Sunday, July 29, 2007

اقــرأ .. القعيد


يوسف القعيد ـ أهرام الاثنين 30 / 7

الأمر الجوهري الذي أحب التوقف أمامه أن في مصر ـ هنا والآن ـ حالة من الاهتمام بالكتاب‏.‏ وهو من الأمور المطلوبة لدرجة الالحاح‏.‏ لأن الكتاب يتعرض للاهمال‏.‏ وأيضا فإن عادة القراءة ليست من ثوابت الشخصية المصرية‏.‏ أو ربما كانت‏.‏ وتراجعت‏,‏ لدرجة أن الدكتور لويس عوض قال في منتصف القرن الماضي إن القاهرة تكتب‏.‏ وبيروت تنشر‏.‏ وبغداد تقرأ‏.‏ لقد تم حذف كلمة مهرجان هذا العام‏.‏ وهذا يجعلنا نأمل في دوام واستمرار المشروع علي مدي أيام العام كله‏.‏ لأن الاحتفال كان صيفيا فقط‏.‏ والقراءة حالة علينا أن نجعلها طبيعة ثانية للانسان المصري‏.‏ ويوشك الشعار أن يتغير من القراءة للجميع‏.‏ إلي القراءة للحياة‏.‏ أي أن القراءة مشروع من أجل الحياة‏.‏ ومن يقرأ يحلم‏.‏ ومن يحلم سيحب الحياة ويحافظ عليها ويدافع عنها‏.‏ وعلينا ألا ننسي أن كل تقدم حققته البشرية منذ فجر التاريخ وحتي الآن‏.‏ بدأ كحلم‏.‏ بالحلم يتجاوز الانسان واقعه‏.‏ ليس بالهروب منه‏.‏ ولا الالتفاف حوله‏.‏ ولكن بالخروج من أسر مشاكله‏.‏ ومواجهة همومه‏.‏والانتصار علي إحباطاته‏.‏ الاعلان الذي يدعو المصريين للقراءة أراه كثيرا في التليفزيون المصري وفي بعض التليفزيونات العربية‏.‏ يقوم به نجوم المجتمع‏.‏ الذين يطلبون منا القراءة‏.‏ ولكن لا أحد منهم يمسك بكتاب‏.‏ وكأنه يطلب من المواطن البحث عن شيء لا وجود له‏.‏ أو يوصيه بفعل لا توجد الأداة الرئيسية لقيامه وهي الكتاب‏.‏ لا اعتراض لدي علي أن يقوم لاعب الكرة بذلك‏.‏ لكن هل يقرأ لاعب الكرة نفسه بعيدا عن هذه المسألة؟ هل يمارس هو نفسه الفعل الذي يدعوني للاقبال عليه؟ ثم من الذي حشر المطرب الهارب من التجنيد في هذا الشيء الجميل؟ صحيح أنه قضي فترة العقوبة‏.‏ ولكن الهروب من خدمة الوطن جريمة معنوية لا تسقط بالتقادم‏.‏ربما راهن صناع الاعلان علي أن هذا المطرب له شعبية كاسحة مكتسحة بين الصبية والمراهقين والشباب الذين يمثلون نصف الحاضر وكل المستقبل‏.‏ ولذلك جاءوا به حتي يتأكدوا من اتجاه الشباب للقراءة‏.‏ ولكنهم لو تابعوا حفلة محمد منير علي مسرح الأوبرا‏.‏ وطلب نفس الصبية والمراهقين والشباب من نفس المطرب النزول من علي المسرح‏.‏ وعندما لم ينزل طلبوا من محمد منير أن يغني له‏:‏ خلي السلاح صاحي‏.‏ تجعل الانسان يقول لنفسه‏:‏ عمار يامصر‏.‏ وأن كل تصوراتنا عن هذا الجيل ربما كانت غير صحيحة‏.‏ وعلي كل منا أن يعيد النظر فيما يعتقده عن هؤلاء الشباب‏.‏ لكن تبقي مشكلة الاعلان والدعوة للقراءة‏.‏ إنها ربما سبقت وجود الكتاب في الواقع‏.