات التي لا يزيد عمرها عن خمسة وعشرين عاما، وإن كان من يراها يعتقد أنها في الأربعين- في الواقع لم يكن أحد يهتم بعمرها فالمرأة إما طفلة لا تصلح للزواج أو متزوجة أو أرملةـ بدأت حَسنة التي ختمت القرآن الكريم منذ عامين وتعلمت مباديء القراءة والحساب، تمسك في يدها مجلات وجرائد وتستمع إلى الراديو عجيبة تلك الأيام، وانفتح لها للمرة الأولى عالم لم تكن تعرف حتى أنه موجود، وبتوثق العلاقة مع الياصابات سألتها عن سبب إقامتها في الدور الأرضي وليس الدور الثاني فابتسمت وقالت لها برقة:
– أحسن يا حَسنة، علشان يبقى سهل عليَّ أشوفك.

لكن هذه الإجابة لم تقنعها، فهي تشعر أن الأدوار العلوية بها شرفة، وأن الغبار من السهل أن يصيب طقم الصالون النبيتي المذهب، الذي رأته وجلست على وروده القطيفية، وأنه يستحق الدور الثاني، ولما ألحت في طلب الحقيقة ودفعا للخجل عن السيدة الرقيقة، وجب عليَّ أن أشرح لها بعضا من حقائق الحياة التي ستعرفها فيما بعد، فما تراه امتيازا للدور الثاني كان ممنوحا لزوجة شقيق الدكتور خوفا على أولادها من اللعب في الشارع، رغم أنهم يلعبون فيه، لكني أشفقت على قلب البنت الصغيرة التي ستعرف في الأيام القادمة ما هو أكثر عمقا وإيلاما من مجرد النزول من دور علوي إلى دور سفلي.

أعجبت حُسنة بماكينة الخياطة التي تمتلكها الياصابات، وتعلمت أن تجلس عليها، وأن تحيك بعض القصات البسيطة، كما تعلمت بعض أشغال الإبرة من المفارش والناموسيات والستائر.

وفي أحد أيام الأربعاء عرضت اليصابات عليها قطعة قماش جديدة لونها أخضر عنابي ومنقوشة بزهور بيضاء لتفصل لها جلبابا جديدا متوسط الطول، وبتقسيمة من الوسط، وكرانيش دائرية حول الرقبة، وعندما همت بأخذ مقاساتها استنكرت حَسنة وقالت:
– يا ست الياصابات حرام تفصيل الهدوم يوم الأربع، الهدوم يا تتسرق،
يا تتحرق.
لكن اليصابات استكملت عملها وأدارتها: لفي آخد قياس ظهرك.

ولم تجرؤ على إخبار أبيها عن الجلباب الجديد إلا يوم الخميس، كما لم تجرؤ على إخباره فيما بعد أن مهنته التي اتخذ منها لقبا سببت لها قلقا كبيرا..فحُسنة الفقي لا علاقة لاسمها بعائلة الفقي الإقطاعية ولا بالممثلة الشابة “نيرمين الفقي” التي ستظهر وحسنة سيدة تتخطى عامها الستين بثقة وثبات تدعمهما برفضها الدائم لصبغات الشعر القديم منها والجديد.

وظلت تحمد الله كثيرا أن أخاها “يحيى” سافر في بعثة للدكتوراه إلى ألمانيا قبل مقتل “صلاح حسين” الذي تزعم مقاومة أهالي كمشيش ضد الممارسات الظالمة لعائلة الفقي قبل الثورة وبعدها. فقد وصل جبروت العائلة إلى استخدام القوة المسلحة ضد الأهالي وقيام عائلة الفقي باعتقال زعماء أهالي كمشيش وحبسهم في قصر الأسرة، ودفعهم للقاتل “محمود خاطر” لقتل “صلاح حسين”.

كانت تتابع باهتمام ما تكتبه الجرائد، كانت هذه الأوقات من أصعب الأيام في حياة زوجها “فؤاد الكاتب”، وكل من كانت له أراض زراعية خضعت للإصلاح الزراعي وامتد أثرها لأكثر من عام وفاجأهم عبد الناصر وهم مجتمعين في عيد العمال بقوله “السنة اللي فاتت مات الشهيد صلاح حسين في كمشيش، ونبهنا مات ازاي .. قُتل.. قُتل بعد 14 سنة من الثورة بأيدي الإقطاع.. في كمشيش في الوجه البحري هنا.. مش حتى في مجاهل الصعيد.. جنبنا.. جنب القاهرة، وجنب دايرة أنور السادات. وازاي الكلام ده يحصل؟ معناه ايه؟ معناه إن احنا كنا نايمين على الثورة المضادة اللي موجودة في البلد. إذا كان الاقطاعيين بيطلعوا ويموتوا عيني عينك، جنب دايرة أنور السادات وفي المنوفية، واحد فلاح لأنه بينادي بحق الفلاحين وبينادي بإنسانية الفلاحين”

يمكنني أن أفشي سرا عن حسنة فهي لم تحب أبدا صوت عبد الناصر، كانت تعتبر صوته أضعف ما فيه بينما قامته وعينيه سر قوته، وعندما تابعت على الشاشة الانحناءة الخفيفة التي في ظهره بكت، وتمنت أن يموت قبل أن ينحني أكثر، لكن بعد أن مات، ومات من جاء بعده، وبدأ التلفزيون يفرج عن صوته فتذاع أجزاء من خطبه تعودت عليه وأصبح الحنين إليه يملؤها، والحقيقة أنها لم تصرح بهذا الرأي أبدا، بل كانت تدافع عن عبد الناصر وتبرر دائما أخطاءه حتى وإن حكت في صدرها، وظلت تراه مثل كل النساء -عدا “زينب الغزالي” و”حميدة قطب”- ملاكا أو على الأقل نبيا حتى أنها سألتني: إنما هو نبي ولا ملاك؟

فأجبتها: الموت نفسه ملاك.

ارتبكت، فهل يمكن لعيني ناصر الثاقبتين.. أن يعرفا علاقتها بالحريق الذي نشب في جسد “أم الخير” زوجة “حامد” البواب.

بدأت حُسنة تشعر بالألم في أماكن متفرقة من جسدها، وتلاحظ ظهور بقع زرقاء في أماكن الألم، استشارت الدكتور “ناجي”، طمأنها أن الحالة بسيطة وربما أصيبت بهذه الكدمات دون أن تشعر، لكن الألم تزايد عليها ولم تفلح الدهانات التي كتبها الدكتور “ناجي” مع البقع التي تختفي نهارا وتظهر ليلا، أشارت عليها خادمتها “فاطمة”:
- البقع الزرقا في جسمك يا ست حُسنة لازم من فعل الجان- يجعل كلامنا خفيف عليهم- يمكن يا ست عاكستيهم ورميتي ميه سخنه على أرض الحمام أو صرختي فيه، لازم نرش الحمام، وأوضتك بميه فيها عرق الحلاوه وبذر الرجلة وربنا يأذن بالشفا.

لكن “حُسنة” ظلت بأوجاعها، فنصحتها “فاطمة”أن تذهب إلى أحد الشيوخ المبروكين في “السرو” أو يأتي هو إليها لكنها خشيت من غضب “فؤاد”، وهي نفسها لم تكن ترى داعيا لذلك.

– طيب على الأقل يرقيك، يا ست أنت لازم محسودة، أو مسحور لك .

وافقت بشرط ألا يعرف أحد ممن بالسرايا.

جلست في منتصف السرير، وأخذ الشيخ يمر بيده على جسدها ورأسها وهو يتمتم:” بسم الله، حبس حابس، وحجر يابس، وشهاب قابس في عين العائن، اللهم رد عين العائن عليه في ماله وولده وأحب ما لديه، ونكس اللهم برأسه بين رجليه، وخذ كلمته من بين شفتيه، ورد اللهم بأسه عليه، ماء رقيق ولحم سميق وعلى العين لا تضيق، فارجع البصر هل ترى من فتور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير، النبي ضلعت ناقته، قامت ولحقت، فلا عظم كسير، ولا دم يسيل، في عين الفكر ما ذكر من كل أنثى وذكر، يا عين يا عائنة، يا رديئة يا خائنة، يا حمراء مثل اللحم، يا بيضاء مثل الشحم، يا سوداء مثل السجم، اللهم اكفف حُسنة شر العين السوداء والعين الحولاء والعين الرقطاء والعين السوداء. والسماء ذات البروج وكل عين تلوج والشمس وضحاها لكل عين تراها، هل أتاك حديث الغاشية لكل عين ماشية، والطور وياسين لكل عين تعين، والسماء والطارق لكل عين خارق، هل أتاك حديث الغاشية لكل عين ماشية …” ثم قرأ آية الكرسي والمعوذتين والإخلاص.

جلس على كرسي في مواجهتها وقال لها: يا ست أنت معمول لك عمل على أظافرك المقصوصة، والألم يحدث لك كلما حرق جزء منها.
سألته الخادمة: ممكن تفك العمل يا شيخنا؟
- أنا هعملك عروسه معكوسه وإنت لما تشعري بالألم غزيها بالإبرة، سيصل ألمك إليها، وستعرف أنك كشفتيها وتبطل أذاها عنك.

جهز الشيخ العروسة، وأوصى حُسنة باستعمالها عندما يأتيها الألم، أبدت حُسنة ترددها أمام فاطمة، وأظهرت عدم مبالاتها بحديث الشيخ، وعندما حل المساء وبدأت البقع الزرقاء تنتشر في جسدها، غرست الإبرة.وكلما غرست أكثر كانت شدة الألم تتفاوت، طغت عليها رغبة في معرفة الفاعلة، ربما أكثر من رغبتها في تخفيف ألمها، فأحرقت العروسة. وفي اللحظة التي أمسكت النار في العروسة، توقف طنين الألم، ولكن صرخات متوالية وصيحات “إلحقوني” بدأت تتصاعد، وعندما خرجت إلى الشرفة رأت كتلة من النار تتمرغ على عشب الحديقة و”حامد” البواب يلفها ببطانية، وعرفت أن وابور الجاز شب في جسد “أم الخير” وهي تجهز الشاي لزوجها
وفي مستشفي الزرقا الأميري همست لها “أم الخير” وهي مربوطة بالضمادات:
– سامحيني يا ست حُسنه، الذنب ذنبك.

امتقع وجهها وهمست لها وهي تصر على بقية قصاصة أظافرها التي أصبحت تحرقها بنفسها:
– ربنا يسامحنا كلنا.

واحتفظت بسرها ولم يخطر على بال “فاطمة” أن تسأل سيدتها عن العروسة، كما أن ناصر نفسه كانت تخبئ له الأيام مشاغل أهم بكثير من اشتعال النار في جسد فلاحة أيا كانت الأسباب، فبعد أقل من شهر وخمسة أيام من خطابه السابق كان ناصر قادرا على جمع شمل آل الكاتب حول التلفزيون ودفع حُسنة إلى أقصى حدود البكاء.

يتبع

الفصل الثالث

الفصل الثالث

كيف يمكن ليوم أن يكون مختلفا عن بقية أيامك؟

يحدث أحيانا أن تفتح عينيك، وأنت في سريرك، فتداعب وجهك نسمة صباحية، تشعر بها في التموجات الراقصة للستائر البيضاء، قبل أن تلمس وجهك، وترى قمة شجرة “أكاسيا”، وفروعها متوجة بزهور عنقودية وردية نابضة بالحياة، وأخرى بيضاء تصالح روحك على العالم، وتتأكد لحظتها من تمايل ذؤابات النخيل وسعفه أن نومك كان عميقا دون أحلام..

وفجأة تتساءل: ما الذي أتي بي إلى هذا المكان؟.

