Tuesday, August 26, 2008

أثـر الفــراشــة ... لا يـزول !


أثر الفراشة» لمحمود درويش ... يوميات أخيرة

دمشق - إبراهيم حاج عبدي ــ الحياة - 26/08/08//

في نص بعنوان «بقيَّةُ حياة»؛ مدرج ضمن كتاب «أثر الفراشة» (دار رياض الريس)، وهو الأخير الذي صدر للشاعر الراحل محمود درويش، نقرأ: «إذا قيل لي ستموتُ هنا في المساء/ فماذا ستفعل في ما تبقَّى من الوقت؟/ ـ أَنظُرُ في ساعة اليدِ/ أشربُ كأس عصيرٍ/ وأَقْضُمُ تفاحةً/ وأُطيلُ التأمُّلَ في نَمْلَةٍ وَجَدَتْ رِزْقها...»، إلى أن يصل إلى المقطع الأخير: «أُمَشِّطُ شَعْري/ وأرمي القصيدةَ: هذي القصيدة/ في سلَّة المهملات/ وأَلبسُ أحدث قمصان إيطاليا/ وأُشيَّعُ نفسي بحاشيةٍ من كمنجات إسبانيا/ ثُمَّ/ أمشي/ إلى المقبرة»!

ولئن مشى درويش إلى المقبرة، كما كتب، غير أن القصيدة التي زعم أنه رماها في سلة المهملات وجدت مكاناً آخر استقرت فيه، إذ سكنت ذاكرة وقلوب الملايين التي ودعت شاعرها، في حين بقيت قصيدته، منذ «أوراق الزيتون» ديوانه الأول، وحتى «أثر الفراشة»؛ كتابه الأخير، نغمة سحرية خالدة ترمز الى شاعر استثنائي. درويش من الشعراء المعاصرين القلائل الذين استطاعوا الارتقاء بمنزلة الشاعر إلى مرتبة «النجومية». ففي الوقت الذي عزف الجمهور عن ارتياد الأمسيات الشعرية، كان درويش قادراً على جذب الآلاف لحضور أمسيته، حتى أن منظمي أمسياته، في دمشق على الأقل، كانوا يستنجدون بالصالات الرياضية الواسعة كي تستوعب الجمهور الذي يرغب الإصغاء إلى كلمات شاعره الفاتنة.

يدون درويش في هذه النصوص يومياته خلال السنتين الأخيرتين، وهي نصوص تنوس بين الشعر في إيقاعه واختزاله ورقّته ودعته... وبين النثر في رحابته ومرونته وسلاسته. وليس هذا المزج بين الشعر والنثر غريباً على قلم درويش الذي سعى، في جانب عريض من تجربته، إلى تطبيق مقولة جده أبي حيان التوحيدي: «أحسن الكلام ما قامت صورته بين نَظْمٍ كأنه نثر، ونثرٍ كأنه نظم».

بهذه اللغة الطيعة المتأرجحة بين الشعر والنثر والتي عرف درويش كيف يقطف ثمارها الشهية، يؤلف دفتر يومياته من دون إسراف أو ضجيج، وكأنه يخشى على اللغة من النضوب، وعلى الوصف من الابتذال. كل حدث عابر، مهما بدا بسيطاً، هو مشروع نص أو قصيدة، بيد أن الوصول إلى تلك القصيدة لا يكون سهل المنال، فـ «الطريق إلى المعنى، مهما تشعب وطال، هو رحلة الشاعر. كُلَّما ضللته الظلال اهتدى»! ويجهل درويش، على رغم ذلك، أي معنى، أو تعريف محدد للشعر، إذ يقول: «الشعر... ما هو؟ هو الكلام الذي نقول حين نسمعه أو نقرأه: هذا شعر! ولا نحتاج إلى برهان».

يظهر درويش في هذا الكتاب كشيخ وقور، خبر مسالك الأيام الوعرة والقاسية وذاق طعم الألم والحرمان والمنافي وصادف الفرح خلسة. يتأمل تفاصيل الحياة الصغيرة من حوله، يلامسها برفق ليترك وراءه أثراً خفيفاً، كـ «أثر الفراشة» على الزهر، ثم يستشف رحيقها على شكل نص غارق في العبق. يسرد ذكريات في هذه المدينة أو تلك، فيتحدث عن مدريد وقرطبة وباريس وبيروت وعن غابة سكوغوس في ضواحي استوكهولم حيث زار صديقه الشاعر والروائي الكردي السوري سليم بركات الذي لا يفارق تلك الغابة مذ صار جزءاً من المشهد، «محاطاً بطيور الشمال: العقعق والغراب والزرياب والسمان... صادقها ريشاً ومنقاراً وهجرة، ومنحها صفات كردية من مشتقات القلق، لا ليكسر العزلة، بل ليؤثث شروط الإقامة في البعيد». وفي الرباط يكتب درويش: «من تحية إلى تحية، يمشي الشاعر على الشارع، كأنه يمشي في قصيدة غير مرئية، يفتتحها شيخ مغربي ينحني على كسرة خبز... ينفض عنها التراب، ويقبِّلها ويَدَّخرها رزقاً للطيور في ثغرة جدار». وعن حيفا يقول: «حيفا! يحق للغرباء أن يحبُّوكِ، وأن ينافسوني على ما فيك، وأن ينسوا بلادهم في نواحيك، من فرط ما أنت حمامة تبني عشها على أنف غزال!».