‏وأنا أقصد كتب القراءة للحياة ـ أتمني تغيير الشعار علي الكتب عندما تصدر ـ وأقصد كتب مكتبة الأسرة التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب‏.‏ والمشروعان يكملان بعضهما‏.‏ أو هذا هو المفترض والمتوقع‏.‏ نحن لم نر بواكير أو بشاير لا القراءة للجميع ولا مكتبة الأسرة‏.‏ في اليابان شاهدت المواطن الياباني في محطة القطار يشتري تذكرة السفر‏.‏ وبعدها يشتري كتابا أو مجلة من كشك مجاور لقاطع التذاكر‏.‏ وشراء الكتاب يسبق شراء الطعام والشراب‏.‏ رغم أن القطار فيه سينما وفيديو‏.‏ لكن القراءة طبيعة ثانية للانسان الياباني‏.‏ وفي المقاهي الصغيرة‏.‏ يسأل الزبون عن الصحف اليومية قبل أن يسأل عن مشروبه ويقرأها ويعيدها للمقهي‏.‏ لدرجة أنه يعطي ظهره للآخرين‏.‏ ووجهه للجريدة‏.‏ ووراء الجريدة الحائط‏.‏ لم يأت للمقهي للثرثرة‏.‏ ولا لعب الطاولة‏.‏ ولا الكوتشينة‏.‏ ولكن لتناول مشروب‏.‏ ومع المشروب يقرأ الجريدة الصباحية‏.‏ يقرأها بعناية‏.‏ لا يبحث عن الصور‏.‏ ولا يجري وراء الرسومات‏.‏ ولكنه يقرأ‏.‏ مع العلم بأن التطلع في الصورة‏.‏ والتمعن في الرسم هو أيضا قراءة‏.‏عندما كنت في اليابان فوجئت بمهرجان خاص بالأنهار‏.‏ الكتب المكتوبة عن الأنهار‏.‏ المقاهي الخاصة بالأنهار‏.‏ وأدركت أن هذا الشعب يختلق أي فرصة وأي مناسبة من أجل تذكر الكتاب‏.‏ الذي لم ينسه أحد‏.‏ والاحتفاء به‏.‏ بل إنك لو سافرت إلي قرية الروائي كاوباتا ستكتشف أن القطار اسمه‏:‏ راقصة أيزو‏,‏ وهو عنوان الرواية الأولي التي كتبها كاوباتا‏.‏وفي قرية شكسبير استيراد فورد القريبة من لندن‏.‏ حتي كيس البطاطس عليه أبيات من شعر شكسبير‏.‏ وكل ما يباع في المدينة من هدايا له علاقة بشكسبير‏.‏ سواء بشعره أو مسرحه أو كل ما يتصل به‏.‏التحدي الحقيقي هو وصول الكتاب إلي القري والكفور والنجوع‏.‏ تلك التي لا تصل إليها الصحف في يوم صدورها‏.‏ وإن وصلت فتكون لها أسعار خاصة‏.‏ لأن هناك من ذهب إلي البندر وأحضرها‏.‏ وبالتالي فهو يحمل علي سعر الصحيفة مصاريف ذهابه وعودته‏.‏ وإن كان هذا يحدث مع الصحيفة فما بالك بالكتاب الذي لا يصل‏.‏ وإن وصل يكون وصوله معجزة‏.‏لست من الذين لم يجدوا في الورد عيبا فقالوا له يا أحمر الخدين‏.‏ ولكني أحلم ـ دائما وأبدا ـ أن نجعل من القراءة أسلوب حياة‏.‏ وأن ننشئ الأجيال الطالعة علي حبها‏.‏هل يصبح المشروع مناسبة بأن ننادي بمكتبة في كل بيت‏.‏ ومكتبة في كل حي‏.‏ ومكتبة في كل مدرسة‏.‏ قال لي إبراهيم المعلم إن الجنين يمكن أن يشعر بالرغبة في القراءة حتي وهو في بطن أمه‏.‏ وإن الصلة مع هذا الجنين ممكنة‏.‏ فكيف نقرأ له وهو جنين؟ ليكون أول فعل يقبل عليه بعد ولادته هو القراءة‏.