الحجرة الواسعة التي تطل بشرفتين على الحديقة، فأرى النيل من ناحية، والمقابر وبيت أبي من الناحية الأخرى، أي أشياء كنت أفتقدها؟. برج الحمام؟.البيت المعزول تحاصره أشباح وحدته وأرواح آلاف الغائبين؟

في الظهيرة يعود أبي من جولته الصباحية، أجري عليه، يمسك بيدي يلف بي، أدور معه، تخايلني أشعة الشمس، أغمض عيني، تتداخل الأشكال.. البيت، الأشجار، المقابر، الهواء الذي أحلق فيه، الأرض التي أقاوم جاذبيتها. تنمحي التفاصيل، ولا يبقى غير أبي المتمركز في وسط الوسعاية الممتدة لأبعد من ضحكاتي أو حتى صراخي.

رق جلدي وشف حتى أبان كل ما يحفظ من لمسات حانية لأصابعه الأربعة، تطمئني وأنا شاردة في دوافع السيد الكبير لطلب يدي. أستعيد ذبذبات صوته الدافئ، التي تجمعت في أطرافه:

- يا بنتي لن يغصبك أحد على أي شيء، لن يتم أمر دون رضاك.

ولما طال صمتي..

- لو ترغبين في ترك البلد نتركها، أنا كل اللي يهمني راحتك.

هل مازال شعري يحتفظ بقبلته الوحيدة على رأسي أم إن ما كان يوما قمة رأسي أصبح في الأطراف؟ لماذا حدثني أبي بهذا الشكل؟ ولماذا ترددت؟ ربما لأن ما حدث فاق تصوري، حتى بعد الزواج ظل لدي سؤال كلما استيقظت، ماذا أفعل هنا؟ وينازعني حنين دائم لبيتنا.

مع الغروب يثقل على إحساس الغربة. البيت الساكن الكامل حيث لا شيء يحتاجني، الأثاث ثقيل، صامت، مليء بحواديته التي لا أعرفها، دون شفرة أحاول فك رموزها.

من أين أبدأ؟

تجذبك الكنبة البندقية اللون المطعمة بالفضة، والتي ورثها “فؤاد” عن جدته، هو مشغول بعالمه، وأنت تتململين في السرير انتظارا لعودته، تنتقلين إليها، تفتحين الراديو، أم كلثوم تغني من فيلمها الجديد “حأقابله بكرة”. ترفعين الخداديات الكتانية المشغولة بغرز وخيوط بدوية، يفاجئك غطاؤها الأملس تفتحينه فتتحول إلى سحارة، تسعك وتستوعب أسرارك، تتأملين الوحدات الزخرفية الفضية التي تشبه أذنا كبيرا تتكرر بعرض السحارة، تبدي استعدادا دائما لالتقاط همساتك، وعلى قاعدة المسند تتجاور زهرات عباد الشمس منحوتة في الخشب، وقلوبها ممتلئة بالفضة، تتابعك أينما ذهبت وتبتسم في وجهك، تبدي ترحيبا دافئا بفتاة غريبة.

كم من الوقت تحتاج لتتعرف على عالمك ويصير جزءا منك ويصبح داخلك؟ حين يتم هذا تكتشف أن كل الأشياء صارت قديمة، وأن بالحياة أشياء أخرى لا تعرف عنها. فمتي اكتشفت أن عالمي صار قديما؟.. لا أتذكر..الكهرباء تأكل ظلي على الأشياء، تخفي الأبعاد، تسير وحدك في أمان دون خوف من ظلك الممتد حتى السقف.. الكهرباء تكشف كل شيء.. كل الشقوق التي ملأت الجدران، البقع الصفراء، الرشح في حوائط الحمام، الألوان الكالحة لصالوني القديم.. كل شيء.

يحتاج البيت إلي ترميم، تجديد. كل البيوت التي أدخلها لم يصبها تغيير. كل الأشياء الثقيلة علينا التخلص منها، توسيع النوافذ في الصالة الكبيرة، ضوء قليل يدخل إليها، فتبدو غائمة في ضباب أبدي. نحتاج لشراء أدوات منزلية لم أكن أعرفها، حلل، أكواب، صواني تقديم، أطباق فاكهة، راديو، قماش للستائر. مللت بيتي القديم، الأثاث، الأبواب، تعجبت من شجاعتي وقدرتي على الشراء وفتح دولاب الفضيات وتجديده. الفضة دائما معدني المفضل، رغم بريق الذهب المبهرج، الذي يبدو لي رخيصا إلى درجة التقليد.

تبيع الزوجة مصاغها كي تساعد زوجها وتشتري من إحدى العربات نفس شكل الغوايش، ولكن بجنيهات قليلة، وترتديها في الأفراح: يا ست أهم منظر.

الذهب، لا يحترق ولا يصدأ، لكنه يقوي القلب حتى يميته.. تجلس زوجة “النحال” الكبير في الصالون، تشخلل بأساورها الذهبية وهي تقول: نريد ابنتكم “راوية” لابن ابني “عوض”، يترك “فؤاد” القرار لراوية، “منير”و”عاطف” على استعداد دائم للموافقة على ما تريده أختهما، وأنا مترددة، لا يوجد في الشاب ما يعيبه، يدير أعمال عائلته، قليل الكلام، لا يوجد ما يميزه غير خاتم كبير من الذهب يتباهى به. الفضة لا أحد يتباهى بها، لذا تحفظ مكانتها أبدا، بعيدا عن الغش.

مدة تجديد البيت كانت أكثر الفترات التي تقاربنا فيها أنا وفؤاد.

عرفت خلالها ما لم أعرفه في سنوات.. معاملته للبائعين، صبره على الشراء، بل كان هو الذي يقودني إلى اكتشاف أشياء جديدة تنقص البيت، والميزانية مفتوحة. انهمك في الأمر حتى أنه أتعبني، أنهكني، وبدا كأن التجديد لن تكون له نهاية، وعاد طفلا لعبته الوحيدة بناء البيت من جديد، حتى أنه أهمل مكتب المحاماة، وقادته رغبته في التغيير، إلى عمل مشروعات جديدة، انتقلت إليه روح المقامرة، روح لم تكن له أو ربما اكتشفها في نفسه، وكانت تجارة تخزين البطاطس مازالت في مهدها، فبدأ في بناء ثلاجة للخضر والفاكهة، تخزن البطاطس والبصل والجزر.

هل كانت الأشياء التي لم نخترها معا هي التي وقفت عائقا دون التحامنا واندماجنا كعاشقين؟ .. ربما.

أوائل الستينيات لم ترد أية فكرة للتغيير، كان الوضع مستتبا والتطورات لم تكن في صالح أي تغيير أو هكذا خيل لي أنا و”فؤاد”، حتى أننا لم نتكلم في هذا الأمر. كان الحديث عن قوانين الإصلاح الزراعي، الفدادين التي اختصرتها القوانين من مساحة الأرض التي كنا نملكها.. التي كنا نملكها؟!

تتحدثين الآن كإقطاعية قديمة. وأنت التي ظللت لا تعلمين حقيقة مساحة الأرض التي يمتلكها زوجك إلا بصدور قوانين الإصلاح، لم تسألي يوما عن مساحة الأرض، أو مقدار الثروة حتى لا تتهمين بالطمع.

أنا وجسدي كلانا يراوغ الآخر ولا نتفق، كل في ناحية، يرغب في الاستكانة وأرغب في الاستناد إلى العصا الأبنوس التي توارثها “فؤاد” عن جدوده، وكان ينوي أن يستند إليها في أواخر أيامه لكنه لم يحتج إليها.. في الصباح الباكر أمرّ في أرض السرايا، أؤجر الأرض المتبقية للفلاحين. أقبل أن تباع الأراضي البعيدة، الأولاد دائما يحتاجون للنقود، لهم مشاريعهم الخاصة، “عاطف” مع كل نقلة إلى عاصمة أوربية يحتاج إلى النقود، تقول “راوية”: الدولة توفر لمبعوثيها في الخارج كل شيء، لكنها تطلب ما يكفي لبناء مدرسة عمر بن الخطاب النموذجية، تبنيها في المنصورة، أهالي البلد لا يتحملون مصروفات مدرسة يشترط للقبول بها إجادة الوالدين للغة الإنجليزية، الأرباح مضمونة، وربما تتحول لأول جامعة إقليمية خاصة. أبيع عمارة الرمل، الإسكندرية بعيدة، لا نذهب إليها كثيرا، إذا سافرنا يمكنني أن أؤجر شقة في البرج الذي ارتفع مكانها، لكن تظل السرايا كما هي بنفس المساحة وسورها وأشجارها..

أحيانا أدور حول سورها الحديدي الذي تتقارب قضبانه يرتفع جزء من الحديد، مربعات متجاورة، في وسط كل واحدة دائرة تبدو كقرص الشمس تشرق منها أربع شعاعات، تصل إلى الأطراف الأربعة للمربع الحديدي، الذي يحد من انتشارها، وترتكز على قاعدة من الطوب الوردي، بعرض قالب طوب، تركن عليه الفلاحات القادمات من السوق أو من ماكينة الطحين طلبا للراحة، تجلس الواحدة منهن، وتمسح عرقها في طرحتها، هذا إذا لم تفزعها نباح ثلاثة كلاب مربوطة بجوار السور، وقد يوقع إحداهن حظها العاثر، أو جهلها فتجلس قريبا من مربطها، فتأخذ نصيبها من السرايا خضة رهيبة، وقد تهرب وطرف طرحتها في فم أحد الكلاب، أو تتعثر ويسقط ما بسبتها أو طحينها، بجوار السور يتكوم التراب المخلوط بدقيق عشرات الفلاحات أو ببعض قطرات من دمهن..

كنت تنوين التخلص منهم بمجرد دخولك السرايا فما الذي أنساك؟ أم أصبح لك ما تخافين عليه ويحتاج إلى حراسة؟ وأنت التي كنت تمتلكين كل الأشياء وهي بعيدة عنك..

ربما ظللت داخل السور سنوات طويلة، أتحسس السور والأوراق التي تخرج منه. تنتشر على السور ورود الشبيط وتمتد تفرعاتها لتتجاوز ارتفاعه.أشعر بالأمان، ما ألمسه هو الموجود والباقي خيال، أوهام، لا أتذكره، وبدون أصابعي كان على أن أشك، في الجغرافيا، في التاريخ، حتى في أسباب وجودي في هذا البيت..الجغرافيا هي أركان حجرتي.. التاريخ هو الأبطال، رمسيس، عنترة بن شداد، صلاح الدين الأيوبي، سعد زغلول.. التاريخ ما فعله العظماء، هذا ما كنت أتصور، لكن جاء الوقت الذي صار علىَّ أن أراجع تصوراتي، وأن أعرف شيئا عن ابن خلدون وتاريخه المتعاقب. فهل يعيد تاريخي نفسه؟ وهل تتكرر أيامي وأبدأ من حيث انتهيت؟ أم إنني مجرد ذرة في الدورة الكبيرة.

في جيبي مذكرة أدون بها ما أرغب في تذكره، لكن ما هو؟ لا يهم سأتذكره حين يصير بعيدا.عندما يتقدم بنا العمر يتجسد ما في نفوسنا بشكل كبير.. الغيرة، حب التملك، الطموح، الخوف…

تخافين القطارات؟

القطارات داهمة، تأتي وترحل فجأة ولكن أثرها يبقي في النفس، ذكرياتي معها سيئة، يوم سفر “يحيى” من محطة المنصورة إلى القاهرة.

كنت تريدينه بعيدا عن البلدة.

ربما، كنت أريد عائلة كبيرة، نواة لعائلة الفقي، وكان عليه القيام بهذه المهمة، حين يصبح طبيبا مشهورا ويفتح عيادة في القاهرة أو على الأقل في المنصورة ستسعى العائلات الكبيرة للتقرب منه.

اصطحبته إلى القاهرة بالقطار لم نسافر بالسيارة، كان شيئا خاصا بين أخت وأخيها الوحيد، الذي تدخره لأوقات المباهاة، التي كانت حتما ستأتي.