ويتوقف الشاعر بالقرب من صبار نبت على أطلال قريته «البروة»: «الصَّبَّار الذي يسيَّج مداخل القرى كان حارساً مخلصاً للعلامات. حين كنا أولاداً، قبل دقائق، أرشدنا الصبّار إلى المسالك... هنالك، خلف الصبّار منازل موءودة وممالك، ممالك من ذكرى، وحياة تنتظر شاعراً لا يحب الوقوف على الأطلال، إلا إذا اقتضت القصيدة ذلك!».

ويتساءل: «كيف اكتُُشِفَت حبة القمح الأولى في سنبلة خضراء مجدولة كضفيرة. وكيف راقبها شخص ما إلى أن نضجت واصفَرَّت؟ وكيف خطر على باله أن يطحنها ويعجنها ويخبزها حتى وصل إلى هذه المعجزة؟»، وهو يهجو الخطيب، والخطابة التي طغت على يومياتنا، فيقول إن «الخطابة فن ابتذال المهارة. طبل يناجي طبلاً في ساحة كلما اتسعت، وجد الصوت متسعاً لامتلاء الصدى بضجيج الفراغ. الخطابة هي الكفاءة العالية في رفع الكذب إلى مرتبة الطرب. وفي الخطابة يكون (الصدق زلة لسان)»!

وفي حديثه عن الكتابة وشؤونها لا يقدم درويش رؤى واضحة، بل يلجأ إلى التأويل والبلاغة والكناية... إذ يقول «رياح الخريف تكنس الشارع، وتعلمني مهارة الحذف. الحذف كتابة»، وكذلك يقول: «الأوراق الذابلة، النازلة من شجر يتعرى، كلمات تبحث عن شاعر ماهر يعيدها إلى الأغصان»! ويقول كذلك: «الشيء الناقص في القصيدة، ولا أعرف ما هو، هو سرّها المُشِعّ. وهو، ذلك الناقص، ما أُسمِّيه (بيت القصيد)». وفي نص بعنوان «اغتيال» يصف الشاعر، في استعارات محببة، موقف النقاد من شعره، فيكتب» «يغتالني النقاد أحياناً:/ يريدون القصيدة ذاتها/ والاستعارة ذاتها.../ فإذا مشيت على طريق جانبي شارداً/ قالوا: لقد خان الطريق/ وإنْ عثرت على بلاغة عشبة/ قالوا: تخلى عن عناد السنديان/ وإن رأيت الورد أصفر في الربيع/ تساءلوا: أين الدم الوطني في أوراقه؟».

ولا ينسى الشاعر وسط هذا الاحتفاء بالعادي والعابر تلك الجراح العميقة من فلسطين حيث روتين القتل اليومي، إلى العراق حيث يتوقف في نص مهدى إلى الشاعر العراقي سعدي يوسف «... وليل العراق طويل. ولا يبزغ الفجر إلا لقتلى يصلُّون نصف صلاة/ ولا يكملون السلام على أحد... فالمغول/ يجيئون من باب قصر الخليفة في كتف النهر،/ والنهر يجري جنوباً جنوباً، ويحمل أمواتنا/ الساهرين إلى أقرباء النخيل». لطالما عرف درويش بنزعته الإنسانية التي سعت إلى رفع البسطاء والمهمشين والمضطهدين من هامش الحياة، ووضعهم في متن القصيدة: «لو كنت صياداً/ لأعطيت الغزالة فرصة أولى/ وثانية/ وثالثة/ وعاشرة،/ لتغفو.../ واكتفيت بحصتي منها:/ سلام النفس تحت نعاسها.../ لو كنت صياداً/ لآخيت الغزالة.../ «لا تخافي البندقية/ يا شقيقتي الشقية»/ واستمعنا، آمِنَيْن، إلى/ عواء الذئب في حقل بعيد! والى جانب هذه النزعة الأخلاقية النبيلة، كان درويش شخصاً خجولاً، وهو، هنا، يعترف بذلك، إذ يقول في نص «بحياء»: «بحياء أحيا، كما لو كنت ضيفاً على غجري يتأهب للرحيل».

126 نصاً تبوح بالهموم والانكسارات الصغيرة والكبيرة. تروي حكاية شاعر تغنى بشدو الكناري وبهشاشة زهر اللوز مثلما انتصر لقضية وطن وشعب. وبهذه النصوص المكتوبة بمداد اللوعة، والحنين حيناً وبحبر المرح والخفة أحياناً أسدل درويش الستار على تاريخ شعري حافل وغني بدأ منذ ستينات القرن الماضي وحتى لحظة الرحيل الحزين... ليعود في كل مرة بهدية ثمينة لقارئ حصيف تحتم عليه، منذ الآن، أن يعود إلى سيرة «عاشق من فلسطين» ليعزي نفسه بقصائد الغائب.