‏ وقبل أن يتعلم القراءة‏.‏ تقرأ له أمه‏.‏ أو يقرأ له أبوه‏.‏ وهذا يتطلب أن نمحو أميتهما إن كانا من الأميين‏.‏ هل يصبح شعار القراءة للحياة مقدمتنا لمواجهة الأمية؟‏!‏ وتلك مسئولية مجتمع بأكمله‏.‏ الدولة والناس‏.‏ ومنظمات المجتمع المدني‏.‏ والجمعيات الأهلية‏.‏ والأحزاب السياسية‏.‏ لأنه من العار علينا أن تجتمع الأمية مع الكمبيوتر والانترنت والموبايل‏.‏ كان من المفروض ألا تكون في مصر أمية قبل دخولنا عصر هذه المنجزات العلمية‏.‏

Monday, July 23, 2007

عن السيرة الذاتية لمفكر أمين



بقلم محمد البرغوثي المصري اليوم : ٢٣/٧/٢٠٠٧
«ستة أشخاص ملأوا حياتي بالبهجة»
لم أندهش وأنا أقرأ هذه الجملة في مقدمة كتاب «ماذا علمتني الحياة؟» للدكتور جلال أمين، أستاذ الاقتصاد المرموق والكاتب الكبير، الذي يمتلك قدرة فائقة علي تناول أعقد الموضوعات السياسية والاقتصادية والفكرية بأسلوب شديد البساطة.
«ماذا علمتني الحياة؟».. كتاب عن السيرة الذاتية لمفكر مصري، عاش حياة طويلة حافلة بالأحداث العامة والخاصة، بدأ في تدوين فصوله قبل عشرين عاماً، ثم أصدره مؤخراً عن دار الشروق في مجلد يقع في حوالي ٤٠٠ صفحة من القطع الكبير، لا يمكنك - كقارئ - أن تملك نفسك من اللهاث عبر سطوره وصفحاته وفصوله، وأنت تتابع تطور حياة المصريين، من خلال حياة أسرة تعد نموذجاً مثالياً للطبقة المتوسطة المصرية، بكل ضعفها وقوتها، ومن خلال راصد موهوب،
امتلك ثقافة رفيعة، وعقلاً راجحاً، وشخصية قوية، منحته ميزة أن يتحدث أو يكتب، فإذا بما يقوله أو يكتبه، هو ذاته الذي كنت تشعر به أو تتمني أن تعبر عنه بهذه البساطة المذهلة، وإذا الذي كان مستعصياً علي الإدراك، يصبح في متناول فهم وإدراك أقل الناس ثقافة.
يبدأ الدكتور جلال أمين سيرته الرائعة بحكايتين، تحمل كل منهما مغزي عظيماً، الحكاية الأولي أنه قرأ مرة قولاً منسوباً لنحات مشهور، مؤداه أنه كان يفرح فرحاً عظيماً، عندما يصادف كتلة كبيرة من الحجر، «إذ كان بمجرد أن يراها يتصور التمثال الذي يمكن أن يستخرجه منها.. كان يتصور قطعة الحجر، وكأنها تحتوي في أحشائها علي هذا التمثال الكامن في خياله، وأن كل المطلوب منه أن يقتطع بمعوله قطعة صغيرة من الحجر، بعد أخري ويلقي بها جانباً، لكي يخرج هذا التمثال الرائع الكامن في جوفها».
ثم يقول جلال أمين: لو كان هذا التصور يعبر عن الحقيقة، لكان معناه أن النحات لا يصنع شيئاً في الحقيقة.. بل هو فقط يستبعد بعض الأشياء.. يستغني عن غير الضروري منها، ويستبقي فقط ما يستحق البقاء. ويخرج جلال أمين من هذه الحكاية بأن تمثالاً جميلاً يكمن في حياة كل منا، والمطلوب فقط هو الكشف عنه.