القطار قاس، قلبه من الصلب لا يرق لا يلين ولا يشعر بالندم، فقط يسير إلى الأمام، لا أستطيع التحكم فيه، لا يعرفني ولا يمكنني أن أهمس له: من أجل خاطري، فيغير مواعيده ونجلس قليلا في المساحات الخضراء بعيدا عن المكتب وثلاجة الخضر ودفاتر الحسابات ..

تخافين القطارات، الماكينات التي عندما تتعطل لا تعمل إلا بالدم الساخن الطازج.

و”رحيل” كانت تجسيدا لخوفك، تسكن في الجهة المقابلة للبلدة حيث يفصل بين الناحيتين خط السكك الحديدية، ذهبت أمها لقضاء حوائجها.. لم تشعر بما حدث لها إلا عندما استيقظت ومضى القطار بعيدا.

مع هذا لم تغضب “رحيل” يوما منه أو تخافه بل كانت تستخدمه للتنقل بين المنصورة وطنطا، والبلد. وعندما أزيلت القضبان الحديدية من أمام البلدة قالت:

– أنا عمري ما خفت من القطر، القطر ما أكلش دراعي، الغفله هي اللي أكلته.

لا تنام أبدا، تغفو وهي جالسة أو مستندة على كرسي. كثيرا ما كانت تأتي للبيت وفي صرتها بعض مما أحتاج إليه.

طبعا لم يكن لاستخدامك الشخصي، فكيف يمكنك وقد تعودت على ما تبيعه محلات القاهرة أن تستخدمي ما تبيعه “رحيل”؟! حتى لو ادعت أنه أغلي ما في محلات المنصورة، تهادي به الصغيرات، والعرائس من أهل البلدة. أو ربما الرغبة في القيام بدور المحسنة.

أستقبلها في حجرة الضيوف حتى إذا ما استراحت وتناولت غذاءها وبعد مشاهدة ما تحمله من قماش أو إيشاربات أو عبايات، أتركها وفي يدها كوب الشاي، وعندما أعود لها بالنقود أجدها قد أسندت رأسها لرجل كرسي الصالون المذهب وورداته الزيتية على القطيفة البيج الغامق، أغلق عليها الباب، تعلق فاطمة:

– معقول يا ست ولو حضر ضيف.

– نصحيها يا فاطمة.

تتعاطفين معها.

تعجبني صراحتها.. تمد ذراعها بالخمار، تعيده لراوية

– الخمار خنقه ولخمه. وماله إيشاربي ده!

– ربنا هيغضب عليك.

– هيغضب عليًَ! ازاى؟ هيأخد دراعي التاني؟ يا ست أنا راضيه بقضاه، عمري ماسألته ليه؟ سيبي الغضب والرضا ليوم الحساب.

أما الأكيد فهو أن رحيل كانت نشرة أخبارك المحلية، وستصبح شريكة لك.

جاءتني رحيل بعد فترة وقالت: ما تشاركيني في تجارتي.

لحظتها استخففت بما قالته، ولكنك كالتاجر الماهر الذي لم يكن يوما من جدودك، أرجأت الأمر وتركت الباب مواربا.. لكي تتأكدي أن ما سمعتيه عن “حليمة عبد الملك” صحيحا، الشابة التي بدأت تجارتها بشراء القطن من الفلاحين في البلاد المجاورة ثم تصنيعه في مصنع تمتلكه، وسرعان ما أقامت مصنعا ثانيا وثالثا، وأصبحت كما يقولون “ملكة القطن”.

فأية مملكة كنت تطمعين؟

الآن أصبح لديك بعض المدخرات.. من مصروف البيت وما يعطيه لك “فؤاد” وكنت تحتاجين لشيء خاص بك، لسر تحتفظين به وحدك، لشيء تخفينه لملك خاص لك.

والموت وما يرويه لك ألم يكن سرا تحتفظين به؟

الموت يصر على قلب الحقائق التي أعرفها ويصدقها الناس من حولي.

من يصدق ما يقوله عن الغراب إذا رآني أستعيذ بالله من مصيبة قادمة عند سماع صوته؟ من يصدق أن الغراب هو رسول الإله وأنه يمتلك قوى غريبة وقدرة كبيرة على التنبؤ، وأحيانا يتصرف كمرشد أو دليل للإنسان، وأنه يحكي كل ما يسمعه؟! ما يقوله الموت لن يمنعني، عندما أرى الغراب واقفا على فرع شجرة بالحديقة من الإسراع بتناول سكينتين من المطبخ وضرب إحداهما بالأخرى حتى يتوارى بعيدا.

هذه ليست أسرارا، ما يحكيه الموت لي لا يفرق كثيرا عما تحكيه المسنات اللاتي نسيهن.. لكني أحتاج إلى سر حقيقي.

و”رحيل” هي أمينة سرك، ونقودها تحفظها عندك، ولما ماتت فجأة وجاء أخوتها يطالبون بنقودها، طردتهم من البيت ووزعت نقودها صدقة على روحها. تحول مشروع تجارة الملابس الجاهزة الذي تمويلينه سرا إلى مشغل ثم مصنع صغير تديره “صفية” بعد موت “رحيل”.

الأيام تُنمي الأشياء وتُميتها. عندما حكيت لرحيل عن الموت قالت يا ست حُسنة (من رأى ملك الموت عليه السلام مسرورا مات شهيدا، فإن رآه ساخطا مات على غير توبة، ومن رأى كأنه يصارعه فصرعه مات، فإن لم يكن صرعه أشرف على الموت ثم نجاه الله. وقيل من رأى ملك الموت طال عمره.)

هل هذا حديثها أم إنه قول ابن سيرين؟

لكنه بأية حال قول مفيد يمكنك التباهي بمعرفته في جلستك الأسبوعية؟

جلستي الأسبوعية!! كل شيء يفقد طعمه الآن.. كنا نجتمع، نشرب القهوة، الزنجبيل، القرفة، نتبادل الأحاديث.. نميمة ،كذبات صغيرة، تجميل، تعرية، لكنها أحاديث تنفس عن الروح وتمنحها انتعاشا، أحاديث لا يمكن للرجال أن يستمتعوا بها، فتأثيرها وقدرتها على تبديد الكآبة والحزن تكمن في سريتها، النكات البذيئة، الأوصاف المحرمة، تبادل الخبرات، الوصفات، الضحك حتى تغرق العيون بالدموع، ونعود بعد هذه الجلسة مفعمات بالحياة ويصبح كل شيء محتملا وفي أحيان كثيرة جميلا.

تفرقت المجموعة، من مرضت؟ ومن ماتت؟ وبقي سؤال جلستي الأولى عالقاً. ماذا أحكي لهن، هؤلاء السيدات المتطلعات لي بين حاسدة وناقمة ومنقبة بما يجعلها تتعجب وتقول: هذه هي الفلاحة التي تزوجها فؤاد بيه الكاتب!!

تردين عليهن بابتسامة غائمة. إذا سألتني ما الذي تحبينه في نفسك؟ سأقول ابتسامتي التي أنقذتني في كثير من الأحوال وحيرت من يراها وأعطت انطباعا بالرضا والسعادة

ما الذي يمكن لي أن أحكي عنه؟ جذوري.. لا أعرف إلى أين تمتد بل ويبدو لي أنها جذور ضعيفة تطفو على سطح مجرى مائي ضحل، لا أعرف شيئا عن جدي، ويبدو أبي دائما وحيدا دون عزوة أو أصدقاء، يؤدي مهامه ثم يتخذ مكانه على طرف المجلس، ليرحل دون أن يميزه أحد.

لا شيء في ماضيّ مميز، لا تفاصيل غنية..لا أسرار، ماذا أحكي..

“فؤاد” قليل الكلام عن عائلته، وكان هذا مريحا بالنسبة لي.. أتاح لي فرصة البحث وكان يفاجأ بمعرفتي بعمته “فايزة” وزوجها ويسألني كيف عرفتي؟

- إنت كل أدراجك مفتوحة.

وغير الأدراج المفتوحة، الصور المعلقة على الحائط في السرايا، صور أقارب فؤاد.. رجال بملابس رسمية، بدل سوداء، تزينها نقوش لأوراق نباتات ذهبية، أحذية لامعة مقدمتها رفيعة .. سيدات بجوارب من النايلون سوداء أنيقة، لا تخلو الأصابع من خاتم تلمع فصوصه في سواد الصورة، واليد بها جوانتي أبيض، ابتسامات، اطمئنان، رضا. صورة لفؤاد طفلا بالعقال العربي. ما الذي تغير فيه؟ صورة لوالد فؤاد وبصحبته ثلاثة أطفال، الوالد يستند إلى الكرسي الذي تجلس عليه طفلة جميلة بشعرها اللامع القصير الذي ينسدل على جبهتها، وفستانها الفاتح يرتفع عن ركبتيها، و”فؤاد” يضع يده حول كتفها، وهو يرتدي جاكت من الصوف، وتحته شورت من نفس القماش واللون. ولما سألته عنها قال إنها “حياة” ابنة عمه.

– أين هي؟

– ماتت.

صورة زفاف والديه: والده ببدلة سموكنج سوداء وقميص أبيض والبيبيونه البيضاء تتوسط عنقه والطربوش المائل قليلا لليمين يزيد من طوله مقارنة بعروسه التي تقف مرتكزة بجسدها على قدمها اليمنى بينما تحني اليسرى قليلا حتى تحاذي نهاية ذقن العريس ولا تزيد، حذاؤها من الساتان والفستان من التل المشغول بالفضة الذي يتجاوز طوله ركبتها قليلا، والجوانتي الأبيض يمتد إلى ما بعد كوعها، وشعرها القصير تبدو أطرافه من تحت الطرحة التي تمتد بجانبها طويلا على أرضية الصورة.

من الصور يستطيع زوجي أن يقول إنه ابن.. وابن..

بل إن رجلا مغربيا جاء إليه بشجرة نسب يعود جذعها إلى الإمام الحسن وجذرها إلى المصطفى، وطلب منه أن ينضم إلى جمعية النسل الشريف ورسم الاشتراك خمس جنيهات لتحسين أحوال آل البيت.

أما أنا فمن أكون، حُسنة بنت حسين الفقي …

حاولت كثيرا إقناع “يحيى” أن يتزوج. لكنه يقول: وبناتي؟

“نور” و”شمس” و”قمر” لسن السبب، لكنه متمسك بحبه لصفية، يحرص عليه أكثر بعد وفاتها، في الأيام القليلة التي يقضيها في البلدة، يبقى معظم وقته جالسا تحت شجرة الجميز، يقبض على الطمي فيخرج من بين أصابعه مائدة مستديرة بأربعة كراسي، تجلس عليها “صفية” مع بناتها وعلي يمينها يقف زوجها “رزق”، وعلى يسارها يقف هو، وهي لا تسمح لأي منهما بالاقتراب من مائدتها.

والنسوة يقطعن تهامسهن حين أنضم إليهن.. ما الذي يجبرني على إبقاء هذا اللقاء الأسبوعي العقيم.

تغفو قليلا وتفتح عينيك، وهم مازالوا يتحدثون، تهز رأسك مبتسما ببلاهة طفل وأنت لا تفهم ما يقولون، ويصبح ما بينك وبين من يجلسون معك فقط ما تشعر به تجاههم، تحبهم، تكرههم، لا ما تراه منهم.