الحكاية الثانية أنه شاهد منذ سنوات كثيرة فيلماً بولندياً صامتاً، لا يزيد طوله علي عشر دقائق، وظلت قصته تعاوده من وقت لآخر، والفيلم يبدأ بمنظر بحر واسع، يخرج منه رجلان بكامل ملابسهما، ويحملان معاً دولاباً عتيقاً ضخماً، ويسير الرجلان في اتجاه الشاطئ، يحملان هذا الدولاب بمشقة كبيرة، حتي يصلا إلي البر في حالة إعياء شديد، ثم يبدآن في التجول في أنحاء المدينة، فإذا أرادا ركوب الترام حاولا صعود السلم بالدولاب،
وسط زحام الركاب وصيحات الاحتجاج، ولا يحتوي الفيلم بعد ذلك إلا علي محاولات مستميتة للاستمرار في الحياة، وهما يحملان هذا الدولاب الثقيل، إلي أن ينتهي بهما الأمر بالعودة إلي البحر، ومعهما أيضاً هذا الدولاب الضخم.
ويقول جلال أمين، مستخلصاً الحكمة من هذا الفيلم، إنه يتصور أن حاله وحال من يعرف، «وكأن كلا منا يحمل دولابه الثقيل، يأتي معه إلي الدنيا ويقضي حياته حاملاً إياه، دون أن تكون لديه أي فرصة للتخلص منه، ثم يموت وهو يحمله».
وهكذا، دون أدني ادعاد يؤكد مفكر مرموق، بحجم وموهبة وثقافة جلال أمين: إن هذا الدولاب هو قدر كل منا المحتوم، الذي يحكم تصرفاتنا ومشاعرنا واختياراتنا أو ما نظن أنها اختياراتنا. فأنا لم أختر أبي وأمي أو نوع العائلة التي نشأت بها أو عدد إخوتي وموقعي بينهم،
ولم أختر طولي أو قصري ولا درجة وسامتي أو دمامتي، أو مواطن القوة والضعف في جسمي وعقلي. كل هذا علي أن أحمله أينما ذهبت، وليس لدي أي أمل في التخلص منه.
ورغم هذه «الحتمية» التي يوحي جلال أمين لقارئ سيرته، أنها خلاصة ما تعلمه من الحياة، فإن القارئ سيصادف في كتابه، أرفع ما يمكن لإنسان أن يفعله بكتلة حجر تصادف أنها حياته، لكي يكشف عن جمال التمثال الكامن بداخلها، كما سيصادف إمكانية العودة إلي الرحم الذي جاء منه، دون أن يراكم في دولابه الثقيل شيئاً من الادعاء، أو شيئاً من العظمة الزائفة، وهذا بالضبط هو سر الاحترام والمهابة اللذين يتمتع بهما جلال أمين كإنسان ومفكر.

Wednesday, July 4, 2007

الغيطاني في الأهرام


جمال الغيطاني الحاصل علي جائزة الدولة في حوار مفتوح‏:‏تعلمت من نجيب محفوظ ان الادب مجاهدة وليس نزوة‏!‏
حوار‏:‏ نجلاء محفوظ ـ أهرام الخميس 5 /7 /2007

اختار لنفسه طريقا مختلفا منذ بداياته‏,‏ وسعي للتمرد المحسوب علي ماهو مألوف‏,‏ ولم يرض بغير الابداع رفيقا دائما في الحياة‏,‏ وقدم للأدب العربي ابداعات متميزة ترجمت إلي العديد من اللغات منها الزيني بركات ورسالة البصائر والمصائر‏,‏ وقائع حارة الزعفران‏,‏ رواية التجليات والتي حصل بها علي جائزة لورباتليون الفرنسية بالاجماع وتمت مقارنتها بالكوميديا الالهية لدانتي وعوليس لجيمس جويس‏..‏انه الأديب جمال الغيطاني الذي التقينا به في المنتدي الأدبي وكان هذا الحوار‏.قمت بكتابة أول قصة بعنوان نهاية السكير وانت ابن الرابعة عشر‏..‏ هل تغيرت ملامح مشروعك الابداعي‏.‏ واين تقف الآن من هذا المشروع؟‏!..‏علي المستوي الاستراتيجي لم تتغير فقد كنت اطمح الي تحقيق خصوصية النص المكتوب مرتبطة بالثقافة العربية والمصرية‏.‏ ولذا كتبت اوراق شاب عاش منذ الف عام ثم الزيني بركات وغيرهما وعلي المستوي التكتيكي يمكن القول انه تغير فهناك مراحل مثل الزيني بركات والتجليات بدءا من شطح المدينة التي تمثل مرحلة ثانية للخروج عن تقاليد السر والقديم الي مرحلة جديدة مختلفة تماما وفي دفاتر التدوين اتجهت الي عمق يتعلق بالتراث المصري القديم ومن رواية سفر البنان وما تلاها تعد مرحلة مفتوحة‏..‏تميزت معظم اعمالك بالغوص في التاريخ‏,‏ هل كان السبب الهروب‏(‏ الصريح‏)‏ في مواجهة الواقع أم تغليفه بالتاريخ لضمان قدر اكبر من الحرية؟‏!.‏ـ هل ذكر ما جري وبيع مصر في المزاد‏,‏ وهل التجليات هروب من الواقع‏..‏ لقد لجأت الي التاريخ لاهتمامي بقضية الزمن وسؤالي الكبير الذي صاحبني منذ كنت طفلا‏..‏ اين ذهب الأمس‏,‏ وهل يمكن إعادته ثانية‏..‏ هذا السؤال ظل بلا اجابة ولن اجد له اجابة‏,‏ ربما كان هو المحفز لمحاولة ايجاد الاجابة احيانا‏..‏ سؤالي كان خاصا بالزمن‏,‏ وما اكتبه يعد هما اساسيا يتعمق بداخلي مع التقدم في العمر وفوات معظم السنين‏,‏ فالكتابة مقاومة للعدم والفناء‏,‏ انا اكتب لابقي احفر اسمي علي الجدار لكي اظل موجودا‏..‏اما عن اسقاط الواقع علي التاريخ فقد ينطبق علي رواية الزيني بركات لكنه لم يكن هروبا يقدر ما كان ادائه للقهر في مطلقه‏,‏ لذا لجأت الي العصر المملوكي‏,‏ لانه مازال مستمرا‏,‏ فلم اغترب فيه لانه مازال قيمة موجود فنحن نرد جملة فلان بتاع فلان وهو ما يعني انه مملوكه‏,‏ وعندما يحصل أحد علي منصب يأخذ المقربين اليه‏,‏ بل ان نفس الاسباب هي التي ادت الي هزيمة الجيش المملوكي عام‏1517‏ هي نفس الاسباب التي أدت الي هزيمة يونيو‏..‏انت منغمس ابداعيا ومهنيا في المشهد الابداعي المصري‏..‏ نريد رؤيتك له بدون رتوش أو اي محاولة للتجميل‏..‏ـ الوضع الآن في مصر مأساوي حيث توجد مواهب لا يعرفها اي بلد اخر ولكنها تأتي من المجهول وتذهب الي المجهول‏.