جلستي الأسبوعية، ماذا يتبقى منها غير أحاديث تافهة. لكنها العادة، الرغبة في معرفة ما يدور حولي. تتلاشى أصوات الرجال وتبقى إحداهن تحكي في أذني:

يلومونني على محاولة التخلص من الجنين، ماذا كان بيني وبينه، غير القرف والنزيف والوجع، لا يقوم من فوقي إلا ليأكل، مستعجل يريد الولد الذي يزيد عائلة “النحال”، وأنا بقرة للعشار، والفحل لا يترك البقرة، والسؤال في العيون، يوم بيوم تتابعني الداية. كرهت نفسي، بطني، “محمود” زوجي وكل الذي من رائحته…مثلي مثل أية واحدة، نقى واختار الأحسن بالنسبة له، جميلة، مطاوعة وأهم شرط قوية تقدر تشيل، وكله من أجل ضمان الخلف. وفجأة أصبحت صحته في النازل. يقولون نَفسي كان وحش عليه، وأنا ؟ماذا أخذت من نفسه؟ ولد حرموني منه، وميراث رفضوا حصولي عليه، حتى ما أخذته بالمحاكم كان مصدر طمع لمن يرغب في الزواج مني. محاولات الإجهاض، الولادة المتعثرة بعد وفاة “محمود”، أراحتني من عبء طفل جديد، لكن عوض لا يعرف كل هذا كل ما يعرفه أني تركته، الخيار لم يكن لي، جدته صاحت:

- عايزين ابننا بس.

- وأنا ؟

- مكان ما كنتي، بيت أبوك أولي بك، ابعدوا عني وجه الشؤم.

هل كنت أصدق وأنا أستمع إليها أن “عوض” سيصبح يوما الرجل الوحيد الذي يسكن بيتي؟! يحتل مكتب “فؤاد” ويملأه بالثعالب والذئاب المحنطة، وفي الصباح يدخل حجرتي وفي يده أوراق يطلب التوقيع عليها وحينما أنظر لراوية تفر مني عيناها.

حميمية صوتها وأساه ترجعني لصوت داخلي: السجاد لو اتسخ ننظفه، المشكلة أن فيه حاجات أهم لو اتسخت مش ممكن تنظيفها.

وتشير إلى قلبها .. “الياصابات” الراحة في ظل شجرة كافور بجوارها زير به ماء بارد، لمسة قدمي المتعبتين لبلاط مندى، وخدر راحة يشملك من أصبعك الصغير إلى منبت الشعر في رأسك.

تنتظرني في الفراندة يوم السوق أضع “السبت” أمام الباب المؤدي إلى الصالة، خوفا من توسيخ السجادة، فترفع يد “السبت” وتشير أن أرفع اليد الثانية:

- السجاد لو اتسخ ننظفه، المشكلة أن فيه حاجات أهم لو اتسخت مش ممكن تنظيفها.

المرة الأولى التي أسمع منها كلمة مشكلة فقد كان لديها حل لكل الأمور حتى ليتبدى لمن يعرفها أنه لا توجد لديها مشكلة، أو أنها لا تعرف معنى هذه الكلمة.

وعندما طلب فؤاد يدي، كانت مشورتها أول ما فعلت، وكان رأيها: فرصه هايله، حكاية السندريلا بتتكرر، أحيانا.

أفاقتني كلماتها على الحقيقة التي تغافلتها، السور العالي الذي يفصل بيني وبين فؤاد، المساحات الشاسعة التي تفصل السرايا وفدادينها الأربعة عن بيتنا القابع بعيدا حارسا للمقابر.

وماذا عن مجلاتها التي تحكي عن ملك الإنجليز الذي تنازل عن عرشه من أجل حبيبته المطلقة، وملك المصريين الذي سيتزوج للمرة الثانية من الشعب.

–الجواز مش فسحه.

لكن شيئا لم يكن ليثنيك عن رغبتك.

هي أيضا لم تكن تحاول، كل ما في الأمر أنها كعادتها تنير لي ما حولي كي أراه جيدا. ساعدتني في اختيار ما أحتاجه كعروس وقررنا السفر إلى “المنصورة”. “المنصورة” كانت حلما وكنت أسمع عن “سوق الخواجات” الذي يباع فيه كل شيء فاقترحت مندفعة:

- نروح سوق الخواجات، سنيه بنت العمده اشترت شوارها من هناك.

- عمده! انسي حاجات الفلاحين، شوارك هيكون من أحسن المحلات في السكه الجديده.

ولم يكن ذلك آخر الأشياء التي كان علىَّ نسيانها، فقط كان أول القائمة. وهناك، ونحن نسير على البحر أشارت إلى عمارة عليها لافتة كبيرة في السطر الأول رضوان بك الكاتب وفي الثاني وبخط أصغر قليلا “محامي بالمحاكم الشرعية والمختلط”.

– ده مكتب المرحوم حماكي، ومن يوم وفاته مقفول. خسارة. لو فؤاد بك يشغله.

احتفظت بملاحظتها بالقرب من أذني، أتحين الوقت المناسب كي أطرحها على”فؤاد”.

وأنا مستغرقة في أفكاري طلبت هي من السائق:

- شارع الشريف الرضي في توريل يا أسطي!

وبالقطع لم أكن أعرف ما هو “توريل”؟ وأمام البيت رقم سبعة وقف السائق، صعدنا إلى الطابق الثالث، وأمام أحد بابين وقفت وأخرجت من حقيبتها مفتاحا ودخلنا البيت، هتفت فرحة كطفلة تستعرض فستانها يوم العيد، لكنها كانت تستعرض اتساع شقتها ونوافذها الواسعة التي ترى من جانبها النيل.

– إيه رأيك؟

– هتسيبي البلد؟

ويبدو أن نبرة صوتي كانت تحمل من العتاب أكثر مما تحمل من التساؤل، فجلست في أقرب ركن ويدها على فمها:

- تعبت. سارة نفسها تعبت، وأنا مش زوجة نبي.

- هشوفك تاني؟

- طبعا هازورك وتزوريني، والسواق ممكن يوصلك.

نقلت “الياصابات” عفشها وساعدتها في تجهيز أغراضها وعندما هممت بربط ماكينة الخياطة اعترضت:

- دى هسيبها لك.

بعد زواجي لم أر “الياصابات” حتى كان مولد ابني الأول، وكنت أطمئن عليها خلال متابعة حملي مع زوجها الدكتور “ناجي”. زارتني يوم “السبوع”، وأحضرت معها أبريقا كبيرا مزركشا.

سألتني كيف حال ماكينة الخياطة؟

– في عيني.

- بتستعمليها؟

- مفيش وقت.

- كل شيء له أوان.

وجاء الوقت الذي أصبح لي حجرة تخصني، حجرة فسيحة، تتمدد لتسع السحب البيضاء والغزلان والمراجيح وصور لابنة حبيبة التي أنتظرها.

يتبع

الفصل الرابع

الفصل الرابع

ساعة الغروب و”حُسنة” تكنس البيت وتلم الدجاجات، تصعد إلى سطح البيت، وبين ذراعيها كومة من كيزان الذرة، تتطلع من النافذة, تقف على البسطة ..المقابر أمامها مباشرة ممتدة إلى مالا نهاية واسعة سعة أعمار الذين يقطنونها وحيواتهم.

كان بيتهم البيت الوحيد الذي يطل على المقابر، يفصل بينه وبين باقي بيوت البلدة مساحة واسعة من الأرض المزروعة طوال العام بالأرز والذرة والقمح، ولا يربطهم بالبلدة سوى طريق ضيق لا يزيد عن مترين، يسير عليه من يود زيارة المقابر.

هناك في الجهة الشمالية الغربية للبلدة تقع المقابر، لا تبتعد كثيرا عن مجرى النهر، الذي يسير بمحاذاة السرايا الكبيرة. تتراص القبور بجوار بعضها البعض تاركة مسافات ضيقة متوازية للمرور بينها، وهذه الطرقات مأوى للكلاب والثعالب والذئاب ويتردد عليها من يهوى صيد هذه الحيوانات، فينصب فخاخه بجوار عين القبر، ومنهم “عوض” زوج “راوية”. تتأمل “حُسنة” قبابها الدائرية غير المكتملة وشواهدها الاسطوانية، التي تنتهي بعمة للعيون المخصصة لدفن الرجال، وبمثلث للعيون المخصصة للنساء.

لم تشعر أبدا بالرهبة من صمتها، بل كانت تراها عالماً آخراً، ولم يرسخ في ذهنها رغم محاولات أبيها المستمرة إقناعها أنهم تحولوا إلى تراب، وأن هذه المقابر فارغة إلا من عظام. بل إنها في أحيان كثيرة تقيم روابط وعلاقات بين من ماتوا، فتزوجهم ببعض، تتخيل قصص حب بينهم وكنت أصدقها، بينما يندهش أبوها من معرفتها، فعندما قالت إن جمال أبو إسماعيل لا يشعر بالراحة، وإن روحه لا تستقر في التربة التي دفن فيها، وإنها دائما ما تحوم حول مقابر عائلة البكري، نظر إليها باستغراب، ولما همت بأن تسأله، وضع يده على فمها، ونهرها بشدة أن تقول مثل هذه التخاريف، وهددها: إن من يتحدث عن الميتين يذهب إلى النار، وعندما تأكد من نوم حسنة وأخيها يحيى، همس لأمها:

- مين قال لحَسنه حكاية جمال وعايده بنت البكري؟

تنظر حُسنة إلى الأراضي الخضراء الممتدة على مرمى البصر، تفكر في الحياة الظاهرة والحياة التي تموج بها القبور، تستشعر أنفاس الراحلين، واستعدادهم للقيام بجولاتهم الليلية للاطمئنان على أقاربهم، وتستشعر القلقلة التي تسري في الهواء، في اللحظات التي تختلط فيها الأنفاس التعبة للفلاحين العائدين من حقولهم، والأنفاس المستيقظة من غفوتها النهارية.

وبينما عيناها تمسح كل الألوان والأشكال التي أمامها، يتوقف نظرها عند نقطة سوداء، ولما بدأت تتفحصها، وتدرك لمن هي، أخذت حرارة تسري في بدنها، وتنتقل إلى ذراعيها، فظنت كيزان الذرة التي تحملها أن موعد تحميصها قد آن، فأخذت تتملص من أسرها، وانفلتت على الأرض، بعضها تكسر ضلعه وآخرون تهشمت رقابهم، والقليل لم يصابوا، وتكوموا في انتظار مصير آخر، تحت قدمي “حُسنة” التي صدمتها مقدمة قطار، وظلت مصلوبة على واجهته، يتحرك بها القطار من محطة إلى أخرى دون أن ترمش… ما الذي جاء به في هذا الوقت؟ هو لا يزور المقابر، يكتفي بالشهرية التي يرسلها لأبيها كي يعتني بأرواح أقاربه، بينما يعطيهم دائما ظهره.تتأمله.. شعره هو أوضح ما فيه بلونه الأسود الذي لا تتوه لمعته في غيمة الضباب الرمادي الذي يرش نطفه الآن على الدنيا، فتتكاثر بمرور الساعات سوادا حالكا، ينيره القمر من مداراته البعيدة.

على مدار الشهر تتابع “حُسنة” القمر، ينمو ويكبر ثم يتناقص ويضمحل، تتطلع إلى وجهه فترى وجه أرنب يحمل دلوين على كتفيه كي يروي جزراته، يتربص به ثعلب ينقض عليه، ويقتلع الجزرات من منبتها، يقذفها في وجه امرأة تحمل طفلها على ظهرها، المرأة منهكة، متعبة، جائعة، تطارد رغيف خبز لا تطوله يدها.

يتردد إلى سمع حُسنة عواء ابن آوي، تدرك أنه يأتي من قلب الحقول، تستبشر وتردد: اللهم اجعله خير. يلفت انتباهها طائر يحوم حول المقابر، يحط على إحداها، يتحول إلى امرأة راحت تبكي على القبر فترة طويلة حتى غلبها النوم، وهي تنعق:

- وا ولداه، وا ولداه!

فيتملكها القلق، و لاشيء يقلقها في هذه الناحية أكثر من الليالي التي يكتمل فيها القمر، مطلا بوجهه الضاحك على هذه المقابر التي لا تدري ما الذي يفعله السيد فيها. رفع رأسه، رآها، يدها تسند ذقنها وعيناها لا تسقطان عنه, كانا وحدهما ومعهما الصمت والسكون، لتبقى هذه هي الصورة التي تراود خيال “فؤاد الكاتب”، حتى وأنا أتلقى منه روحه، وهو يسلمها لي بأريحية. تمحي هذه الصورة كثيرا من شكوكه، وتؤانسه في كل ما يتبقى له من أيام، ويظل يصف اللحظة التي رفع فيها بصره ورآها، بأنها اللحظة التي أطالت العمر وأحيت الروح، لحظة تجمع فيها الحزن والوجع فإذا بحضورها الأقوى والأعمق تأثيرا ينحت لها في روحه مكانا له عمق الأسرار واتساع الفضاء. كان “فؤاد الكاتب” رجلا رومانسيا رغم خطوط وجهه الحادة، ويمكن في مثل هذه الأجواء أن تقع له حوادث لا شك أنكم ستعجبون لها، لكنها المقابر والقمر المطل عليها وحورياته التي تنزل لتؤانس أرواح الموتى وتصوب لقلوب الأحياء سهاما من أشعة القمر. فلا تشفى من الحب أبدا . فلا تقربوها ليلا وقلبوكم في جنوبكم، وإذا لم يكن بد فسيحدث لكم ما حدث لحُسنة، إذ نزلت السلالم مسحورة, وفي يديها قلة ماء، اقتربت منه، راعها الحزن الذي يأكل وجهه, دون أن تتحدث مدت يدها، رأت قلبه في يده يحفر له بجوار الورود البلدية والصبار، مدت يدها أمسكت بالقلب كان به بقية من حياة، نبضه يُحس ولا يُسمع، وتجمعات دم متجلط في شريانه تعيق تنفسه، خلعت طرحتها الحريرية لفته بها وأخذت تربت عليه، رفعت بصرها إلى “فؤاد الكاتب”

- بتعمل ايه؟

- أدفنه.

- ليه؟

- الدم الفاسد ملاه، ومش محتاجه.

- ممكن أرجعه للحياه.

- ده فسد منذ زمن.

- وإذا نجحت؟

- احتفظي به لنفسك.

تركها ومضى وقلبه بين يدها مختنقاً، أخذت تربت على القلب الذي يذوي بين يديها، تتحسسه، وبكل حواسها تلمسه وتضغط على الكتل السوداء المتخثرة من الدم، بيدها اليمنى تعطيه من طاقتها، وتحفز فيه الحياة التي تتماوت. بعد فترة وتحت تأثير حرارة يديها، اندفعت قطعة سوداء لزجة، فبدأت تربت عليه بيدها اليسرى. بدأ نبض القلب يزداد، غسلته بالماء المعطر بالنعناع ، وظلت تحكي له حكاياتها، ليالي وهي تحكي عن هواها الذي لا تدري له مآل، والقلب يستجيب لها حتى أنه بكى بين يديها، لم يستطع القلب أن يبادلها الحكايات لكنه بادلها الدموع، وكلما انهمرت دموعه، اندفعت الكتل المتخثرة التي تميته، ومن شدة البكاء والنهنهة اندفعت أكبر كتلة من الدم الأسود، واسترد القلب عافيته، وبعد أسبوع بقيت قطعة صغيرة محشورة بين الأورطي والأذين الأيمن، ولما رأت “البيه” أمام صبارته ووردته التي سبق لها أن روتهما مرتين، مدت له يدها بقلبه، رفض:

– قلت لك مش عايزه.

حاولت إقناعه: ده قلب جديد.

تردد البيه لم يصدق أن فلاحة صغيرة يمكنها أن تتعامل مع القلوب. تحسس قلبه المعطر بالنعناع الأخضر وشكرها، وأخرج من حافظته كي يكافئها وقبل أن يقول هذه مكافأة لك، فوجئ بقلبه ينقبض، فظنه يتوجع من البرد، فأسرع ووضعه في مكانه بين الرئتين ومائلا قليلا للرئة اليسرى, ولم يلاحظ البيه أن بصمات حسنة كانت قد تركت آثارها على جدرانه الخارجية، ولما وصل قلبه إلى القصر محاطا بقفصه الصدري، تنبه القلب إلى حالة اليتم التي صار عليها، فأخذ يرفس ويحرن ويصرخ مما أفزع البيه وجعله يخرج كي يتنفس قليلا.

كل ما يحدث للبيه الآن لم يكن جزءا من حساباته، في البدء كان قلبه مريضا يؤلمه، الآن يعاني من نشاطه الزائد واضطرابه. ولأن الرجال دائما ما يفسرون الأمور على نحو خاطئ، فقد اعتقد أن هذا الاضطراب مفاده رغباته وأعضائه السفلية، فاستدعى السائق وأمره بتجهيز العربة، وسافر إلى القاهرة ليقابل إحدى صديقاته. لكن الأمر كان أسوأ مما يتصور، وفشل فشلا ذريعا، سيكون على مائة رجل من “آل الكاتب” أن يستعرضوا أطوال أعضائهم، وقدراتهم الجنسية في قلب ميدان التحرير، حتى تمحى الوصمة التي لطخت العائلة، ونشرتها مجرد مغنية دون أي درجة، لكنها خبيرة في أنواع الرجال بما يجعلها مرجعية في تقديرهم وتثمينهم في هذا المضمار، وليس هذا بالشيء النادر فدائما في كل العائلات تجد من يلطخ اسمها بشيء من العار، وهذه أشياء لا تدون سوى في التاريخ السري للعائلات الذي تحفظه المومسات والعاهرات الحاملات للخطيئة.

أراد البيه أن ينسى نكبته، فتذكر وجه الفلاحة التي طبعت بصماتها على جدران قلبه، وكان عليه لكي تدخل قلبه، أن يفتح لها البوابة لكنه كان مترددا، ولما أعيته الحيلة تذكر واجبه نحو أسلافه فاعتزم أن يزورهم، ويروي ورداته وصباراته، وعندما مد يده ليسلم عليها، وضمت يدها يده، كادت تصرخ، احتوت كفها الصغير يد دافئة حانية كرحم أم، غاصت في أعماقها وفي نسيجها، وستظل هذه الكف مأوى “حُسنة الفقي” الذي لن يطردها أبدا، سيظل سكنها وسكناها في خطوط هذا الكف، يحقق رؤاها ويفسر أحلامها، رغم أن “البيه” لم يكن ينوي ذلك، لكنها الحياة أو الرواية التي ستجعلها بعد أيام في طريقها لبيتها الجديد، تصحبها قلة من النساء، وأبوها إلى جانبها وزوجها على الجانب الآخر.. ترقب البيت الكبير معزولا في حديقته الواسعة التي تقارب الفدادين الأربعة يحاصره سور من الحديد في الخارج، وفي الداخل تحيط به أشجار الكافور والنخيل والصفصاف، كالربات تحميه من عيون الآخرين، ولا يبدو من السرايا سوى ما تظهره الأشجار التي تتباعد فروعها في بعض الأنحاء، يحمل البيت لونا طوبيا من حجارته، وبابه الكبير لونه بني وكل شبابيكه المستطيلة لها نفس اللون.

عالم جديد تقبل عليه، لكنها ترزح تحت عبء، سنوات طويلة، ومليئة بأنفاس ساكنيها منذ بناها جد “فؤاد”… يتعطل قطار الدلتا، والخديوي في طريقه إلى احتفالات افتتاح القناة، تجمع الأهالي حول أفندينا، الذي أراد أن يحرك ساقيه قليلا فنزل من القطار، ويتقدم منه شاب قوي البنيان، لا يكف عن منافسة أقرانه في السباحة في النيل، ولا ينافسه في تعلم القراءة والكتابة سوى فتى خجول، خطه جميل وأسلوبه ساحر، لكن خجله يجعله يرافق زميله كظله، تقدم الفتى الجسور من مولانا وبعد أن انحنى انحناءة خفيفة مؤدبة، فيها من التقدير والإكبار أكثر من الخضوع والخنوع، تكلم عن أحوال الفلاحين السيئة، وثقل الضرائب، وتقدم بعريضة يطالب فيها الفلاحون بنيل العطف السامي، ورفع يد الجابي عنهم، تكلم عن الجميع، بينما كان رفيقه الذي كتب العريضة، ونمقها بما يليق بالخطابات التي توجه إلى أرباب النعم، واقفا بعيدا في الخلفية.أعجب الخديوي بطلاقة الفتى الجسور، فأخذه معه إلى المحروسة، وهناك تعلم القانون وسافر إلى باريس. انقطعت أخباره لكنه عاد بعد ثورة عرابي بك كبير، وبني هذه السرايا، وبقيت حياته بين القاهرة و”الخديوية” الاسم الذي تحمله البلدة حتى الآن، وتوارث أولاده لقب “الكاتب” بينما اكتفت عائلة الصديق القديم بلقب “الفقي”.

لا تستطيع “حُسنة” أن تقول إنها فرحة، كان كل ما تبغيه أن يحبها، لا.لا. حتى هذا كثير، مجرد أن يشعر بوجودها، هل كانت تحلم وهي تجمع القطن ولا تفارقها صورته على حصانه بعيدا.. بعيدا على حدود الأرض الشرقية أن يلتفت يوما إليها؟

لا.. من كان يصدق أن البنت الصغيرة التي لا تعرف من الحياة غير أيامها المتكررة يمكن أن تحب؟ وتحب من؟ السيد النائي هناك على صهوة حصانه، أو في شرفة بيته الكبير.

كانت تلتقط رائحته قبل قدومه، فتضطرب روحها، ويتصاعد الدم إلى وجنتيها وأذنيها، ترتعش أصابعها ما إن يصهل حصانه، تتبع ظله المفروش على الأرض، المنسوج من أعصابها والمغروس في روحها، الباسط سطوته على كيانها.

هل تقول لنفسها أن تعقل، لم يكن هناك مكان للعقل.

منذ متى وهي ترقبه حتى أنها حفظت ملامحه وعرفت كدره، فرحه، سنوات وسنوات، هي نفسها لا تستطيع أن تبوح له بما كان منها دون أن يدري، الحكايات التي قصتها عليه، الضحكات التي اختزنتها له، أي سحر كان يربطها به فلا تبارحها صورته، وأي مطمع كانت تريد، لا شيء. بل إنها كانت تمعن في الابتعاد عن طريقه، فلا ترفع رأسها عن نباتات البطاطس إذا تصادف ومر من جوارها.

يا أيها السيد البعيد في عليائه لا تشعر بواحدة من رعاياك الكثر، من هي إلى جانب اللاتي يتمحكن بالوقوف إلى جواره، لعل واحدة تفوز بالعمل في البيت الكبير تنظر إليهن، جميلات وعفيات، فتهز رأسها.

وسيظل دائما لدى “حُسنة الفقي” هاجس أنها استولت على حظ امرأة أخرى، وستظل تتساءل ترى من هذه المرأة؟ ويراودها شعور بأنها أخذت كل الحظوظ الحسنة لبنات سنها، وأن الذي يوزع الحظوظ لم ير غيرها، لذا ستبقى تبتسم حينما يخبرها أحد عن شيء حسن حدث لها، أو ينقل إليها نبأ طيبا وتردد: كله على الله، ده حظ مش أكتر.