‏ بينما سبقتنا البلاد العربية الناهضة في مجال الثقافة لانهم يحسنون التعامل مع المواهب لديهم حيث يدركون بذكاء ان المبدع هو واجهة البلد‏,‏ واتعجب واتساءل باي مبدعين ستواجه مصر العالم بعد عشر سنين‏,‏ أي بعد ذهاب جيل الستينيات الذي تكون ضد التيار‏..‏ الاجيال الجديدة تعسة مع انه توجد بينهم مواهب افضل من جيلنا وتوجد غزارة في الابداعمن ناحية الانتاج يقابلها هدر لهذا الابداع من ناحية عدم الاستفادة منه وعدم وجود جهود لابرازه أو تهيئة الظروف الي وجود اسماء كبيرة‏..‏ لذا تعم حالة من الفوضي من المشهد الثقافي لانعدام المقاييس وعدم وجود حركة نقدية فعندما كتبت أوراق شاب عاش من ألف عام كانت هناك اسماء نقدية لها مصداقية‏,‏ فعندما يكتب عنك لويس عوض فكأنك اخذت ورقة دمغة لاعتمادك كأديب لقد تم تعييني في اخبار اليوم بسبب مقال كتبه عني محمود أمين العالم ولم أكن اعرفه عندئذ‏.‏أما الآن فالحياة الثقافية زاخرة بالصفقات والفساد المستتر فتجد أحدهم يكتب قصة قصيرة تافهة‏,‏ فينال المديح في تبادل للمصالح بصورة علنية فجة وينذر من لديه مصداقية نقدية‏.‏وبالطبع يوجد بعض النقاد داخل الجامعة لكنهم لم يخرجوا الي الحياة الثقافية العامة‏,‏ فلا يوجد لدينا لطيفة الزيات ولا رجاء النقاش جديد‏,‏ ولامندور‏.‏ اعرف أديبا شابا مبدعا للغاية ترك الادب ويقوم برعي الاغنام في الصعيد وهناك عشرات الاسماء التي كانت تبشر بالأمل اختفت بسبب ظروف الحياة المادية لقد قاوم جيلنا بسبب ان ظروفنا كانت أفضل علي كل النواحي النقدية والمادية والمجتمعية‏..‏ قربك الشديد من نجيب محفوظ‏..‏ ماذا اضاف لك‏..‏‏-‏ بعد وفاته لزمت الصمت‏,‏ علي المستوي الانساني انا محصلة نجيب محفوظ‏,‏ أبي أتي بي للعالم‏,‏ ونجيب رفقني وعلمني واعطاني القدرة‏,‏ عندما مررت بظروف صحية حرجة في عام‏96‏ كان نجيب يرسل السيدة زوجته لأقرب فندق في الساعة الحادية عشرة مساء يوميا لتتصل بي في خارج البلاد لتخبره بتقرير مفصل عن حالتي واستمر هذا الأمر مدة‏27‏ يوما وانا في المستشفي‏..‏لدي تفاصيل غزيرة انسانية ويبقي من نجيب محفوظ اعماله وآثارة تتعلق بادارة الحياة الثقافية ففي فرنسا احياء مستمر للرموز ممثلا يختارون عاما يكون فيه فيكتور هوجو كمادة مقررة في المناهج الدراسية ونقوم المجلات الأدبية باصدار ملاحق خاصة عنه‏..‏ اما نجيب محفوظ فبعد وفاته شكلت لجنة لتخليده ومر عام عليها ولانعرف ما الذي تم‏..‏ ويوجد تشابه نفسي وداخلي بيننا فيما تعلمته منه التقي عندي بخصائص نفسية مثل ان العلاقة بالأدب جوهرها مجاهدة واليست نزوة‏.‏ ونجيب اهتم برعاية موهبته بدأب النحل حتي وصل الي آخر ابداعاته احلام فترة النقاهة وهي تضاهي روائع شكسبير ورباعيات الخيام‏..‏ وتعلمت منه أن اعمل زي عمل وكأنني اعمله لأول مرة واحمد ربي أن رغبتي في القراءة تتزايد كما تعلمت منه الانضباط وتخصيص وقت للأدب ووقت للكتاب‏..