وإن كان تكرار الحظ يجعلها تتساءل ما الذي بها أعجب المرأة التي توزع الأقسام؟ لكنها تعود وتتذكر أنها مغمضة العينين. و”فؤاد” الكاتب هو الشخص المناسب، في المكان المناسب، بما يجعلك تؤمن أن ما يحدث في الحياة ليس عبثا، أو ألعاب مؤلفين يستهويهم قانون الصدفة، فالرجل كانت تستكين في نفسه هواجس عن قيمته الحقيقية، ماذا لو انه كان فقيرا هل سيحظي بكل هذا الاحترام، لا يستطيع أن ينسى جرحين بقيتا ندبتهما في الروح.. عندما سمع بأذنيه سخرية الجماعة الشيوعية التي انضم إليها لتحرير البلاد من الاستعمار أيام دراسته في كلية الحقوق.. أحلامه القديمة بالحرية والمساواة، قراءته لأباء القانون: منتسيكو، جان جاك روسو،.. إعجابه الشديد بالثورة الفرنسية ومبادئها، العدل، الإخاء، المساواة ..

لكن سخرية رفاقه أيقظته على حقيقة كونه ابن الطبقة الثرية التي تعمل جماعته ضدها، وأنهم لم ولن يصدقوه.

– لا طبعا، لا يجب أن يعرف فؤاد كل خططنا، في الأول والآخر هو منهم وليس منّا.

- لكن فؤاد مؤمن بنا ويقوم بكل المطلوب منه.

- يقوم بكل المطلوب منه شيء وأنه يبقي منا شيء ثاني، لن يكون أبدا منا، أنت تربيت في سرايا وحولك خدم؟ نقوده هي التي لنا، ونحتاجها لطباعة منشوراتنا.

لم يكن يحتاج لأكثر من هذا الحديث ليعود أدراجه إلي البلد، ليبقى فيها يراعي مصالحه، ويحاول أن يحسن في أحوال أهل بلدته بالقدر الذي لا يشعر معه أنهم يستغلونه، وكان لا ينفره أكثر من فلاح يتودد إليه لحاجة يريد قضاءها، لكن “حُسنة” التي هي منهم وتعرفهم، وتعرف مقدار انكسارهم كانت تتحين الوقت المناسب لتقول له: ما يقصدش يضايقك، ولكنهم ما يعرفوش غير الطريقة دي في الكلام. هما غلابة وطيبين، علمهم.

لم يكن لدي “فؤاد الكاتب” الوقت ولا القدرة التي تسمح له أن يعلم أحداً، فقد كان بطبعه رجلا مستقيما، بسيطا، قليل الحيلة، تعوزه الوسيلة التي يخرج بها من كل مأزق نفسي، ويفتقد المرونة التي يتلاءم بها مع المواقف المتغيرة والمتناقضة، وسيظل هاجسه الذي يتلوى في صدره، ويبخ سمومه في روحه، هو أنه بلا قيمة حقيقية، وأن ماله هو المبرر الوحيد لوجوده.

وحدها “حسنة الفقي” كانت تعرف روحه وسماحته، وتنبهه إذا ما لمحت قطرات الكدر تتجمع في جبهته، وتفرقها بتدليلها له ومحبتها، قبل أن تتكاثف السحب، وتهطل أمطارها السوداء معكرة صفو أيامها معه، وإذا غلبته شياطين هواجسه، تأمر من في البيت بالسكون وألا يقترب أحد من كبيرهم وتكون في هذه الأوقات الربان الماهر “لآل الكاتب”، حتى تسترد روح زوجها، والرجل الوحيد الذي أحبت واشتهت في هذا العالم، وكان هو يقدر لها هذا ولا يخجل من نوبات ضعفه ويطلعها عليها.

أثقلت الأيام عليه. وحين تسيطر عليه هواجسه القديمة, فيبدو كرجل يحمل دهرا كاملا لا ستين عاما لن يخجل من أن يسألها ممسكا بيدها، ودون أن يستحلفها أن تقول الصدق:

- لو مكنتش البيه الغني كنت ترضي تتجوزيني؟

فتفهم حسنة مراده وتكتم غيرتها وتواسي ندبة روحه:

- طبعا ولو مكنش حيلتك غير جلبيتك، كانت البنات تتخانق عليك وتسحر لك كمان, كفاية حنانك.

وينسى أن زوجته تغار ويفتح روحه لصديق لا تنتهي مسامراتهما

- مش كل البنات يا حُسنه.

- كل البنات يا فؤاد.

فيدير وجهه ويخنق صوته السؤال الذي ظلت تخشاه

– طب ليه واحده تختار الشلل ولا تختارني؟

ياه. بعد كل هذا العمر، يتجسد لها هاجسه الذي ظلت تغض البصر عنه، كأنه الباب الذي أوصاها أحدهم بألا تفتحه، وقبل أن تغرق في دوامتها، مد لها حبل نجاة، وقبَّل باطن يديها وهو يتمتم

– حبك داوى جروحي، لكن اغفري إن لمست ندباتي، فتذكرتها.

ولكن لأنه ليس بهذه السهولة تداوى الجراح أو يمنح الغفران. تحكي لي “حُسنة” في أيامها الأخيرة عن ابنة عمه التي تسكن غرفة في الدور الثالث من السرايا، تقابلتا مرات قليلة، في الأعياد حين تصعد إليها بصحبة فؤاد لتهنئتها بالعيد، تتبادلان كلمات مجاملة مقتضبة، وشجعها على ذلك ولم يثر غيرتها أو شكوكها لا مبالاة فؤاد بها وتعامله معها على أنها أحد مسئوليات كبير آل الكاتب. وعندما همت حياة بالنزول بكرسيها المتحرك، بمساعدة دادة وهيبة لتودع “فؤاد”، كانت “حُسنة” هناك على رأس البسطة، تبادلها نظرات وحديثا صامتا، أدركت منه “حياة الكاتب” ألا وجود لها إلى جوار المحتضر، وأن مكانها الوحيد هو حجرتها، وربما فقط سريرها أو كرسيها داخل تلك الغرفة.

هذا ما ترويه حُسنة، لكن من يصدق امرأة تصادق الموت؟

يتبع

الفصل الخامس

الفصل الخامس

غسلته كما علمتني يا أبي.. سخنت الماء إلى الدرجة التي يحبها ويتحملها جسده، تحسستها كما كنت أتحسسها وأنا أملأ البانيو لحمامه الأسبوعي بعد الحلاقة، فتأكدت أنها فاترة وكنت واثقة من طهري فلا حيض بعدد انقطاع الدورة الشهرية لوقت طويل.

أحضرت الماء الدافئ، لينت أطرافه، مسدتها، استخدمت ليفته. بدأت برأسه ثم وجهه ويديه ثم جنبه الأيمن ثم الأيسر وقدميه: اليمنى فاليسرى، ثم غسلت الجسد كله بالماء، ولم أنس أن أضغط على بطنه، لكن “فؤاد” كان قد عاف الطعام قبل وفاته، أردد وأنا أغسل الذراع اليمنى، اللهم أعطه كتابه بيمينه وحاسبه حسابا يسيرا، عند غسل اليسرى، اللهم يسر ولا تعسر، اللهم حرم شعره وجسده كله على النار، اللهم ثبت قدميه على صراطك المستقيم.

كم من الوقت مضى قبل أن يخلع ملابسه أمامي؟

يدخل الحمام بملابسه كاملة، لا يخلع سوى الروب، يضعه على الكرسي المجاور لباب الحمام.. وجود حمام في نفس غرفة النوم كان أول ما أثار انتباهي في البيت الكبير، البنت التي أعرفها تقضي حاجتها في الخلاء، بيوت المتيسرين هي التي تحوي الكنيف، والماء القليل يجعل له رائحته الخاصة، وهي رائحة بكل الأحوال لا تغري بوجود الحمام في البيت، فما بالك بحجرة النوم. لكن حمام السرايا معطر دائما، وما ورد في ذهن البنت التي أعرفها حين دخلته للمرة الأولي: إنه أحسن من حجرة الضيوف عند العمدة.

يأخذ حمامه من الدش، يراقبني وأنا أحاول النفاذ إليه والاقتراب مما تحت الجلد. مرات كثيرة ولا يكتمل اكتشافي له، المرة الوحيدة عندما غسلته. جسده مستسلم لدفء أصابعي أملأ كفي بزيت الورد، يتلألأ الزيت الذهبي بابتسامات عشرات العذارى، من أجلك يجمعن الورد الهندي والدمشقي والجوري، قبل شروق الشمس، تنقع البتلات وتقدمه لي الصبايا، ادهن به جسمك.

أجهز ثوبك الأخير، أعطره بكل العطور التي تحب وبنفس ترتيب استخدامك لها طوال اليوم.

القميص الأول رداء طويل من الكتان، ليست به أية تفصيلات، يناسبه عطر يحتوي على الياسمين كي يكون صباحك منتعشا ونشطا.

يليه الدرج الأول من قماش أبيض يشبه الشاش، عطر” سيمار” يعطيك الإحساس بالأمان في رحلتك الطويلة .

ثم الدرج الثاني من قماش الدبلان الأبيض. وسط النهار، بعد الظهر تستخدم عادة عطر “الأورنجا”

أضيف الدرج الثالث: القطنية. عطر”كوول واتر” للحظات الصفا والسكينة. والدرج الرابع والأخير من الكشمير.ما ستواجه به الآخرين، دائما ما كنت تبدو لي شامخا، عظيما، مسيطرا وستؤكد ذلك مع عطرك المفضل “يانجان”.

وسأكتفي أنا بزهرة التمر حنة في يدي.

من بين ملابسي، أخرج قماشة بيضاء، بها حبيبات ناعمة ملساء، لونها أحمر داكن، أشعلها، فيحترق المسك الذي ادخرته لهذا اليوم، وتتصاعد رائحة نفاذة مع لهب أبيض، يظل يتراقص أمام عيني، وتنفذ رائحته إلى خياشيمي وتسكن هناك، أستدعيها كي تعيد أمني وتهدهد روحي. في المبخرة تتفحم قطعة المسك، ما تبقى منها في يدي حبات فحم إسفنجي وملمسه الرملي يتفتت بين أصابعي ويتلاشى كما تلاشت روحك، دون أمل في استرجاعها..هل لي أن أحاول ؟..أتمدد على جسدك، دافئا كما كنت دائما، أضغط عليك بجسدي، أستحث خلاياك أن تتحرر من أغلالها الدائرية، أرتفع قليلا قليلا، أعود مرة أخرى أضغط ثانية، أتوسل أن تحطم روحك قيود الموت وتهرب من سلاسله، أرتفع قليلا قليلا، أعود ثالثة أبتهل أن تعود روحك من خلالي، وتصحو من نومك، لكنه يراوغني.. يقترب موعد صلاة الجمعة، ينهض من سريره، يجلس بين يدي الحلاق. أتأمل صورته التي أعطاها لي حديثا ووضعتها في إطار فضي على الكومودينو المجاور لناحيتي من السرير.. صورة التقطتها عدسة المصور فور تخرجه من كلية الحقوق، ثبتت هذه الصورة في ذهني، أنظر إليها فأشعر أنها لابن ذاهب إلى “الجهادية” وسوف يعود. نادرا ما أتذكر صورته الأخيرة وشعره الأشيب يجلل رأسه، شعره الذي لم ينحسر عن جبهته سنتيمترا واحدا، شعره التام الكامل يبعث الثقة وسوالفه التي ستتغير ظهورا واختفاءً بناءً على نصيحة الأسطى على الحلاق الذي يزوره كل جمعة قبل الصلاة.

سينادي الآن بصوته الآمر:

- الحمام جاهز يا فاطمة؟

لا. لقد تغيرت الصيغة ونبرة الصوت. فعامان كاملان يكفيان لأصبح ماهرة في التقاط حركة شفتيه وهو يهمس برقة أثيرية ومحبة: الحمام جاهز.

يجدني على رأس السلم فور انتهاء الحلاقة وهو ممسك بالكرة الحديدية التي تزين مقدمة الدرابزين الخشبي وإحدى ساقيه على أول السلمة والثانية لم ترفع بعد، وبمرح يجعلني أتمنى تأخير صلاة الجمعة للأبد. فأهز رأسي:

- طبعا.