‏واتمني أن أكون مثله في الرأفة والمودة والحرص علي الصداقات القديمة وقدرته علي مواجهة العالم باتزان داخلي‏,‏ بينما لدي انفجارات داخلية تؤرقني‏..‏تعرضت للاعتقال في اكتوبر‏1966..‏ هل تسببت هذه التجربة في اثرائك ابداعيا وانسانيا‏..‏ وكيف؟‏-‏ افادتني جدا واتخذت بسببها أهم قرار في حياتي وهو الا انضم لأي حزب لا علني ولاسري‏..‏ وقد تم حبسي خلالها‏40‏ يوما حبسا انفراديا مما اتاح لي الفرصة في استيطان ذاتي ومنحني القدرة علي المراجعة وكان عمري عندئذ‏21‏ عاما وكنت محظوظا حيث قمت بتحديد اولوياتي الأساسية في الحياة وأولاها الا أكون عضوا في أي تنظيم حتي لا أكون تابعا وأنا أكون حزبا بذاتي ودعمت خياراتي التي اخترتها منذ بداية حياتي ومنها الانحياز للفقراء وللعدالة الاجتماعية‏..‏هل شعرت فيها بالقهر؟‏-‏ بالطبع تعرضت للقهر حيث واجهت منظومة رهيبة تتطلب كسري ولكن عندما لم يحدث هذا الكسر ازددت قوة امام نفسي‏,‏ ولكن الذي لم اغفره انه الضابط الذي حقق معي قام بسب أمي‏..‏عندما كنت اتعرض للضرب كنت اعود سعيدا لأنهم لم ينتزعوا مني شيئا‏,‏ والحقيقة ان أصعب شيء في التعذيب لحظة انتظار التعذيب وليس وقوعه‏ لقد شغلتني فكرة الحرية قبل دخول المعتقل وكتبت عنها ولكن بعد دخوله اصبحت أكثر عمقا بداخلي بعد ان تعرضت شخصيا للقهر‏.‏تمردت علي المألوف في الكتابة الروائية والقصصية وغامرت مع المصطلحات الصوفية‏..‏ بماذا خرجت من هذه التجربة ابداعيا وانسانيا‏..‏-‏ هذه التجربة بمثابة مغامرة روحية لها اساس عندي فقد نشأت في حي الحسين‏,‏ ولدي القلق الروحي الخاص بقضية الوجود والزمان ولم يهدأ إلا بعد أن قرأت تراث الصوفية الكبار حيث وجدت أدبا موازيا للأدب البلاغي المعلن‏.‏ والأدب الصوفي به عمق ويحتاج جرأه مختلفة ونتاج معاناة ولابد من المرور بالتربية الروحية وهي جزء من عذابات التجربة الكتابية الجميلة‏..‏ وقد استفدت من التجربة من ناحية اللغة والرؤية والمعاناة التجريبية وكل هذا كان جزءا من مغامرة الابداع اللازمة للكاتب لكي يضيف الي التراث الانساني كله ومن لايفعل ذلك يصبح ناسخا وليس مبدعا‏.‏اتجهت اخيرا لتقديم برنامج تليفزيوني تناقش فيه جماليات كل من العمارة اوالموسيقي‏..‏ ما مدي صلة ذلك بإبداعك الأدب‏..‏‏
-‏ اهتمامي بالعمارة نتج عن تأمل طويل لنشأتي في الحي القديم ولا يمكن فهم مصر وروح مصر إلا من خلال فهم عمارتها وهي نهر الثقافة الخفي الذي يربط بين مراحل مصر الثقافية وبها تجليات متصلة وليست منفصلة‏.‏ ولابد من فهم المرحلة القبطية والاسلامية والقديمة بانصاف وهي لاتتعارض مع القومية او مع عروبة مصر‏.‏ واهتمامي بالعمارة نابع من اهتمامي بالموسيقي لأن الرواية ايقاع وكل عناصر الوجود أقوم بتوظيفها لخدمة الكتابة الروائية‏.‏‏قبل أن نرحل أصر الغيطاني علي توجيه الشكر لجامعة جنوب الوادي التي رشحته للجائزة وأصرت عليها لسنوات‏,‏ والشكر للمثقفين الذين أعطوه أعلي الأصوات‏,‏ ثم أهدي الجائزة راح يؤكدها لروح نجيب محفوظ‏.‏