وأخطو في الممر الطويل المؤدي إلى غرفة النوم، وقبل أن أفتح باب حجرتنا يكون قد لحق بي، فيضمني من الخلف، وألتفت إليه لأقبل رقبته، تصعد شفتي إلى ذقنه ثم أحك خدي بخده:

- إيه أخبار الحلاقة؟

- حرير.

ويفك لي حزام الروب الساتان …

بعدها بسنوات طويلة قالت لي ابنتي:

- لا يجوز. بمجرد موته أصبح غريبا.

أشتاق إليك فلماذا لا تأتيني, أحمم حصانك, أتشمم ملابسك، أرتديها, أنام في جلبابك فما الذي يبعدك عني. لدىَّ إحساس دائم أنني لم أعرفك، وأنت أيضا لم تعرفني.

ما الذي ينقصنا لتكتمل علاقتنا ؟ شيء مراوغ يفلت من يدي، ينزلق ولا يتبقى سوى طيفه ربما تولد في تلك الصباحات البعيدة، في الساعة التي أجلس فيها لأشرب فنجاناً من الشاي، وفي داخلي أمان وانتظار، عندما انطلق البيان الأول في العاشرة والربع من إذاعة البرنامج العام اتصلت به في المكتب وكان رده مقتضبا: عرفت.

على مدى اليوم لا أمل الاتصال به – فؤاد أسقطنا 22 طائرة، أسقطنا 42 طائرة، لدينا أسير 6,4,2,…..

يتململ صوته: سمعت.

في المساء صفعني على وجهي:

- 86 طائرة !! ليه بيصطادوا حمام! إنت عبيطه؟

عبيطة. هل هذه صورتي لديه؟ بلهاء يمكنها أن تصدق أي شيء، حبه، حمايته إخلاصه. تصدقه وتجلس أمامه في الفصل وهو يكتب عنوان الدرس “ماذا تفعل في الغارة”، تحفظه.. يشير لها، تسمع.. إذا كنت من سكان الأدوار العليا فانزل إلى بدروم المنزل أو الطابق الأول.. ابتعد عن بئر السلم فقد ثبت بالتجربة أنه أكثر الأماكن في المنزل تعرضا للانهيار.. الزم الهدوء التام حتى تسمع صفارة الأمان، إنها تعطي صفيرا متصلا لمدة 45 ثانية.. تأكد من أنك أطفأت جميع أنوار منزلك وساعد رجال الدفاع المدني في إرشاد جيرانك لإطفاء أنوار مساكنهم.. تأكد قبل تركك المسكن إلى المخبأ أو بدروم منزلك أنك أغلقت جميع محابس المياه والغاز…

هل سيتذكر “حياة” ويوصي بإنزالها إلى الدور الأرضي؟ مع كل مرة يفتح فيها فمه، أنتظر أن يقولها:

- حُسنه! اطلبي من الشغالين تجهيز أوضه في الدور التاني لحياة.

لكنه نسيها فنامت كل هواجسي واستمر الدرس.. مدفعية عادية ومدفعية مضادة للطائرات ومعدات ثقيلة وجنود القوات المسلحة المصرية في مطار عمان الحربي، العراق تنضم لاتفاقية الدفاع المشترك، إننا ننتظر المعركة على أحر من الجمر، قواتنا تتوغل داخل إسرائيل، التقدم العربي الجبار، الجزائر، السعودية، العراق، الكويت، الأردن، السودان، سوريا معنا في قلب المعركة .

أصم الدرس، أردده، والنتيجة؟

– 86 طائرة!! ليه بيصطادوا حمام! إنت عبيطه؟

طفلة غريرة، يسخر منها، هذه هي صورتي لديه، عيناه تراني هكذا، وبكل حمق الأطفال أوزع الشربات، وأصب ماء الورد لكل من يمر أمام السرايا , وفي اليوم الثالث عندما سألتني فاطمة:

- يا ستي أبل الشربات؟

نظرتُ للخريطة كانت كما هي، نفس الخريطة لا تتغير، البحر الأحمر، خليج العقبة، فلسطين المحتلة، الجمهورية العربية المتحدة. الخريطة ثابتة وفي نفس المكان وكأنه ليس هناك جديد.

نظرتَ لي باشمئزاز “إنت عبيطه” وأشرت إلي كلمة “لكن” تحت عنوان الجبهة المصرية وعلقت في رقبتها ناقوس

“ولكننا واجهناهم بشجاعة وعناد.. قواتنا المسلحة تدافع وترد الهجمات على مواقعنا في العريش والقسيمة وأبو عجيلة وتكبد العدوان خسائر في العتاد البري والطيران”

قلت لها: استني شويه.

لكنها انتظرت طويلا. وعندما أعلنوا في يوم وأنا أتابع تجهيز طعام الإفطار أننا عبرنا القناة، قررت مقاطعة الراديو، وختم القرآن الكريم فمن يتحمل الخيانة مرتين.

انتهي الدرس ودق الجرس.. بيتك.. بيتك.

كيف أمكن لك أن تتصورني بهذا الشكل؟ ساذجة وعبيطة وغبية وأنا التي صدقتك في كل ما قلت… وللمرة الأولى أرى عينيك التي تحدثوا عنها كثيرا, حزينة والدموع معلقة فيها وقررت الانسحاب وتخليت عني…

بعدها تجنبت الأحاديث والأراء والفرح والضحك مخافة أن تظهر لي الدموع التي تملأ عينيك الواسعتين وتزيد لمعتهما مرة أخرى… تنحدر الدمعة على خده تتلألأ في ظلمة موقعه النائي، حيث يجلس على طرف الصف الطويل للمعزين بعيدا، حيث لا يصل ضوء الكشافات التي تتمركز حول رأس المقرئ المتسلطن على مقعده العالي. تستقر التنهيدة التي أخرجها الأب في صدر البنت الصغيرة التي جاءت تستدعيه لأن صرخات أمها أصبحت تعلو في انتظار مولودها، تسمرت البنت أمام الدمعة المعلقة، التي تجذبها الأرض بطيئا، وتعوق مجراها كبرياء رجل طالما انتشى بكلمات الإعجاب لترتيله، تحسس الرجل حنجرته التي أصابها التهاب لينزل من كرسي المقرئ وآهات المعجبين بكلام الله إلى مجرد فقي يلحد الموتى، ومقرئ له راتب في كل بيت، يمر على البيوت من السابعة حتى أذان الظهر.

تفر عينا الرجل بعيدا عن الكرسي الذي يصدح “وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة…”

البنت التي حرقتها دموع أبيها لا يمكن لها أن تنسى الوجه المنتفخ المتعالي المتسلطن السارق لمقعد أبيها.. لكنك بقيت في مقعدك.. سأبقى كما أمرني الشعب.

علمت ببقائه عندما وصلتني دقات الكنائس من المنصورة والأذان الذي ارتفع في غير موعده، لكني كنت قد أعطيته ظهري للأبد حتى أنه عندما مات وغلبتني دموعي، لم أسمح لها أن تظهر سوى أمام مرآتي في الحمام وألا يكون لها أثر سوى طرف الكم الأيمن لجلبابي الموهير الذي انتظر به الشتاء.

ماتوا جميعا وبقيت “إنت عبيطه”.. سري الصغير، هاجسي الذي أرق أيامي. الإجابة الجاهزة لكل ما تمنيته ولم يتحقق. لم يطلب من مسيو عدنان أن يرسم لك بورتريه ويزين بصورتك مدخل الصالون. “لأنك عبيطه”.

أحقا كنت تطمعين في ذلك يا ابنة الفقي.. فتلتفتين الآن في انتظارك للمرآة، وتتخيلين كيف يكون بورتريهك، وبأية زاوية ستكونين. تعيشين أمام المرآة تختالين بنفسك كلما ارتديت جديدا، وتقولين غدا..وغدا لا يأتي, كم اخترت من أوضاع ؟ ولم تتحقق؟ وبقيت منعكسة على صفحة مرآتك، حية في ذاكرتك تخرج لسانها لك: يا عبيطه.

مع طول عشرتنا لم أكشف لكَ سري.. تماهيت فيك حتى أخذت كل صفاتك، وتعلمت منك صمتك الذي لا يبين عما تخفي دواخلك، روحك وسراديبك ظلت غير مأهولة,

وسأظل أندم طوال أيامي أني لم أسألك صراحة، كنت أردد سأعرفك غدا، وفجأة مت، وتنبهت أن الفرصة مضت ولن تعود وأنني لن أعرفك, ولن تعرفني, رغم جسدك العاري المسجي أمامي، وجراحك التي مازالت مفتوحة، أحاول تطهيرها. سهري بجوارك, لمسات أصابعي على جسدك، ضغطي على يدك وأنت تتألم، ارتعاشات روحك التي شعرت بها. رغم لهفتك، ثقتك، مؤازرتك لي, عبارتك الحاسمة للأولاد.

- ماما هي اللي تختار.

تقولها أنت والابتسامة تملأ وجهك، فتعود الضجة التي جئت من المطبخ على أثرها: سينما التحرير الصيفي يا ماما.. طبعا “السباق العجيب”, بلاش الأفلام العربي.. مفيش أحسن من “ناتالي وود” و”جاك ليمون”.. لا. “هارب من الزواج” يا ماما.. “سلطان”, وحش الشاشة يا ماما..

آخذ منهم الجريدة وأفكر. أنظر إليك.

- يلا يا ماما.

أتوجه إلى التليفون أطلب الرقم 3219

– ألو سينما عدن؟

- ……..

من فضلك احجز لنا بنوار لحفلة سته.

– …..

– فؤاد بيه الكاتب وعائلته.

وألتفت لعشاق “نتالي وود”: فيه ممثله جديدة اسمها “نادية لطفي”، مجلة الكواكب نشرت صورتها ونفسي أشوفها.

كنت أحتاج إلى إجابة واضحة مثل الشمس أعلقها على صدري.

لكني لم أسأله، كل شيء كان جيدا بل كنت محسودة حتى من نفسي، وهي تردد أمامي كلما حدثتها “أتحفيني بخرافات أيامك الأخيرة، امرأة تافهة تبحث في شقاءات الآخرين وتريد أن تبكي على نفسها”.

في أيامك الأخيرة لا أحد يرضى عنك..

تعيد “فاطمة” الطبق لي:

- يا ستي “الرز بلبن” حلو قوي، إنت اللي بقك بقى دلع.

يفيض الأمر بالمسكينة، بعد مرات عديدة، وأنا أضع طبق المهلبية جانبا, وأنزوي على نفسي في غضب.

عبارتها الحادة، وصوتها الذي نفد صبره, لا يعني أن أصدقها.. وليس عليك أنت أيضا أن تصدقها. ماذا يعني أن تمتلك لسانا ناعم الملمس، وخدودا تجهدك عند مضغ قطعة لحم, بلعوما يتكاسل عن استقبال لقمتك, تتعرض للإمساك بين الحين والأخر..عليك بالإقلال من أكل الموز, وشرب القليل من الخل الذائب في الماء, ستشعر فورا بالراحة.

لكن فاطمة أو أية خادمة غيرها لا يمكنها أن تنكر حالة أسناني الكاملة، أغسلها كل صباح ومساء حتى لا يتهمني “فؤاد” بأنني فلاحة.

- ياستي “الرز بلبن” حلو قوي إنت اللي بقك بقى دلع.

جيد أن يكون فمي دلعا وليس مُرَّا..عالمي كما هو لم يتغير, والبيوت التي ترتفع دورين أو ثلاثة مازالت كلها بعيدة, لا تقترب من السرايا المغلقة أبوابها. حتى عندما دخل عليك الرجل الذي لا يرفع عيناه في عينيك أبدا، مصطحبا صغرى بناته ليقول لك: يا ست. بنتي “نوال” عايزين لها شغل.

- ومالو ياحامد. البيت واسع، تساعد فاطمه.

- لا يا ست. نوال معها الدبلوم.

نظرت إليه. كما هو، كما عهدتيه لم يتغير, وهو يضع في حجرك حبات الجميز أو حفنة من أوراق الجوافة لأمك المصابة بالبرد, ويتلفت حوله قبل أن يخرج من “سيالته” رمانة:

- تغلي قشرها هتروق على طول.

وبمجرد أن يراك مارة أمام السرايا تسيرين بحذر خائفة من الكلاب، ينادي عليك:

– عدي ما تخافيش.

ويسألك عن يحيى:

– بيقولوا شاطر في التعليم .

ويستطرد – البيه إداني أوضه واسعه، ومبلطه، وفيها حوض وحنفيه، وإنت بس اللي هتـنوريها.

كان عريسا مناسبا، بل أكثر من مناسب. لكنك رفضتيه عندما تقدم لأبيك لأنه “فشار” وكذاب، أعطاك فردة حلق وادعى أن “أسمهان” كانت ترتديها عندما سقطت بسيارتها في الترعة وهي في طريقها لرأس البر وعندما عرض التلفزيون فيلمها الأخير “غرام وانتقام” وكان الحلق يزين أذنيها ضحكت وقلت:

- الحمار بيفوِّل علىَّ.

حجرته!! الآن ترينها حجرة ضيقة، وتتعجب السيدة التي تسكن السرايا، كيف يعيش فيها ولدان وبنتان، وتتماهين مع زوجته، وتتغاضين عن سرقاتها للبيض أو الفراخ.

- حرام هما بيعملوا بيها ايه؟! بياكلوا.

وتسأليه: عايزها تشتغل فين يا حامد؟

- في مشغل الملابس، وأنا طول عمري خدامك.

“طول عمري خدامك”! لكن ابنتي لا.

عليك أن تعترفي.. التغيير أصبح قريبا منك، استقيظت على يده:

– ميعاد الدواء يا مدام.

شابة ترتدي فستانا أبيض، وتلم شعرها بإيشارب من اللون نفسه، تسند ظهرك بمخدة، وحبيبة وراوية أمامك، تدعكان يدك: سلامتك يا ماما: إيه اللي حصل؟ ضغطك ارتفع! لكن هذا أمر طبيعي في سنك.

في سني؟ أي سن؟ الخمسون.. الستون ..السبعون ..

في الخمسين أو بعدها قليلا، تشعرين أنك تتحررين من تبعية جسدك للعالم، تتخففين من نظرات الآخرين، من حصار عيونهم. سيدة خمسينية تبعثين الهيبة والوقار. تتلفتين كما يحلو لك، دون أن تلمز حركاتك، أو تنسب للشيطان.

الآن أنضم إلي عالم الجدات، ولدت حبيبة في نفس العام الذي انقطعت فيه عني الدورة الشهرية.

لا تتصور حبيبة مقدار امتناني لها، وهي تكتب في خطاباتها عن أشياء لا أعرفها، ثقتها تدفعني لأن أبحث, ثقتها في قدرتي على تفهم الاستنساخ، البويضة, تفريغ الخلية. تعتقد أنني أستوعب كل هذه الأشياء الجديدة، تعاملني كشخص بالغ رشيد، ولست مجرد البنت التي لا ينتبه لها أحد..البنت التي تجلس على مصطبة بجوار أمها، تعدد على المتوفين، وأنا ذاهلة، بكائي دائما صامت فمن يسمع لبكاء طفلة هي ابنة المعددة وسط الصراخ والعويل؟ نمى لدىَّ شعور أن حزني دائما أقل من حزن الآخرين، فلتكن بكائياتي صامتة، ويوم ماتت أمي كان بكاء النسوة صامتا دون عويل أو نواح. لم أشعر أنها ماتت إلا حين جاءت قريبة لنا بطبق به بامية، لماذا أكره البامية ؟ كنت جائعة لكنها لم تكن بامية أمي.. قرونها الصغيرة, تسبيكتها، لم تكن بها رائحة أمي, حينها أدركت أنها فعلا رحلت فبكيت. لكنها لم تخذلني، تأتيني في مساءاتي، تشرف على تعليمي شئون البيت، ذاكرتي تستحضرها في كل الأوقات، لم يصدق أحد أن بنت السابعة تستطيع أن تطبخ وتكنس، أفعل كل ما تفعل، شيء واحد لم أقدر عليه، آخذ الرحمة من النساء أيام الخميس والأعياد.

توقظك تكبيرات العيد من ميكرفونات زاعقة تكبر وكأن الله لا يسمع. إن أنكر الأصوات لصوت الحمير قالها الشيخ “عبد الجواد” وهو يهذب صوت الولد “على”. يخنق الصوت الزاعق سكينتك، ويسلب منك فرحة العيد، وزهوة الفستان الجديد، والعيدية المتوقعة، تحاولين النوم، لكن البنت ذات الضفائر المشدودة تجذبك من سريرك، تطوف بك على البيوت المفتوحة، تقودك إلى الوسعاية المجاورة للنيل، فيصطبح وجهك بنسمة باردة، تظل ملاصقة لجلدك، تتغير الألوان، والضباب الخفيف يكسو الخضرة الأبدية الساكنة على حواف النهر، الذي يسير مطمئنا، لا نرجو منه هذا العام فيضانا غامرا, يأمن الرجال النهر بعد التعلية الأخيرة للجسر، ويملأهم فرحة التغلب وبهجة الانتصار، بعد سنوات سيصير النهر وديعا وساكنا أنهكه طول الرحلة عبر آلاف الكيلومترات. تشاهدين رحلته محفورة في خريطة، تحتل صفحة واحدة من كتاب الجغرافيا لعاطف، صفحة واحدة، ومجرد خط طويل متموج لا يستقيم. يأتي النهر في نهاية المشوار مثقلا بأيامه وأسراره، حاملا وجوه وأرواح من مر بهم، والسؤال الذي لا أعرف له إجابة، هل يختلف طعم ماء النهر عند منابعه التي شاهدتها في برنامج “عالم الحيوان” عن مصبه الذي ينتهي إلينا؟ لا أحد يعرف الإجابة، وأحيانا تنقلب الإجابة إلى سؤال لا أفهم مقصده: “من يملك كفا لا يتسرب منه الماء أو يتبخر، فيحمل حفنة من هنا إلى هناك ليقارن على حق”. هكذا تردد ستي آمنة التي يكتمل طعم العيد بزيارتها، بابها دائما مفتوح ندلف إليه في أي وقت، تمنحنا وجها بشوشا وريقا حلوا وسخاء ينبسط أمامنا، أدخل مع الأولاد، نسلم عليها، نقبل يدها المعروقة، أرفع رأسي وأقبل وجهها، جلدها الطري الندي، تقبلني وتسألني كما عادتها مع الجميع من؟ نظرها الضعيف لا يحدد من نحن، أو ربما هو غبشة الصباح والضوء الخافت، والأكثر احتمالا أنها ملامحنا، التي تتغير من عيد إلى عيد.

- حَسنة بنت حسين الفقي.

تقبلني وتخرج من سيالتها “نكله”، وتمد يدها بالطبق الصاج المملوء بالتوفي والفول السوداني، الطبق من الصاج الأبيض، غويط، في أسفله خرم صغير لا يسقط ما بالطبق لكن الطلاء يتآكل، وعلى الراكية تدفئ الخبز وتمنح كل واحد رغيفا وقطعة جبن، تصنع شايا وتصبه في أكواب تعاملنا كما لو كنا كبارا، أتدفأ بطعم الشاي وأحلم هل سأكون يوما مثلها؟ لكن التجاعيد لما جاءتني، وجاءني الشال الأبيض لم يعد هناك أولاد يسيرون مسافة طويلة، ويخترقون ممر الحديقة. وربما كانت البوابة مغلقة، لا يستطيع أحد اقتحامها و”راوية” تصيح:

- هتلمي العيال عندنا؟ حَسنتهم ياخدوها في الجامع.

فتنكمش البنت ذات الضفائر المشدودة، ويلتسع لسانها مع الرشفة الأولى من كوب الشاي، ويزعق خطيب المسجد الجديد بوصاياه العشر، وأنت تغالبين تحنانك إلى الجرجير والفجل وقطعة خيار طازجة، تمسحينها في جلبابك، وتفركين طينها الندي في يدك، ويختم الشيخ وصاياه بالوصية الأهم: أيها النساء أنتن معظم أهل النار لا لأنكن تكفرن بالله ولكن لأنكن تكفرن بالعشير قالوا :وما العشير يا مولانا قال: الزوج.

وقبل أن تنهضي وتقبلي يد السيدة مرة ثانية، تمد يدها لك بلفة، تطبطب على كتفك – سلمي لي على أمك.

تعرفين جيدا ما باللفة, تحملينها، تتدلي بها يدك بالقرب من فخذك، لطخة تفسد فستان عيدك، يسرع الأولاد، تتباطئين، وعند أقرب حائط تلقينها من يدك, تنفك الورقة وتظهر وحدات الكعك، تفرين منها لكنها ستظل تطاردك…

بأي عمر نفتدي عقدنا الصغيرة؟

كعك العيد من ضمن أشياء كثيرة لم تكن ببيتنا, كل عائلة ترسل طبقا أو اثنين فتتجمع لدينا أشكال وأنواع عديدة، فهل يمكن للبنت التي كانت أهم سماتها أنها متفهمة، أن تطلب من أمها كعكا له نكهتهم ودقيقهم وسمنهم ونقوشهم ورائحة أمها؟ لم يكن لها أن تتذمر، وهي تعرف أن تكاليفه يمكن أن توفر لأبيها ثمن “كيلة” قمح أو أكثر. وجاء اليوم الذي أصبح لها كعكها, أول عيد يمر بعد زواجها, اشترت كل أنواع النقوش, ولسنوات طويلة تتفنن في عمله وتحشيه بالملبن والعجمية, كانت أول من قرأت عن “المعمول”، وقدمته لضيفاتها والمهنئات بالعيد، وكل واحدة تسألها عن الوصفة.

تجتمع حولها الشغالات، تتأكد من نظافة ملابسهن, وربطة الرأس البيضاء التي تلم الشعر. تبس العجين بيدها، تشرف على النقوش، ومع السنين تشكل حصانين وأقواسا وأهلة لمنير وعاطف، وعروسة ونجوما لراوية وحبيبة، وحينما يخرج أول صاج من الفرن، متوهجا ومتفتحا، ورائحة السمن البلدي تغلف المكان، وتخبر عن جودته, تطلب من “أم علي” تذوقه، تراقب وجهها:

– بيدوب في البق ياست حسنه. تسلم إيدك.

تهجم البنات على الصاج ….

تجهز طبق الكعك، ترشه بالسكر البودرة، ترفعه إلى فؤاد بينما يرتدي ملابسه استعدادا لقضاء السهرة الرمضانية, تمسك واحدة وتقربها من فمه، فيقبل يدها ويقول: “تسلم يدك”. تلاحقه بكعكة ثانية: “علشان خاطري”. فيقضم نصفها، وبعد أن ينزل، ويغلق الباب تعطي الطبق لإحدى البنات دون أن تتذوقه.

الحقيقة إنني لم أحب الكعك ولن أحبه.. هل تستريحون إذا قلت لكم إن الكعك عقدة طفولتي وحرماني؟ لا بأس، استريحوا، لكني لن أترككم لهذه الابتسامة الشامتة وسخريتكم… طبعا شبع من بعد جوع. فأنا أمتلك شجاعة الاعتراف بعقدي القديمة وأستطيع أن أحصيها:

1- الكعك.

2- الكلاب السوداء.

3- عيدان الذرة.

فهل تملكون أنتم ذلك؟ سأترك لكم جزءا أبيض، سودوه بعقدكم القديمة هيا:

1-

2-

3-

يتبع